المنصور المؤمني يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي الكومي الموحدي، أبو يوسف، المنصور بفضل الله: من ملوك الدولة المؤمنية في المغرب القصى، ومن أعظمهم آثارا. ولد بقصر جده (عبد المؤمن) بمراكش. وبويع له بعد وفاة أبيه (سنة 580هـ) وكان معه في وقعة (شنترين) فرجع إلى إشبيلية واستكمل البيعة. ووجه عنايته إلى الإصلاح، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات. وخرج عليه (ابن غانية) فقابله بجيش ضخم، فشتت شمله سنة 583 وجهز (سنة 585) جيشا من الموحدين، ففتح أربع مدن من بلاد الفرنج كانوا قد أخذوها من المسلمين قبل ذلك بأربعين سنة. وخافه ألفونس (صاحب طليطلة) وسأله الصلح، فهادنه خمس سنين. ولما انقضت الهدنة كان الفرنج قد جمعوا خلقا كثيرا من أقاصي بلادهم وأدانيها، فقابلهم المنصور وكسرهم، بعد معارك شديدة، سنة 592 وعقد معهم صلحا آخر إلى مدة خمس سنين. وعاد إلى مراكش سنة 593 فتوفى في سلا. وكان شديدا في دينه، أمر برفض فرروع الفقه، ونهى الفقهاء عن الإفتاء إلا بالكتاب والسنة، وأباح الاجتهاد لمن اجتمعت فيه شروطه، وأبطل التقليد. وإليه تنسب الدنانير (اليعقوبية) المغربية. من آثاره الباقية بمراكش إلى الآن (باب آكنا) وهو ضخم عظيم، والجامع الأعظم المنسوب إليه. وهو أول من كتب العلامة بيده من ملوك الموحدين (الحمد لله وحده) فجرى عملهم على ذلك. وبنى كثيرا من المدارس والمساجد في بلاد إفريقية والمغرب والأندلس. وبنى مستشفيات للمرضى والمجانين أجرى عليها الأرزاق. وجعل للفقهاء وطلبة العلم مرتبات. وبنى صوامع وقناطر كثيرة. وحفر آبارا للماء. وهو الذي أمر ببناء (رباط الفتح) وكان من أطبائه أبو بكر ابن الطفيل. وللسيد محمد الرشيد ملين كتاب (عصر المنصور الموحدي، أو الحياة السياسية والفكرية والدينية في المغرب من سنة 580 إلى 595-ط).

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 8- ص: 203

المنصور المراكشي يعقوب بن يوسف ين عبد المؤمن بن علي.
الملقب بالمنصور أمير المؤمنين.
أبو يوسف القيسي المراكشي.
سلطان المغرب، أمه أم ولد، ملك وعمره اثنان وثلاثون سنة وعمر بمراكش بيمارستان غريبا، أجرى فيه مياها كثيرة، وغرس فيه من جميع الأشجار، وزخرفه، وأمر له في كل يوم ثلاثين دينارا للأدوية، وكان يعود المرضى فيه في كل جمعة، وكتب إليه صلاح الدين بن أيوب يستنجده على الفرنج، وخاطبه بأمير المسلمين، ولم يخاطبه بأمير المؤمنين، فلم يجبه إلى ما طلب، ووقع بين المنصور هذا وبين الأدفونش ملحمة هائلة قل أن وقع مثلها، قتل فيها من الفرنج مئة ألف وستة وأربعون ألف نفس، وقتل من المسلمين نحو من عشرين ألف نفس وحمل من دروعهم لبيت المال ستون ألف درع، وأما الدواب فلم يحص عددها.
وكان قد أمر أن لا يفتى بفروع الفقه، وأن لا يفتى إلا بالكتاب والسنة، وأن تجتهد الفقهاء على طريقة أهل الظاهر- وإليه تنسب الدنانير اليعقوبية- وأمر بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات، وأرسل بذلك إلى سائر بلاد المسلمين فأجاب قوم وامتنع آخرون، وكان يشدد على الرعية بإقامة الصلوات الخمس ويعاقب على تركها، ويأمر بالنداء في الأسواق بالمبادرة إليها فمن غفل عنها أو اشتغل عنها بمعيشة عزره تعزيرا بليغا، وقتل في بعض الأحيان على شرب الخمر، وقتل العمال الذين تشكو الرعية منهم.
وقال القاضي شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله تعالى: وصل إلينا جماعة من مشايخ المغرب وهم على تلك الطريق مثل أبي الخطاب ابن دحية وأخيه أبي عمرو ومحيي الدين ابن العربي نزيل دمشق.
وكان محبا للعلماء محسنا إليهم، مقربا لهم وللأدباء، مصغيا إلى المديح مثيبا عليه.
وله ألف أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي: ’’صفوة الأدب’’ وديوان العرب في مختار الشعر.
ومن شعراء دولته أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن مجير الأندلسي وقد تقدم ذكره في مكانه.
ودخل عليه الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكاغي الأسود الشاعر فأنشده:

وكان يعقوب هذا صافي السمرة جدا إلى الطول، هو جميل الوجه، أعين شديد الكحل، ضخم الأعضاء، جهوري الصوت، جذل الألفاظ، أصدق الناس لهجة وأحسنهم حديثا، وأكثرهم إصابة بالظن، مجربا للأمور.
ولي وزارة أبيه فبحث عن الأحوال بحثا شافيا، وطالع مقاصد العمال والولاة وغيرهم مطالعة، أفادته معرفة بجزئيات الأمور.
ولما مات أبوه اجتمع رأي أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقدمته فبايعوه، وعقدوا له البيعة، ودعوه أمير المؤمنين كأبيه وجد، ولقبوه المنصور، فقام بالأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أبهة ملكهم، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وأقام الحدود حتى على أهله وعشيرته.
وخرج عليه علي بن إسحاق بن محمد بن علي بن غانة الملثم، من جزيرة ميورقة في شعبان سنة ثمانين، وملك بجاية وما حولها، فجهز إليه المنصور يعقوب عشرين ألف فارس وأسطولا في النهر، ثم خرج بنفسه في أول سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فاستعاد ما أخذ من البلاد، ثم عاد إلى مراكش سنة ست وثمانين، بلغه أن الفرنج ملكوا مدينة شلب وهي في غرب جزيرة الأندلس، فتجهز إليها بنفسه وحاصرها، وأخذها وأنفذ في الوقت جيشا من الموحدين ومعهم جماعة من العرب ففتحوا أربع مدن من بلاد الفرنج كانوا قد أخذوها من المسلمين قبل ذلك بأربعين سنة.
وخافه صاحب طليطلة وصالحه خمس سنين، وعاد إلى مراكش، ولما انقضت الهدنة ولم يبق منها إلا القيل، خرجت طائفة من الفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين فنهبوا، وسبوا وعاثوا عيثا فظيعا، فتوجه لقصدهم وذلك في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وجمع جيوشه من أطراف البلاد واحتفل احتفالا عظيما، وخرج إلى مدينة سلا ليكون اجتماع العساكر بظاهرها، فاتفق أنه مرض مرضا شديدا إلى أن يئس أطباؤه، فتوقف الحال عن تدبير الجيوش فحمل إلى مراكش فطمع المجاورون له من العرب وغيرهم، وعاثوا في البلاد، وأغاروا على النواحي، وكذلك فعل الأدفونش فيما يليه من بلاد الأندلس. وتفرق الجيوش شرقا وغربا.
وزاد طمع الأدفونش وبعث رسولا إلى الأمير يعقوب يتهدده، ويتوعده، ويطلب بعض الحصون المتاخمة له، وكتب إليه رسالة من إنشاء وزير له يعرف بابن الفخار وهي: ’’باسمك اللهم، فاطر السموات والأرض، وصل الله على السيد المسيح روح الله وكلمته، الرسول الفصيح أما بعد: فلا يخفى على ذي ذهن ثاقب، ولا ذي عقل لازب، أنك أمير الملة الحنيفية، كما أني أمير الملة النصرانية، وقد علمت ما عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية، وإخلادهم إلى الراحة، وأنا أسومهم بحكم القهر وخلاء الديار، وسبي الذراري، وأمثل بالرجال، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم إذا أمكنتك يد القدرة، وأنتم تزعمون أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفا ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا لا تستطيعون دفاعا ولا تملكون امتناعا، وقد حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال، وأنت تماطل نفسك عاما بعد عام، وتقدم رجلا، وتؤخر أخرى فلا أدري أكان الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعدك ربك. ثم قيل لي إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلا لعلة لا يجوز لك التقحم معها، وها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك، وأعتذر لك وعنك، عل أن تفي بالعهد والمواثيق والاستكثار من الدهر، وترسل لي جماعة من عبيدك بالمراكب والشواني والطرائد والمسطحات، وأجوز بحملتي إليك وأقاتلك في أعز الأماكن إليك. فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك، وهدية عظيمة مثلت بين يدك. وإن كانت لي كانت العليا عليك، واستحقيت إمارة الملتين، والحكم على البرين، والله موفق السعادة، يسهل الإرادة، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره، إن شاء الله تعالى.
فلما وصل كتابه إلى الأمير يعقوب مزقه، وكتب على ظهر قطعة منه: {ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون} الجواب ما ترى لا ما تسمع.
ثم استدعى الجيوش من الأمصار، وضرب السرادقات بظاهر البلد من يومه وجمع العساكر، وسار إلى البحر المعروف بزقاق سبتة فعبر فيه إلى الأندلس ودخل بلاد الفرنج وقد اعتدوا واحتشدوا وتأهبوا، فكسرهم كسرة سيعة في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ولم ينج منهم ملكهم إلا في نفر قليل.
وكان ما ذكرته في أول هذه الترجمة وأخلى الفرنج قلعة رباح لما داخلهم من الرعب فملكها الأمير يعقوب وجعل فيها واليا وجيشا، ولكثرة ما حصل له من الغنائم لم يمكنه الدخول إلى بلاد الفرنج، فعاد إلى طليطلة وحاصرها، وقطع أشجارها، وأخذ من أعمالها حصونا كثيرة. وقتل رجالها وسبى حريمها، وهدم مبانيها، وترك الفرنج في أسوأ حال.
ثم رجع إلى إشبيلة وأقام بها إلى أثناء ثلاث وتسعين وخمسمائة وعاد إلى بلاد الفرنج مرة ثالثة وفعل كفعله المتقدم فلم يبق للفرنج قدرة على لقائه وسألوا منه الصلح فأجابهم وصالحهم لمدة خمس سنين.
وعاد إلى مراكش، ولما وصل إليها أمر باتخاذ الأحواض والروايا وآلات السفر إلى بلاد أفريقية، فاجتمع إليه مشايخ الموحدين وقالوا: قد طالت غيبتنا بالأندلس، فمنا من له خمس سنين، ومن له ثلاث سنين، فأنعم علينا بالمهلة هذا العام، وتكون الحركة أول سنة خمس وتسعين. فأجابهم.
وانتقل إلى مدينة سلا وشاهد فيها من المتنزهات المعدة له، وكان قد بنى بالمدينة المذكورة قريبا منها مدينة سماها رباط الفتح عمل هيئة الإسكندرية، وبناها على البحر المحيط، وهي على نهر سلا، مقابلة من البر القبلي، وتنزه فيها. وعاد إلى مراكش.
ثم إن الناس اختلفوا في أمره من هنا فقالوا إنه ترك ما كان فيه وتجرد، وساح في الأرض، وانتهى إلى بلاد الشرق وهو مستخف لا يعرف.
ومات خاملا. ويقال: إن قبره بالقرب من المجدل قرية من البقاع العزيزي عند قرية يقال لها: حمارة. وإلى جانبها مشهد يعرف بقبر الأمير يعقوب ملك الغرب. كل أهل تلك النواحي متفقون على ذلك.
وقالوا: مات بمدينة سلا في غزة جمادى الأولى، وقيل: شهر ربيع الآخر في سابع عشرة، قيل: في غزة صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمراكش.
ومولده سنة أربع وخمسين وخمسمائة. وأمر أن يدفن على قارعة الطريق لترحم الناس عليه.
وبايع الناس ولده أبا عبد الله محمد بن يعقوب وقد تقدم ذكره في المحمدين.
ومن حكايات الأمير المنصور يعقوب أن رجلا من المشارقة ومثل إليه في زي رسول وزعم أنه من الهند يذكر أن ذلك الملك رأى في كتاب ملحمة عنده أن أبا يوسف هذا يصل بجيوشه من المغرب ويملك بلاد المشرق، ثم يفتح الهند وما أشبه ذلك، وطلب الاجتماع به. فقال المنصور: العاقل الحكيم ينخدع في ماله ولا ينخدع في عقله، وأمر بإنزاله وإجراء الضيافة عليه حتى ينفصل. وأما الاجتماع به فلا سبيل إليه.
ورفع إليه صاحب شرطته أن رجلا من العامة ممن ابتلاه الله بحب الخمر اشتاق إلى عادته فقالت له زوجته: قد علمت أن الخليفة يقتل على الشرب وأنت فيك عربدة، وقلة صمت إذا شربت. فقال: أنا أحسم المادة فقيد نفسه بقيد حديد ثم اشتغل بشرابه وأغلق بابه، فنم به أحد أنذال جيرانه إلى صاحب الشرطة فأمر المنصور أن يضرب السكران الحد الخفيف، ويؤخذ القيد من رجله ويوضع في رجل الغماز بعد أن يضرب على نجسه، ويودع السجن حتى يستريح الناس منه.
واحتاج لأحد أولاده عالما وأمينا فطلبهما من القاضي فاختار له القاضي رجلين، وصف أحدهما في رقعته أنه عالم بحر والآخر أنه أمين بر فاستنطقهما المنصور فعلم أنهما يكذبان فوقع في الرقعة: ظهر الفساد في البر والبحر.
واشتهر له من قوله شعر أفسد به العرب على قراقوش أحد مماليك صلاح الدين وكان قد استولى على طرابلس وقابس وعظم أمره بالغرب:
فلما وقفوا على الشعر مالوا إلى المنصور، وانحرفوا عن قراقوش.
وله موشحات حسنة عملها في جارية له كان يهواها تسمى ساحر وقيل: إن هذه...

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 28- ص: 0