ابن فضل الله العمري أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العمري، شهاب الدين: مؤرخ، حجة في معرفة الممالك والمسالك وخطوط الأقاليم والبلدان، إمام في الترسل والإنشاء، عارف بأخبار رجال عصره وتراجمهم، غزير المعرفة بالتاريخ و لا سيما تاريخ ملوك المغول من عهد جنكيز خان إلى عصره. مولده ومنشأه ووفاته في دمشق. أجل آثاره (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - خ) كبير، طبع المجلد الأول منه، قال فيه ابن شاكر: كتاب حافل ما أعلم أن لأحد مثله. وله (مختصر قلائد العقيان - خ) و (الشتويات - خ) مجموع رسائل، و (النبذة الكافية في معرفة الكتابة والقافية - خ) و (ممالك عباد الصليب - ط) و (الدائرة بين مكة والبلاد) و (التعريف بالمصطلح الشريف - ط) في مراسم الملك وما يتعلق به، و (فواضل السمر في فضائل آل عمر) أربع مجلدات، و (يقظة الساهر) في الأدب، و (نفحة الروض) أدب، و (دمعة الباكي) أدب، و (صبابة المشتاق) في المدائح النبوية، أربع مجلدات. وله شعر في منتهى الرقة.

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 1- ص: 268

القاضي شهاب الدين ابن فضل الله أحمد بن يحين بن فضل الله بن المجلي دعجان بن خلف ابن أبي الفضل نصر بن منصور بن عبيد الله بن عدي بن محمد ابن أبي بكر عبد الله بن عبيد الله ابن أبي بكر بن عبيد الله الصالح ابن أبي سلمة عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب، القاضي شهاب الدين أبو العباس ابن القاضي أبي المعالي محيي الدين القرشي العدوي العمري. هو الإمام الفاضل البليغ المفوه الحافظ حجة الكتاب، إمام أهل الآداب. أحد رجالات الزمان كتابة وترسلا، وتوصلا إلى غايات المعالي وتوسلا. وإقداما عل الأسود في غابها، وإرغاما لأعاديه بمنع رغابها. يتوقد ذكاء وفطنة ويتلهب، ويحدر سيله ذاكرة وحفظا ويتصبب. ويتدفق بحره بالجواهر كلاما، ويتألق إنشاؤه بالبوارق المتسرعة نظاما. ويقطر كلام فصاحة وبلاغة، وتندى عبارته انسجاما وصياغة. وينظر إلى غيب المعاني من ستر رقيق، ويغوص في لجة البيان فيظفر بكبار الدر من البحر العميق. استوت بديهته وارتجاله، وتأخر عن فروسيته من هذا الفن رجاله. يكتب من رأس قلمه بديها، ما يعجز تروي القاضي الفاضل أن يدانيه تشبيها. وينظم من المقطوع والقصيدة جوهرا، ما يخجل الروض الذي باكره الحيا مزهرا. صرف الزمان أمرا ونهيا، ودبر الممالك تنفيذا ورأيا. وصل الأرزاق بقلمه، ورويت تواقيعه وهي إسجالات حكمه وحكمه. لا أرى أن اسم الكاتب يصدق على غيره ولا يطلق على سواه:

ولا أعتقد أن بينه وبين القاضي الفاضل من جاء مثله، على أنه قد جاء مثل تاج الدين ابن الأثير ومحيي الدين ابن عبد الظاهر وشهاب الدين محمود وكمال الدين ابن العطار وغيرهم. هذا إلى ما فيه من لطف أخلاق وسعة صدر وبشر محيا. رزقه الله أربعة أشياء لم أرها اجتمعت في غيره وهي: الحافظة، قلما طالع شيئا إلا وكان مستحضرا لأكثره، والذاكرة التي إذا أراد ذكرى شيء من زمن متقدم كان ذلك حاضرا كأنه إنما مر به بالأمس، والذكاء الذي تسلط له على ما أراد، وحسن القريحة في النظم والنثر. أما نثره فلعله في ذروة كان أوج الفاضل لها حضيضا ولا أرى أحدا فيه جودة وسرعة عمل لما يحاوله في أي معنى أراد وأي مقام توخاه. وأما نظمه فلعله لا يلحقه فيه إلا الأفراد.
وأضاف الله تعالى له إلى ذلك كله حسن الذوق الذي هو العمدة في كل فن. وهو أحد الأدباء الكملة الذين رأيتهم؛ وأعني بالكملة الذين يقومون بالأدب علما وعملا في النظم والنثر ومعرفة بتراجم أهل عصرهم ومن تقدمهم على اختلاف طبقات الناس وبخطوط الأفاضل وأشياخ الكتابة. ثم إنه يشارك من رأيته من الكملة في أشياء وينفرد عنه بأشياء بلغ فيها الغاية وقصر ذلك عن شأوه لأنه جود فن الإنشاء: النثر وهو فيه آية، والنظم وساير فنونه، والترسل البارع عن الملوك. ولم أر من يعرف تواريخ ملوك المغل من لدن جنكزخان وهلم جرا معرفته وكذلك ملوك الهند الأتراك. وأما معرفة الممالك والمسالك وخطوط الأقاليم ومواقع البلدان وخواصها فإنه فيها إمام وقته وكذلك معرفة الاسطرلاب وحل التقويم وصور الكواكب. وقد أذن له العلامة الشيخ شمس الدين الأصبهاني في الإفتاء على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه فهو حينئذ أكمل الكملة الذين رأيتهم. ولقد استطرد الكلام يوما إلى ذكر القضاة فسرد القضاة الأربعة الذين عاصرهم شاما ومصرا وألقابهم وأسماءهم وعلامة كل قاض منهم حتى إني ما كدت أقضي العجب مما رأيت منه. واتفق يوما آخر أنه احتجت إلى كتابة صداق لبنت شمس الدين ابن الشيرازي فذكر على الفور اسمها واسم أبيها وسرد نسبه فجئت إلى البيت وراجعت تعاليقي ومسوداتي فكان الأمر كما ذكر لم يخل باسم ولا لقب ولا كنية. ولد بدمشق ثالث شوال سنة سبعمائة وتوفي رحمه الله تعالى يوم عرفة سنة تسع وأربعين وسبعمائة. قرأ العربية أولا على الشيخ كمال الدين ابن قاضي شهبة ثم قاضي القضاة شمس الدين ابن مسلم والفقه على قاضي القضاة شهاب الدين ابن المجد عبد الله وعلى الشيخ برهان الدين قليلا. وقرأ الأحكام الصغرى على الشيخ تقي الدين ابن تيمية والعروض والأدب على الشيخ شمس الدين الصايغ وعلاء الدين الوداعي. وقرأ جملة من المعاني والبيان على العلامة شاب الدين محمود وقرأ عليه جملة من الدواوين وكتب الأدب.
وقرأ بعض شيء من العروض على الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني والأصول على الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وأخذ اللغة عن الشيخ أثير الدين: سمع عليه الفصيح والأشعار الستة والدريدية وأكثر ديوان أبي تمام وغير ذلك؛ وسمع بدمشق من الحجار وست الوزراء وابن أبي الفتح. والحجاز ومصر والإسكندرية وبلاد الشام وأجاز له جماعة. وصنف فواضل السمر في فضائل آل عمر أربع مجلدات. وكتاب مسالك الأبصار في عشرة كبار وهو كتاب حافل ما أعلم أن لأحد مثله. والدعوة المستجابة مجلد. وصبابة المشتاق ديوان كامل في المدائح النبوية. وسفرة السفرة. ودمعة الباكي. ويقظة الساهر وقرأتهما عليه، ونفخة الروض وغير ذلك. ونظم كثيرا من القصائد والأراجيز والمقطعات والدوبيت والموشح والبليق والزجل، وأنشأ كثيرا من التقاليد والمناشير والتواقيع ومكاتبات الملوك وغير ذلك. وسمعت من لفظه غالب ما أنشأه وكتب قدامي كثيرا من التواقيع الحفلة من رأس القلم. وترسل كثيرا وأنا أراه من رأس القلم عن الدولة وعن نفسه إلى إخونه فيأتي بما يبهر العقول، لم أر لأحد قدرته على ذلك. كتبت إليه ملغزا في نجم:
فكتب الجواب عن ذلك:
وكتبت إليه مع ضحايا:
فكتب الجواب عن ذلك:
وكتب إلي ملغزا في زبيدة:
فكتبت الجواب إليه:
وقال يوما ونحن بين يديه جماعة: أجيزوا المصراع الثاني من البيت الأول
فقلت أنا في الحال: وفرق زانه جعد، فأعجبه ذلك كثيرا. وكتب إلي وقد تواترت الأمطار والثلوج والرعود والبروق ودام ذلك أياما ما عهد الناس مثلها: كيف أصبح مولانا هذا الشتاء الذي أقبل يرعب مقدمه ويرهب تقدمه، ويريب اللبيب من برقه المومض تبسمه. وكيف حاله مع رعوده الصارخة، ورياحه النافخة، ووجوه أيامه الكالحة، وسرر لياليه التي لا تبيت بليلة منها صالحة، وسحابه وأمواجه، وجليده والمشي فوق زجاجه، وتراكم مطره الأنيث، وتطاول فرع ليله الأثيث، ومواقده الممقوتة، وذوائب جمره وأهوان به ولو أن كل حمراء ياقوتة، وتحدر نوئه المتصبب وتحير نجمه المتصيب؛ وكيف هو مع جيشه الذي ما أطل حتى مد مضارب غمامه، وظلل الجو بمثل أجنحة الفواخت من أعلامه. هذا على أنه حل عرى الأبنية وحلل مما تلف في دمه سالف الأستية، فلقد جاء من البرد بما رض العظام وأنخرها، ودق فخارات الأجسام وفخرها، وجمد في الفم الريق، وعقد اللسان إلا أنه لسان المنطيق، ويبس الأصابع حتى كادت أغصانها توقد حطبا، وقيد الأرجل فلا تمشي إلا تتوقع عطبا، وأتى الزمهرير بجنود ما للقوي بها قبل، وحمل الأجسام من ثقل الثياب ما لا يعصم منه من {قال سآوي إلى جبل}. ومد من السيل ما استبكى العيون إذا جرى، واجتحف ما أتى عليه وأول ما بدأ الدمع بالكرى. فكيف أنت يا سيدي في هذه الأحوال؟ وكيف أنت في مقاساة هذه الأهوال؟ وكيف ترأيت منها ما شيب بثلجه نواصي الجبال، وجاء بالبحر فتلقف ثعبانه ما ألقته هراوات البروق من عصي وخيوط السحب من حبال؟ أما نحن فبين أمواج من السحب تزدحم، وفي رأس جبل لا يعصم فيه من الماء إلا من رحم، وكيف سيدنا مع مجامر كانون وشرار برقها القادح، وهم وقدها الفادح، وقوس قزحها المتلون رد الله عليه صوائب سهامه، وبدل منه بوشائع حلل الربيع ونضارة أيامه، وجعل حظ مولانا من لوافحه ما يذكيه ذهنه من ضرامه، ومن سوافحه ما يؤكده فكره من نوامه وعوضنا وإياه بالصيف والله يتقبل، وأراحنا من هذا الشتاء ومشي غمامه المتبختر بكمه المسبل.
فكتبت إليه الجواب عن ذلك وهو: وينهي ورود هذه الرقعة التي هي طراز في حلة الدهر، وحديقة ذكرت بزمن الربيع وما تهديه أيامه من الزهر، فوقف منها على الروض الذي تهدلت فروع غصونه بالأثمار، ونظر منها إلى الأفق الذي كواكبه شموس وأقمار، فأنشأت له أطرابه، وأعلمته أن قلم مولانا يفعل بالألباب ما لا تفعله نغمة الشبابة، وأرشفته سلافا كئوسها الحروف وكل نقطة حبابة، وشاهد أوصاف هذه الأيام المباركة القدوم المتصلة الظلام فلا أوحش الله من طلعة الشمس وحاجب الهلال وعيون النجوم، فما لنا ولهذه السحائب السحابة، والغمائم السكابة، والرعود الصخابة، والبروق اللهابة، والثلوج التي أصبحت بحصبائها حصابة، والبرد الذي أمست إبره لغصون الجلود قطابة، والزميتا التي لا تروى عن أبي ذر إلا ويروى العيب عن أبي قلابة، كلما أقبلت فحمة ظلام قدحت فيها البوارق جمرتها، وكلما جاءت سحابة كحلاء الجفون رجعت مدها لما أسبلت من عبرتها، فما هذا شهر طوبة إن هذا إلا جبل ثهلان، وما هذا كانون إن هذا إلا تنور الطوفان، فإلى متى قطن هذه الثلوج يطرح على جباب الجبال؟ وإلى متى تفاض دلاص الأنهار وترشقها قوس قزح بالنبال؟ وإلى متى يشق السحاب ما لها من الحلل والحبر؟ وإلى متى ترسل خيوط المزن من الجو وفي أطرافها على الغدران إبر؟ وإلى متى تجمد عيون الغمام وتكحلها البروق بالنار؟ وإلى متى نثار هذه الفضة وما يرى من النجوم دينار؟ وإلى متى نحن نحنو على النار حنو المرضعات على الفطيم؟ وإلى متى تبكي المزاريب بكاء الأولياء بغير حزن إذا استولوا على مال اليتيم؟ وإلى متى هذا البرق تتلوى بطون حياته، وتنقلب حماليق العيون المحمرة من أسود غاباته؟ وإلى متى يزمجر عتب هذه الرياح العاصفة؟ وإلى متى يرسل الزمهرير أعوانا تصبح حلاوة الوجوه بها تالفة؛ أترى هذه الأمطار تقلب بالأزيار أم هذه المواليد تنتهي فيها الأعمار؟ كم من جليد يذوب له قلب الجليد، ويرى زجاجه الشفاف أصلب من الحديد، ووحل لا تمشي هريرة فيه الوحى وبرد لا تنتطق فيه نؤوم الضحى. اللهم حوالينا ولا علينا، لقد أضجرنا تراكم الثياب، ومقاساة ما لهذه الرحمة من العذاب، وانجماع كل عن إلفه وإغلاق باب القباب. وتخلل الصباب زوايا البيوت فالأطفال ضباب الضباب: كل ضب منهم قد ألف باطن نافقائه، وقدم بين يديه الموت بداية بدائه، قد حسد على النار من أمسى مذنبا وأصبح عاصيا، وتمنى أن يرى من فواكه الجنات عنابا وقراصيا، فإن كانت هذه الأمطار تكاثر فضائل مولانا فيا طول ما تسفح، وإن كانت العواصف تتشبه ببأسه فيا طول ما تلفح، وإن كانت البروق تحاكي ذهنه المتسرع فيا طول ما تتألق، وإن كانت قوس قزح تتلون خجلا من طروسه فيا طول ما تتألق، وإن كانت الرعود تحاكي جوانح أعدائه فيا طول ما تشهق وتفهق، وإن كانت السيول تجري وراء جوده فإنها تجري طول المدى وما تلحق، والأولى بهذا النوء الباكي أن لا يحاكي، والأليق بهذا الفصل المبغض أن لا يتعرض، فرحم الله من عرف قدره، وتحقق أن مولانا في الجود ندره.
فأجابني عن هذه الرسالة برسالة أخرى وهي: ووقف عليه، وتيمن بمجرد إقباله عليه، وقبله لقرب عهده بيديه، وعده لجلاء المره، وأمره على عينيه وشكره. وإن لم تزل حقائب الشكر محطوطة لديه، لا برح السهد من جنى ريقه المعلل، والطرب بكأس رحيقه المحلل، والتيه وحاشاه منه في سلوك طريقه المذلل، والسحاب لا يطير إلا بجناح نعمائه المبلل، والروض لا يبرز إلا في ثوب تزخرفه المجلل، والبرق لا يهتز في مسبل ردائه المسلل، والجهد ولو كلف لا يجيء بمثل سيره المذلل، والنصر يقضي لمواضيه على حد حسامه المفلل، والفجر لولا بيانه الوضاح لما أرشد ليله المضلل، والبحر لولا ما عرف من عباب كرمه الزاخر لما ذم على عرر المادة نواله المقلل، والفخر وإن شمخ أنفه لا ينافس عقده الموشح ولا يتطاول إلى تاجه المكلل، وفهمه فهام، واقتبسه فجلا الأوهام، ونظر فيه فزاد صقال الأفهام، وقصر عن إدراكه فما شك أنه إلهام. وانتهى فيه إلى الجواب في وصف أنواء تلك الليلة الماطرة وما موهت به السحب من ذهب برقها، وفتلته الأنواء من خيوط ودقها، ونفخت فيه الرياح من جمر كانونها، وأظهرته حقيقة الرعود من سر مكنونها. وما ينبته عارضه ذلك العارض الممطر الذي هو أقوى من شآبيبها، وأوقى مما أرقته السماء من جلابيبها، وأسرى من برقها المومض في غرابيبها، وأسرع من سرى رياحها وقد جمعت أطواق السحب وأخذت بتلابيبها. وسبح المملوك من عجب لهذه البلاغة التي كملت الفضائل، وفصلت عن العلم وفي الرعيل الأول علم الأوائل. وفضلت مبدعها وحق له التفضيل، وآتته جملة الفضل وفي ضمنها التفصيل. وأنطقت لسان بيانه وأخرست كل لسان، وأجرت قلم كرمه وأحرزت كل إحسان، ونشرت علم علمه وأدخلت تحته كل فاضل، وأرهف شبا حده وقطعت به كل مناظر وكل مناضل. وقالت للسحاب وقد طبق: إليك فإن البحر قد جال، وللنوء وقد أغدق: تنح فإن الطوفان قد حصر أرجال، وللرعد وقد صرخ: اسكت، فقد آن لهذه الشقائق أن تسلت، وللبرق وقد نسخ آية الليل: استدرك غلطك لئلا تبكت. أما ترى هذه العلوم الجمة وقد زخر بحرها، وأثر في الألباب سحرها، وهذه الفضائل وكيف تفننت فنونها عيونها، وتهدلت بالثمرات أفنانها، وزخرفت بالمحاسن جنانها؟ وهذه الألمعية وكيف ذهبت الأصائل، وهذه اللوذعية وما أبقت مقالا لقائل. وهذه الفواضل وقد توقد ذبالها، وتقدد بها أديم الظلم وتشقق سربالها؟ وهذه البراعة التي فاضت فكل منها سكران طافح؟ وهذه الفصائح وما غادرت بين الجوانح؟ وهذه البلاغة وقد سالت بأعناق المطي بها الأباطح؟ وهذه الصناعة وقد استعين عليها من أهلها بصالح؟ وهذه الصياغة وما ترك فن الجواهر لها إلا رابح؟ وهذه الحكم البوالغ، وهذه النعم السوابغ، وهذه الديم التي لا يملأ حوضها من إناء فارغ، وهذه الشيم التي لو تنكرت ثم مزجت بالفرات لما سرت لسائغ؟ وهذه الهمم التي برقت بتوجهه فكسفت عناية عارضها، وكفت غواية البرق وقد ولع وخط مشيبه بخط عارضها، حتى جلاها وأضحاها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها.
ونفخ رماد سحابها المنجلي عن اللهب، وصفح جوها الفضي وسمرته الشمس بالذهب، وجلا صدأ تلك الليلة عن صفيحة ذلك اليوم المشمس، وبدل بذلك الضوء المطمع من ذلك الغيم المؤيس، ونقى لازورد السماء من تلك الشوائب، ووقى عرض ذلك النهار اليقق من المعايب، وأترع غدير ذلك الصباح خالصا من الرنق، وضوع عنبر ذلك الثرى خاليا من اللثق، وأطلع شمس ذلك اليوم يوشع جانب مشرقها، ويوشي بذائب اللهب رداء أفقها. فقلت:
أستغفر الله بل بشر ذلك البشير بل الملك الكريم، وصفيحة وجهه المتهلل الوسيم، بل صحيفة عمله، وصبيحة أمله، وأنموذج إيثاره، وصنو يده البيضاء وآثاره، وشبيه ما بفضة لؤلؤه من نثاره، وغير هذا من ندى أياديه البيض على إقلال العد أو أكاره. لله تلك اليد المقبلة، ولله تلك اليد المؤملة، ولله تلك المواهب المجزلة، ولله تلك الراحة التي لا يقاس بها الثريا ولا تجيء الجوزاء أنملة. ولله ذلك البين الساحر، وذلك البنان الساخر، وذلك اللسان المذرب والبحر الزاخر، وذلك إلا لسان الذي طال باع علمه، وطار فأوقد ضرام اليوم المشمس شعاع فهمه، وطاب جنى ثمره وجناب حلمه، وطاف الأرض صيته ونفق كاسد الفضائل باسمه، ولله لله لسيد جاء بالفضل كله، وألى بالمر على جله، واقتبس من نوره وأوى إلى ظله. لقد ألبس المملوك رداء الفخار، وعرفه العوم وكان لا يطمع أن يشق بحره الزخار، ومحا عنه صبغ دجنة تلك الليلة وقصر من ذيلها، وقهقر من سيلها، وأخذ بعقيصتها وغرق في تيار النهار سوداء ليلها، وأطلق لسانه من الاعتقال، وأنطق بيانه فقال، ووفقه في البيان ولولا توفيقه ما نطق، ووقفه ولولا إيقافه لغبر على آثاره في وجه من سبق، وقام وأقام الحجة على البلغاء حيث لا يجد من يقول إلا صدق. تمت.
فلما رأيت ما هالني، وغل عقلي وغالني، عدلت عن النثر فرارا ألوذ بالنظم، وقلت جوابا:
فأجاب:
ومن مدائحه النبوية ما أنشدنيه من لفظه ونقلته من خطه:
ومن شعره:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
والظاهر أن مولده سنة إحدى وسبعمائة أو سنة سبعمائة. ولما وقع الطاعون بدمشق سنة تسع وأربعين وسبعمائة قلق وهمع وزمع وتطاير كثيرا وراعى القواعد الطبية وانجمع عن الناس وانعزل وعزم على الحج واشترى الجمال وبعض الآلات. ثم إنه بطل ذلك وتوجه بزوجته ابنة عمه إلى القدس الشريف وولديه وصاموا هناك رمضان فماتت زوجته هناك ودفنها بالقدس في شهر رمضان. وحضر إلى دمشق وهو طائر العقل، فيوم وصوله برد وحصل له حمى ربع وأضعفته إلى أن بحرنت بصرع. وتوفي، رحمه الله وسامحه، يوم عرفة سنة تسع وأربعين وسبعمائة ودفن عند والده وأخيه بدر الدين محمد بالصالحية.
وكتبت أنا إلى أخيه القاضي علاء الدين أعزيه فيه بكتاب هذا نسخته:
يقبل الأرض وينهي ما عنده من الألم الذي برح، والسقم الذي جر ذيول الدمع على الخدود وجرح، لما قدره الله من وفاة القاضي شهاب الدين، سقته بألطف أندائها وأغزرها ساريات الغمام ف {إنا لله وإنا إليه راجعون} قول من غاب شهابه، وآب التهابه، وذاب قلبه فصار للدمع قليبا، وشاب فوده لما شب جمر فؤاده ولا غرو فيومه جعل الولدان شيبا، فيا أسفا على ذلك الوجه المليء بالملاحة، واللسان الذي طالما سحر العقول ببيانه فصاحت يا ملك الفصاحة، واليد التي كم روضت الطروس أقلامها، وأنشأت أسجاعا لم تذكر معها بانات الحمى ولا حمامها، فكأن أبا الطيب ما عنى سواه بقوله:
فرحم الله ذلك الوجه وبلغه ما يرجوه، وضوأه بالمغفرة يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. لقد فقد المجد المؤثل منه ركنا تتكثر به الجبال فما تقله ولا تستقله، وعدمت الآداب منه بارعا لو عاصره الجاحظ ما كان له جاحدا والبيع علم أن ما فض له فضله، وغاب عن الإنشاء منه كاتب ليس بينه وبين الفاضل لولا أخوه مثله. أترى ابن المعتز عناه بقوله:
وما يقول المملوك في هذا البيت الكريم إلا إن كان قد غاب بدره وأفل شهابه، أو غاض قطره وتقشع سحابه، فإن نيره الأعظم باق في أوجه، وبحره الزاخر متلاطم في موجه، وفي بقاء مولانا خلف عمن سلف، وعوض عما انهدم ركنه أو نقض، وجبر لمن عدم الجلد والصبر، والله يمتع الوجود بحياته، ويجمع له بين ثوابه وثباته، لأنه قد عاش الدر المفدي بالذهب، وأضاءت شمس المعالي إن كان قد خمد اللهب:
وقد نظم المملوك قصيدة مختصرة في رثاء المشار إليه، وجعل ألفاظها تبكيه وقوافيها تنوح عليه، وهي:
إن شاء الله تعالى.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 8- ص: 0

أحمد بن يحيى بن فضل الله بن المجلي بن دعجان ينتهي إلى عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. القاضي شهاب الدين أبو العباس ابن القاضي محيي الدين القرشي العدوي العمري الدمشقي.
#الإمام الفاضل البليغ المفوه حجة الكتاب، غمام أهل الآداب، الناظم الناثر، أحد رجالات الزمان كتابة وترسلا، وتوصلا إلى غايات المعالي وتوسلا، وإقداما على الأسود في غابها، وإرغاما لأعاديه بمنع رغابها، يتوقد ذكاء وفطنة ويتلهب، ويتحدر سيله ذاكرة وحفظا ويتصبب، ويتدفق بحره بالجواهر كلاما، ويتألق إنشاؤه بالبوارق المتسرعة نظاما، ويقطر كلامه فصاحة وبلاغة، وتندى عبارته انسجاما وصياغة، وينظر إلى عيب المعنى من ستر رقيق، ويغوص في لجو البيان فيظفر بكبار الدر من البحر العميق، استوت بديهته وارتجاله، وتأخر عن فروسيته من هذا الفن رجاله، يكتب من رأس قلمه بديها ما يعجز تروي القاضي الفاضل أن يدانيه تشبيها، وينظم من المقطوع والقصيدة جوهرا، ما يخجل الروض الذي باكره الحيا مزهرا، جبل كتابة وأخبار، وبحر إصابة في المعاني التي لا يشق له فيها غبار. وأما نثره فقل من يجازيه، أو يقارب خطو قلمه في تنسيق دراريه. وأما نظمه ففي الثريا، وأبياته تطول في المحاسن ريا، وتضوع ريا.
قرأ العربية على الشيخ كمال الدين ابن قاضي شهبة، ثم على قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم، والفقه على قاضي القضاة شهاب الدين بن المجد، وعلى الشيخ برهان الدين قليلا، وقرأ الأحكام الصغرى على الشيخ تقي الدين بن تيمية، والعروض على شمس الدين الصايغ، وتأدب على علاء الدين الوداعي. وقرأ جملة من المعاني والبيان على شيخنا العلامة شهاب الدين محمود، وقرأ عليه تصانيفه، وجملة من الدواوين وكتب الدب، وقرأ بعض شيء من العروض على الشيخ كمال الدين بن الزملكاني. والأصول على الشيخ شمس الدين الأصبهاني. وقرأ بمصر على الشيخ أثير، وسمع منه. وسمع بدمشق والقاهرة والحجاز والإسكندرية وبلاد الشام، ونظم كثيرا من القصائد والأراجيز والمقطعات ودو بيت وأنشأ كثيرا من التقاليد والمناشير والتواقيع والأصدقة.
كتب الإنشاء بدمشق أيام بني محمود، ثم ولي والده كتابة السر بدمشق، ثم طلب إلى مصر هو ووالده في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، وباشر والده كتابة السر بمصر، ثم خرج مع أبيه إلى دمشق، ثم عاد إليها معه في سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وأقام إلى بعض سنة ست وثلاثين، وهو في المرة الأولى والثانية يدخل يقرأ البريد على السلطان، وفي الثانية جلس في دار العدل ووالده القاضي محيي الدين كاتب السر.
وجرى له ما جرى مع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ولزم بيته. ثم حج وحضر، وغضب عليه السلطان واعتقله بقلعة الجبل، وأخذ منه مئة ألف درهم، ولما أمسك الأمير سيف الدين تنكز - رحمه الله تعالى - ولاه السلطان كتابة السر بدمشق، فحضر إليها يوم عاشوراء، فيما أظن، سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، وباشر ذلك إلى آخر أيام أيدغمش نائب الشام، وتوجه إلى حماة ليتلقى الأمير سيف الدين طقز تمر من حلب، فجاءه الخبر في حماة أنه قد عزل بأخيه القاضي بدر الدين محمد، فجاء إلى دمشق، وذلك سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة، وبقي في الترسيم بالفلكية قريبا من أربعة أشهر، وطلب إلى مصر فما وصل إلى مصر حتى شفع فيه أخوه علاء الدين كاتب السر بمصر ورده من الطريق، فقال: لا بد من أن أرى وجه أخي، فدخل مصر، وأقام أياما، وعاد إلى دمشق بطالا، ولم يزل بها مقيما في بيته إلى أن حدث الطاعون بدمشق فقله منه، وتطاير به، وعزم على الحج، ثم أبطله، وتوجه بأهله إلى القدس، فتوفيت هناك زوجته ابنه عمه، فدفنها هناك، وما به قلبة غير أنه مروع من الطاعون، فحصل له يوم وصوله حتى ربع، ودامت به إلى أن حصل له صرع، فمات منه، وسكن ذلك الهدير، ونضب ذلك الغدير، وكان يوم عرفة سنة تسع وأربعين وسبع مئة، ودفن بتربتهم بالصالحية وكانت جنازته حافلة.
ومولده بدمشق ثالث شوال سنة سبع مئة.
وصنف فواضل السمر في فضائل آل عمر أربع مجلدات، وكتاب مسالك الأبصار في أكثر من عشرين مجلدا، ما أعلم لأحد مثله، تراجمه مسجوعة جميعها، ولي فيه عمل كثير في اختيار شعره، والدعوة المستجابة، وصبابة المشتاق، مجلد في مدائح النبي صلى الله عليه وسلم، وسفرة السفر، ودمعه الباكي ويقظة الساهر، وقرأتهما عليه بمصر، ونفخة الروض، وغير ذلك.
كتب إلي ملغزا:

فكتبت أنا الجواب إليه وهو في ’’زبيدة’’:
وكتبت أنا إليه ملغزا في ’’نجم’’:
فكتب هو الجواب عن ذلك:
وكتبت أنا إليه مع ضحايا أهديتها:
فكتب هو الجواب إلي عن لك:
وكتبت إليه أتقاضاه إنجاز ما وعد به من قلع شجرة ليمون مختم وتجهزها، والتزمت الياء قبل النون:
فكتب الجواب، والتزم نونا قبل النون:
وكان قد أهدى إلي - رحمه الله تعالى - عندما عمرت الدويرة التي لي بدمشق عشرة أحمال رخاما، فكتبت إليه أشكره على ذلك، وطلبت ذلك فلم أجده وقد عرفته الآن عند تعليقي هذه الترجمة وهو:
وكتب هو الجواب عن ذلك، ولكنني لم أجده تلآن.
وأنشدني لنفسه ونحن على العاصي بحماة:
فأنشدته أنا أيضا لنفسي:
وأنشدني هو أيضا لنفسه:
فأنشدته أنا أيضا لنفسي:
وأنشدته أنا لنفسي، وقد طال علينا المركز من شمسين إلى حمص:
فأنشدني هو أيضا لنفسه:
وكتب إلي من دمشق وأنا بالقاهرة سنة 741:
فكتبت أنا الجواب إليه:
وكتب هو إلي وقد تواترت الثلوج والأمطار سنة 744: كيف أصبح مولاي في هذا الشتاء الذي أقبل يرعب مقدمه، ويرهب تقدمه، ويريب اللبيب من برقه المومض تبسمه، وكيف حاله مع رعوده الصارخة، ورياحه النافخة، ووجوه أيامه الكالحة، وشرر لياليه التي لا نبيت منها بليلة صالحة، وسحابه وأمواجه، وجليده والمشي فوق زجاجه، وتراكم مطره الأنيث، وتطاول ليل فرعه الأثيث، ومواقده الممقوته، وذوائب جمره، وأهون به لو أن كل حمراء ياقوته، وتحدر نوئه المتصبب، وتحير نجمه المتصيب، وكيف هو مع جيشه الذي ما أطل حتى مد مضارب غمامه، وظلل الجو بمثل أجنحة الفواخت من أعلامه، هذا على أنه حل عرى الأبنية، وحلل ما تلف في ذمة سالف الأشتية، فلقد جاء من البرد بما رض العظام وأنخرها ودق فخارات الأجسام وفخرها، وجمد في الفم الريق، وعقد اللسان إلا أنه لسان المنطيق، ويبس الأصابع حتى كادت أغصانها توقد حطبا، وقيد الأرجل فلا تمشي إلا تتوقع عطبا، وأتى الزمهرير بجنود ما للقوي بها قبل، وحمل الأجسام من ثقل الثياب ما لا يعصم منه من ’’قال سآوي إلى جبل’’ ومد من السيل ما استبكى العيون إذا جرى، واجتحف ما أتى عليه وأول ما بدا الدمع بالكرى، فكيف أنت يا سيدي في هذه الأحوال؟، وكيف أنت في مقاساة هذه الأحوال؟، وكيف رأيت منها ما شيب بثلجه نواصي الجبال، وجاء بالبحر فتلقف ثعبانه ما ألقته هراوات البروق من عصي، وخيوط السحب من حبال؟. أما نجن فبين أمواج من السحب تزدحم، وفي رأس جبل لا يعصم فيه من الماء إلا من رحم، وكيف سيدنا مع مجامر كانون وشرار برقها القادح، وهم ودقها الفادح، وقوس قزحها المتلون رد الله عليه صوائب سهامه، وبدل منه بوشائع حلل الربيع ونضارة أيامه، وجعل حظ مولانا من لوافحه ما يذكيه ذهنه من ضرامه، ومن سوافحه ما يولده فكره من توأمه، وعوضنا وإياه بالصيف، والله يتقل، وأراحنا من هذا الشتاء ومشي غمامه المتبختر بكمه المسبل، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
فكتب أنا الجواب:
يقبل الأرض، وينهي ورود هذه الرقعة التي هي طراز في حلة الدهر، وحديقة ذكرت بزمن الربيع، وما تهديه أيامه من الزهر، فوقف منها على الروض الذي تهدلت فروع غصونه بالأثمار، ونظر منها إلى الأفق الذي كل كواكبه شموس وأقمار، فأنشأت له أطرابه، وأعلمته أن قلم مولانا يفعل بالألباب ما لا يفعله نغمة الشبآبة، وأرشفته سلافا كؤوسها الحروف وكل نقطة حبابه، وشاهد أوصاف هذه الأيام المباركة القدوم المتصلة الظلام، فلا أوحش الله من طلعة الشمس وحاجب الهلال وعيون النجوم، فما لنا ولهذه السحائب السحابة، والغمائم السكابة، والرعود الصخابة، والبروق اللهابة، والثلوج التي أصبحت بحصبائها حصابة، والبرد الذي أمست إبره لغصون الجلود قطابة، والزميتا التي لا تروي عن أبي ذر إلا وتروي الغيث عن أبي قلابة، كلما أقبلت فحمة ظلام قدحت فيها البوارق شرار جمرتها، وكلما جاءت سحابة كحلاء الجفون رجعت مرهاء لما أسبلته من عبرتها، فما هذا شهر طوبة إن هذا إلا جبل ثهلان، وما هذا كانون إن هذا إلا تنور الطوفان، وإلى متى قطن هذه الثلوج يطرح على جباب الجبال، وإلى متى نقاض دلاص الأمطار، ويرشقها قوس قزح بالنبال؟!، وإلى متى تشقق السحاب وما لها من الحلل والحبر، وإلى متى ترسل خيوط المزن من الجو وفي أطرافها على الغدران إبر، وإلى متى تجمد عيون الغمام وتكحلها البروق بالنار، وإلى متى نثار هذه الفضة وما يرى من النجوم دينار؟، وإلى متى نحن نحنو على النار ’’حنو المرضعات على الفطيم’’، وإلى متى تبكي الميازيب:
وإلى متى هذا البرق تتلوى بطون حياته وتقلب حماليق العيون المحمرة من أسود غاباته؟، وإلى متى يزمجر غيث هذه الرياح العاصفة، وإلى متى يرسل الزمهرير أعوانا تصبح حلاوة الوجوه بها تالفة، أترى هذه الأمطار تقلب بالأذيار أم هذه المواليد التي تنتهي فيها الأعمار، كم جليد يذوب به قلب الجليد، ويرى زجاجه الشفاف أصلب من الحديد، ووحل لا تمشي فيه هريرة الوحى، وبرد لا تنتطق به نؤوم الضحى، ’’اللهم حوالينا ولا علينا’’، لقد أضجرنا تراكم الثياب، ومقاساة ما لهذه الرحمة من العذاب، وانجماع كل عن إلفه، وإغلاق باب القباب، وتحلل الضباب زوايا البيوت، فالأطفال ضباب الضباب، كل ضب منهم قد ألف باطن نافقائه، وقدم بين يديه الموت بداية بدائه، قد حسد على النار من أمسى مذنبا وأمسى عاصيا وتمنى أن يرى من فواكه الجنات عنابا من النار وقراصيا، فإن كانت هذه الأمطار تكاثر مكارم مولانا فيا طول ما تسفح، وإن كانت العواصف تتشبه ببأسه فيا طول ما تلفح، وإن كانت البروق تحاكي ذهنه المتسرع فيا طول ما تتألق، وإن كانت قوس قزح تتلون خجلا من طروسه فيا طول ما تتألق، وإن كانت الرعود تحاكي جوانح أعدائه فيا طول ما تشهق وتفهق، وإن كانت السيول تجري وراء جوده فإنها تجري على طول المدى وما تلحق، والأولى بهذا النوء الباكي أن لا يحاكي، والأليق بهذا الفضل أن لا يتعرض، فرحم الله من عرف قدره، وتحقق أن مولانا في الجود ندره، أنهي ذلك.
فكتب هو الجواب إلي عن ذلك، وكتبت جوابه نظما، وكتب هو الجواب عن ذلك نظما.
وكتب إلي وأنا بالقاهرة وهو يومئذ في دمشق رسالة في الثلج، وكتبت جوابه، وكتب هو إلي رسالة يصف كثرة المطر نظما ونثرا، وكتبت جوابه أيضا كذلك.
وبيني وبينه مكاتبات كثيرة، وقد أوردت ذلك في كتابي ’’ألحان السواجع’’.
ولما توفي رحمه الله تعالى كتبت إلى أخيه القاضي علاء الدين صاحب دواوين الإنشاء أعزيه، ونسخته: يقبل الأرض وينهي ما عنده من الألم الذي برح، والسقم الذي جر ذيول الدمع على الخدود وجرح، لما قدره الله تعالى من وفاة القاضي شهاب الدين:
فإنا لله وإنا إليه راجعون، قول من غاب شهابه، وآب التهابه، وذاب قلبه فصار للدمع قليبا، وشهاب فوده لما شب جمر فؤاده، ولا غرو فيومه جعل الولدان شيبا، فيا أسفي على ذلك الوجه الملي بالملاحة، واللسان الذي طالما سحر العقول ببيانه، فصاحت: يا ملك الفصاحة، واليد كم روضت الطروس أقلامها، وأنشأت أسجاعا لم تذكر معها بانات الحمى ولا حمامها، وكأن أبا الطيب ما عنى سواه بقوله:
فرحم الله ذلك الوجه، وبلغه ما يرجوه، وضواه بالمغفرة يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. لقد فقد المجد المؤثل منه ركنا تتكثر به الجبال فما تقله ولا تستقله، وعدمت الآداب منه بارعا لو عاصره الجاحظ ما كان له جاحدا، أو البديع علم أن ما فض له فضله، وغاب من الإنشاء منه كاتب ليس بينه وبين الفاضل لولا أخوه مثله، أترى ابن المعتز عناه بقوله:
وما يقول المملوك في البيت الكريم، ألا إن كان قد غاب بدره وأفل شهابه، أو غاص قطره وتقشع سحابه فإن نيره الأعظم باق في أوجه، وبحره الزاخر متلاطم في موجه، وفي بقاء مولانا خلف عمن سلف، وعوض عما انهدم ركنه وانقض، وجبر لمن عدك الجلد والصبر، والله يمتع المسلمين بحياته، ويجمع لديه بين ثوابه وثباته، لأنه قد عاش الدر المفدى بالذهب وأضاءت شمس المعالي إن كان قد خمد اللهب:
وقد نظم المملوك قصيدة في رثاء المشار إليه، وجعل قوافيها تبكيه، وألفاظها تنوح عليه، وهي:

  • دار الفكر المعاصر، بيروت - لبنان / دار الفكر، دمشق - سوريا-ط 1( 1998) , ج: 1- ص: 417

ابن فضل الله شهاب الدين أحمد بن يحيى. ولده شرف الدين عبد الوهاب

  • دار الفكر المعاصر، بيروت - لبنان / دار الفكر، دمشق - سوريا-ط 1( 1998) , ج: 4- ص: 46

أحمد بن يحيى بن فضل الله بن مجلي أحمد بن يحيى بن فضل الله بن مجلي بن دعجان بن خلف بن نصر ابن منصور بن عبيد الله بن يحيى بن محمد بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي بكر ابن عبيد الله بن أبي سلمة بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر العدوي العمري هكذا أملى نسبه القاضي شهاب الدين ابن محيي الدين ولد في ثالث شوال شنة سبعمائة وقرأ العربية على كمال الدين ابن قاضي شهبة والفقه على ابن الفركاح وشهاب الدين ابن المجد والشيخ برهان الدين ابن الفركاح وقرأ الأحكام الصغرى على ابن تيمية وتخرج في الأدب بالشهاب محمود وبالوداعي وشمس الدين ابن الصائغ الكبير وابن الزملكاني وأبي حيان وسمع الحديث على جماعة كست الوزراء والحجار وكان يتوقد ذكاء مع حافظة قوية وصورة جميلة واقتدار على النظم والنثر حتى كان يكتب من رأس القلم ما يعجز عنه غيره في مدة مع سعة الصدر وحسن الخلق وبشر المحيا كتب الإنشاء بمصر ودمشق ولما ولي أبوه كتابة السر كان هو يقرأ كتب البريد على السلطان ثم غضب عليه السلطان وذلك في سابع عشرى ذي الحجة سنة 40 وولاه كتابة السر بدمشق بعد القبض على تنكز وكان السبب في ذلك أن تنكز سأل الناصر أن يقرر في كتابة السر علم الدين ابن القطب فأجابه لذلك فغض ابن فضل الله من ابن القطب وقال أنه قبطي فلم يلتفت الناصر لذلك فكتب له توقيعه على كره فأمره أن يكتب فيه زيادة في معلومه فامتنع فعاوده فنفر حتى قال أما يكفي أن يكون إلا مسلمي كاتب السر حتى يزاد معلومه فقام بين يدي السلطان مغضبا وهو يقول خدمتك علي حرام فاشتد غضب السلطان ودخل شهاب الدين على أبيه فأعلمه بما اتفق فقامت قيامته وقام من فوره فدخل على الناصر واعتذر واعترف بالخطأ وسأل العفو فأمره أن يقيم ابنه علاء الدين على موضع شهاب الدين وأن يلزم شهاب الدين بيته فاتفق موت أبيه عن قرب واستقرار أخيه علاء الدين فرفع الشهاب قصة يسأل فيها السفر إلى الشام فحركت ما كان ساكنا فأمر الدويدار فطلبه ورسم عليه وصادره واعتقله في شعبان سنة 39 فاتفق أن بعض الكتاب كان نقل عنه أنه زور توقيعا فأمر الناصر بقطع يده فقطعت وسجن فرفع قصة يسأل فيها الإفراج عنه فسأل عنه الناصر فلم يجد من يعرف خبره ولا سبب سجنه فقالوا اسألوا أحمد بن فضل الله فسألوه فعرف قصته وأخبر بها مفصلة فأمر الناصر بالإفراج عنه وعن الرجل وذلك في شهر ربيع الآخر سنة 40 واستدعاه الناصر فاستحلفه على المناصحة فدخل دمشق في المحرم سنة 41 فباشرها عوضا عن الشهاب يحيى ابن القيسراني فلم يزل إلى ان عزل بأخيه بدر الدين في ثالث صفر سنة 43 ورسم عليه بالفلكية أربعة أشهر وطلب إلى مصر لكثرة الشكايات منه فشفع فيه أخوه علاء الدين فعاد إلى دمشق بطالا فلما وقع الطاعون عزم على الحج ثم توجه بأهله إلى القدس فماتت فدفنها ورجع فمات بحمى ربع أصابته فقضى يوم عرفة سنة 749 وكان أصل نسبته إلى عمر بن الخطاب وصنف كتابه فواصل السمر في فضائل آل عمر في أربع مجلدات وعمل مسالك الأبصار في أزيد من عشرين مجلدا والتعريف بالمصطلح الشريف وأشياء لطاف كثيرة وله شعر كثير جدا ولكنه وسط ذكره الذهبي في المعجم المختص فقال ولد سنة 700 وسمع الحديث وقرأ على الشيوخ وسمع معي من ست القضاة بنت الشيرازي وله تصانيف كثيرة أدبية وباع طويل في الصناعتين وبراعة في البلاغتين والله أعلم

  • مجلس دائرة المعارف العثمانية - صيدر اباد/ الهند-ط 2( 1972) , ج: 1- ص: 0

أبو العباس أحمد بن يحيى بن فضل الله العدوي العمري ولد بدمشق في ثالث شوال سنة 700.
له تصانيف: صنف فواضل السمر، فضائل عمر في أربع مجلدات، وكتاب مسالك الأبصار، في ممالك الأمصار في سبعة وعشرين مجلدا، وهو كتاب حافل ما صنف مثله، والدعوة المستجابة في مجلد، وصبابة المشتاق. في مجلد، وديوان المدائح النبوية، وسفرة السفرة، ودمعة الباكي، ويقظات الساهر، ونفحة الروض، والمبكيات، والتعريف بالمصطلح الشريف وغير ذلك.
له نظم منه:

وله أيضا:
توفي سنة 749.

  • دار التراث العربي - القاهرة-ط 1( 1972) , ج: 1- ص: 0