مصطفى البكري ابن كمال الدين بن علي بن كمال الدين بن عبد القادر محيي الدين الصديقي الحنفي الدمشقي البكري الاستاذ الكبير والعارف الرباني الشهير صاحب الكشف والواحد المعدود بألف كان مغترفا من بحر الولاية مقدما إلى غاية الفضل والنهاية مستضأ بنور الشريعة رطب اللسان بالتلاوة صاحب العوارف والمعارف والتآليف والتحريرات والآثار التي اشتهرت شرقا وغربا وبعد صيتها في الناس عجما وعربا أحد أفراد الزمان وصناديد الأجلاء من العلماء الأعلام والأولياء العظام العالم العلامة الأوحد أبو المعارف قطب الدين ولد بدمشق في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وألف وتوفي والده الشيخ كمال الدين وعمره ستة أشهر فنشأ يتيما موفقا في حجر ابن عمه المولى أحمد بن كمال الدين بن عبد القادر الصديقي المقدم ذكره وبقي عنده في دارهم الكائنة قرب البيمارستان النوري واشتغل بطلب العلم بدمشق فقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن محيي الدين السليمي الشهير بالمجلد والشيخ محمد أبي المواهب الحنبلي وكان يطالع له الدروس الشيخ محمد بن إبراهيم الدلدكجي ومع ذلك قرأ عليه متن الاستعارات وشرحها للعصام وحضر على الشيخ أبي المواهب المذكور شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر وأخذ أيضا عن الملا الياس بن إبراهيم الكوراني والمحب محمد بن محمود الحبال وأبي النور عثمان بن الشمعة والشيخ عبد الرحيم الطواقي والعماد إسمعيل بن محمد العجلوني وملا عبد الرحيم بن محمد الكابلي وأجاز له الشيخ محمد بن محمد البديري الدمياطي الشهير بابن الميت وأخذ عنه المسلسل بالأولية ولازم الأستاذ الشيخ عبد الغني بن إسمعيل النابلسي وقرأ عليه التدبيرات الألهية والفصوص وعنقاء مغرب ثلاثتها للشيخ الأكبر قدس سره وقرأ عليه مواضع متفرقة من الفتوحات المكية وطرفا من الفقه وأخذ الطريقة الخلوتية عن الشيخ عبد اللطيف بن حسام الدين الحلبي الخلوتي ولقنه الأسماء وعرفه حقيقة الفرق بين الأسم والمسمى وفي سنة تسع عشرة ومائة وألف سكن إيوان المدرسة الباذرائية ونزل في حجرة بها بقصد الانفراد والاشتغال بالأذكار والأوراد وأذن له شيخه المرقوم بالمبايعة والتخليف سنة عشرين أذنا عاما فبايع في حياته وكانت تلك أزهر أوقاته وسمعه مرة يقول الجنيد لم يظفر طول عمره إلا بصاحب ونصف فقال له وكم ظفرتم أنتم بمن يوصف بالتمام فقال له أنت إن شاء الله ثم إن شيخه المرقوم دعاه داعي الحق فلبي ثم إن تلامذته توجهوا إلى صاحب الترجمة واجتمعوا عليه وجددوا أخذ البيعة عنه فشاع خبره وذاع أمره وكثر جمع جماعته إلى سنة اثنين وعشرين وفي تاسع عشر محرم وهو يوم الخميس توجه من دمشق الشام إلى زيارة بيت المقدس وهناك أخذ عنه جماعة الطريق ونشر ألوية الأوراد والأذكار وتوجه إلى زيارة الامام العارف سيدي علي ابن عليل العمري وهو على ساحل البحر قرب اسكلة يافا فاتفق إنه اجتمع بالشيخ الامام نجم الدين بن خير الدين الرملي وكان أيضا قادما بقصد الزيارة فسمع عليه صاحب الترجمة أول الموطا للامام مالك بن أن من رواية الامام محمد بن الحسن الشيباني بروايته له عن والده الخير الرملي بسنده المعلوم وأجازه بباقيه وبجميع ما يجوز له روايته ثم عاد صاحب الترجمة بعد استيفاء غالب الزيارات إلى زيارة نبي الله السيد موسى الكليم صلى الله على نبينا وعليه وسلم وبعد حضوره للقدس شرع في تصنيف ورد السحر المسمى بالفتح القدسي والكشف الأنسي على ما هو مرتب من الحروف وهو ورد يقرأ في آخر الليل لكل مربد من تلاميذ طريقته وأمر جماعته بقراءته وقد اعترض عليه بعض المخذولين بأن ذلك بدعة في الطريق فعرضه على الامام الشيخ حسن ابن الشيخ علي قره باش في أدرنة فأجاب بأنه لا بأس به وحيث انكم رأيتموه مناسبا فهو المناسب ثم عاد إلى دمشق في شعبان من السنة المرقومة وانتشرت طريقته وخفقت في الاقليم الشامي ألويته وهو فيما بين ذلك مشتغل بالتآليف والزيارات نازلا في المدرسة الباذرائية كما تقدم غير ملتفت إلى أحوال بني عمه من حب الجاه والمناصب واستقام على ذلك إلى سنة ست وعشرين ففي غرة شعبان منها هم على زيارة بيت المقدس فتوجه إليها ونزل خلوة في المسجد الأقصى وأقام هناك في إقامة الطريق والأذكار ونشر العلم إلى شعبان فعاد إلى دمشق وأقام بها كذلك ثم توجه منها إلى حلب الشهباء ومنها ذهب إلى بغداد إلى زيارة الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وأقام بها نحو شهرين ثم رجع وتوجه إلى زيارة سيدي إبراهيم بن أدهم ثم تنقل بعد ذلك للسياحة في البلاد الشامية لأجل زيارة من بها من الأولياء ثم دخل بيت المقدس وعمر به الخلوة التحتانية وهي التي تنسب إليه وبها تقام الأذكار والأوراد ولها تعيين من خبز وأكل على تكية السلطان لمن بها أقام وفي جمادي الثانية سنة تسع وعشرين توجه راجعا إلى دمشق واجتمع بالسيد محمد ابن مولاي أحمد التافلاتي وكان تقدم اجتماعه به في طرابلس الشام أوقاتا مفيدة ونزل صاحب الترجمة في حجرة بالمدرسة الباذرائية وفي شهر رمضان عزم عمه محمد أفندي البكري على الحج فتوجه معه لأنه كان يتناول ما يخصه من أملاكهم وخرج معه إلى أن عاد إلى الشام وكان عمه وعده بتزويج ابنته فلم يتيسر ذلك ثم رحل إلى الديار القدسية ووصلها آخر ذي القعدة فتزوج هناك وأرخ زفافه بعضهم بقوله زفت الزاهراء للقمر وأقام هناك غير فارغ ولالاه مشتغلا بما فيه رضي مولاه إلى أن قدم والي مصر من جهة دمشق لزيارة بيت المقدس وهو الوزير رجب باشا فزار صاحب الترجمة وصار له فيه مزيد الاعتقاد ولما ذهب إلى الديار المصرية اصطحبه معه فدخل مصر وأقام بها مدة وأخذ عنه بها خلق كثيرون أجلهم النجم محمد بن سالم الحفني ثم توجه إلى زيارة القطب العارف سيدي السيد أحمد البدوي قدس الله سره ومن هناك سار إلى دمياط وأقام هناك في جامع البحر وأخذ بها عن علامتها الشمس محمد البديري الشهير بابن الميت وقرأ عليه الكتب الستة والمسلسل بالأولية وبالمصافحة وبلفظ أنا أحبك وأجازه اجازة عامة بسائر مروياته وتأليفاته ثم رجع إلى بلده بيت المقدس على طريق البحر وأقام بها خمسة عشر يوما ومنها إلى حمص ومنها إلى حماة ونزل في بيت السيد يس القادري الكيلاني شيخ الجادة القادرية بحماة فأخذ عنه الطريقة القادرية ومنها رحل إلى حلب وكان واليها الوزير المقدم ذكره وأخذ عنه بها جماعة منهم الشيخ أحمد بن أحمد خطيب الخسروية الشهير بالبني وفي آخر شهر رجب الحرام توجه إلى دار السلطنة العلية قسطنطينية المحمية على طريق البر فدخلها في سابع عشري شعبان ونزل مدرسة سورتي مدة وبعدها تنقل في كثير من المدارس والأماكن ومكث بتلك البلاد معتكفا على التأليف والنظم في السلوك وحقائقه غير مشتغل بأمر من أمور الدنيا ولا توجه فيها إلى أحد من أرباب مناصبها وكان كلما سكن في جهة وشاع خبره فيها وقصده أهلها يرتحل إلى أخرى أبعد ما يكون عنها وهلم جرا وفيها كان يجتمع بالامام الكامل السيد محمد بن أحمد التافلاتي المقدم ذكره وهو شيخه من وجه وتلميذه من آخر فإن صاحب الترجمة كان يقول عنه تارة شيخنا وأخرى محبنا ولم يزل بها مقيما ينفق من حيث لا يحتسب ولا يصل إليه من أحد شيء أبدا وفي سنة سبع وثلاثين ومائة وألف أخذ العهد العام على جميع طوائف الجان أن لا يؤذوا أحدا من مريديه الذين أخذوا عنه أو عن ذريته بمشهد كان فيه السيد التافلاتي وغيره من المريدين وأفاد هو قدس سره أن إقامته هذه المدة في الديار الرومية كانت لأمور اقتضتها أحكام القدرة الألهية ولما ضاق صدره واشتاق إلى رؤية أهله توجه بمن معه إلى أسكدار في ثالث محرم سنة تسع وثلاثين وسار على طريق البر فدخل حلب الشهباء في صفر ونزل الخسروية مجاورا للشيخ أحمد البني ثم في ثاني شهر ربيع الأول توجه قاصدا للعراق لزيارة سكانه ووصل إلى بغداد في آخر جمادي الأولى ونزل في التكية القادرية ملازما ومشاهدا تلك الأنوار والأطوار القادرية ولم يدع مزارا إلا وزاره ولا ما يتبرك به إلا أحل به قراره وجاءه في أثناء ذلك مكتوب من شيخه الأستاذ الشيخ عبد الغني النابلسي يحثه فيه على العود للديار الشامية لأجل والدته فهم على المسير وفي أوائل صفر الخير عزم على العود إلى المنازل الشامية وفي الثاني والعشرين منه وصل إلى الموصل ومنها دخل إلى حلب ونزل في الخسروية في خلوة الشيخ أحمد البني وكان يقيم فيها الأذكار ويحضر ورد السحر ما يفوق على الخمسين بمقدار وفي ثامن شوال توجه منها إلى دمشق فوصلها ونزل في دار الشيخ إسمعيل العجلوني الجراحي وبعد مدة أيام الضيافة نزل حجرته في المدرسة الباذرائية وبعد برهة زار الأستاذ الشيخ عبد الغني فرآه يقرأ في التدبيرات الألهية ولم تطل إقامته بها بل شمر عن ساعد الهمة إلى الأراضي المقدسة ذات الابتسام فرحل متوجها إلى أراضي القاع العزيزي وبلاد صفد وفي أوائل ذي الحجة سنة أربعين ومائة وألف ولد له شيخنا السيد محمد كمال الدين وأرخ مولده صاحب الترجمة بقوله:
في ليلة الجمعة من أنصافها | ثالث شعبان أتى غلام |
وفيه بشرت قبيل ما أتى | وبعده فسرني الانعام |
ختام مسك قد حواه يفتدي | فأرخوا محمد ختام |
الشدة أودت بالمهج | يا رب فعجل بالفرج |
قضت رومية البكري أن لا | تضاهيها مقامات الحريري |
فهذي درة الغواص تدعى | وأين الدر من نسج الحرير |
تقول مقامات الحريري إن رأت | مقامة هذا القطب كالكوكب الدري |
تضاءل قدري عندها ولطائفي | وأين ثرى الأقدام من أنفس الدر |
فهذي لأهل الظرف تبدي ظرائفا | وللواصل المشتاق من أعظم السر |
فكيف ومنشيها فريد زمانه | أجل همام قال نوديت في سري |
وإني وإن كنت الأخير زمانه | لآت بما لم تسطعه الأوائل |
صد عني فرد التثني لأني | في هواه ما زال كلي يصبو |
وتمادى في الهجر يبدي دلالا | وجواد الوداد لم يك يكبو |
ليت ذا قبل أن يذيق لماه | في حماه وقبل شوقي يربو |
من بالوصل ثم أعرض عني | سلوة قطعه العوائد صعب |
فتطلبت سلمه دون حرب | حيث قلبي ما مسه عنه قلب |
فانثنى نافرا وزاد تجني | هكذا هكذا الغزال المحب |
وبهذا تم الغرام ووجدي | ثار والشوق ناره ليس تخبو |
ولصبري فقدت من فرط كتمي | ما على فاقد التصبر عتب |
ولمن قد هويت ذكرت أشدو | قول صب ذاق النوى وهو خطب |
ما جزا من يصد إلا صدود | وجزا من يحب إلا يحب |
يا فريد الجمال لا تجف صبا | صب دمع العيون كالسحب صبا |
لم يمل قلبه إلى الغير قلبا | غائبا في الشهود ما زال حبا |
لا وحق الجمال يا نور عيني | ما حلا غيركم لقلبي وعيني |
وجلال جلا غياهب غيني | ووصال الوصال من عين عيني |
ما هب من نحوكم نسيم صبا | إلا وقلب الفتى إليه صبا |
ولا سرى حادي لأرضكم | إلا وأذكى بمهجتي لهبا |
ولا شدا مطرب بقربكم | إلا براني وجدا بكم إربا |
ولا دنوتم لناظري زمنا | إلا ونادى المشوق وأطربا |
ولا تذكرت عيشة سلفت | بالخيف إلا وصحت واحربا |
ولا تحدثت عن وصالكم | إلا وأجريت أدمعي سحبا |
لله أيام نزهة شرفت | في ظل من شرفوا مني وقبا |
أيام كنا مع الحبيب بها | نطوف نسعى نقضي الذي وجبا |
نشرب من زمزم الصفا سحرا | إذ زمزم الشاد بالوفا حقبا |
يمم إلى حيث من لحاني سرى | لم يقض من عذله الذي طلبا |
يا حبذا لوعتي عليك ويا | هناء قلبي إن صرت فيك هبا |
ويا سروري ويا مناي ويا | بشراي إن مت فيك مكتئبا |
لا نال منك المحب مطلبه | إن كان يوما إلى السوى ذهبا |
ولا عيون الغيون ترمقكم | إن غيركم لمحة لها جذبا |
آها لأيامنا بقربكم | وطيب وقت لبى به سلبا |
ومجلس بالصفاء مجتمع | وأنس عيش كل الهنا جلبا |
ما كان أحلاه إذ بمنبره | سامي خطيب السرور قد خطبا |
عدوا بوصلي فالقلب يقنعه | وعدو لو بالمطال لي نهبا |
أفنى بكم يا أهيل كاظمة | أم للقا ساعة أرى سببا |
أحبابنا هل لقربكم أجد | وهل لهجري عن باب فجري نبا |
إن كان إعراضكم لغفلتنا | أو أنكم لم تروا لنا أدبا |
فالنقص فينا والعفو صفوكم | نرجوه من فضل ذاتكم رغبا |
أو كان من هفوة معوقة | كم من جواد حال المجال كبا |
وصارم شحذوه ثم نبا | وكم زناد في الاقتداح خبا |
غفرا حماة الحمى فعبدكم | ما نال من غاية الثنا طنبا |
يا سائق النوق عن مرابعهم | وشائقا للدنو نحو خبا |
بالله إن جزت بالحمى سحرا | بلغ سلامي أهل الربا وقبا |
وقل لهم ذلك الكئيب قضى | وعمره بالبعاد قد قضبا |
وما قضيتم له مآربه | وما قضى من وصالكم أربا |
ثم الصلاة كذا السلام على | خير نبي عجما علا عربا |
والآل والصحب ما بحبهم | صب التهاني قد ذوق الضربا |
وتابع ساد حين شاد بهم | بيت التداني ونال كل حبا |
أو مصطفى بانتسابه لكم | سما استناد أو نسبة حسبا |
هذا مقام القطب مفرد وقته | أصل الحقيقة فرعها الحد ثاني |
هو مصطفى البكري سبط محمد | نجل الصديق الخلوتي الرباني |
لا زال يسقى تربه من صيب | هطل يساق برحمة الرضوان |
دار البشائر الإسلامية / دار ابن حزم-ط 3( 1988) , ج: 4- ص: 190