التصنيفات

محمد بن محمد الطيب المالكي الحنفي التافلاتي المغربي مفتي القدس الشريف علامة العصر الفائق على أقرانه من كبير وصغير وله الفضل الباهر وكان في الأدب الفرد الكامل له الشعر الحسن مع البداهة في ذلك وسرعة نظمه وذكاؤه يشق دياجر المشكلات ولد بالمغرب الأقصى وحفظ القرآن على طريق الامام الداني وهو ابن ثمان سنين ثم اشتغل في حفظ المتون على والده وكان والده متوسطا في العلم بين أماجده وقرأ عليه الآجرومية وعلى الشيخ محمد السعدي الجزائري السنوسية ومنظومة في العبادات مختصرة في المسائل الفقهية ودرس السنوسية للطلاب قبل أوان الاحتلام ورحل من بلاده في البر إلى طرابلس الغرب وما وجبت عليه صلاة ولا صيام ومن طرابلس ركب البحر إلى الجامع الأزهر فطلب العلم بمصر سنتين وثمانية أشهر وأخذ عن شيوخه الآتي ذكرهم ثم سافر لزيارة والده في البحر فأسره الفرنج وذهبوا به إلى مالطة مركز الكفر ثم نجاه الله تعالى بعد سنتين وأيام وناظرته رهبان النصارى مناظرة واسعة وكان فيهم راهب له دراية بالمسائل المنطقية والعربية ويزعم أن همته بارعة وكانت مدة المناظرة نحو ثمانية أيام فأخرسهم الله وأكبتهم ووقعوا في حيص بيص وألجموا بلجام الالزام فمن جملة مناظرتهم معه في ألوهية عيسى أن قال كبيرهم يا محمدي إن حقيقة عيسى امتزجت مع حقيقة الاله فصارتا حقيقة واحدة قال فقلت له لا يخلو الأمر فيهما قبل امتزاجهما أما أن تكون قديمتين أو حاثتين أو إحداهما قديمة والأخرى حادثة وكل الاحتمالات باطلة فالامتزاج على كل الاحتمالات باطل أما على الأول فإن الامتزاج مفض للحدوث قطعا لأنه تركيب بعد إفراد وكل تركيب كذلك لا محالة حادث والحادث لا يصلح للالوهية وأما الثاني فظاهر البطلان وأما الثالث بوجهيه فباطل أيضا لأن القديمة منهما بعد الامتزاج يلزم حدوثها والحادثة منهما بعده يلزم قدمها فيؤدى إلى قلب الحقائق وقلبها محل ويلزم أيضا اجتماع الضدين وهو باطل باتفاق العقول ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا في هذا الطريق قال لي كبيرهم عقولنا لا تصل لهذا الأمر الدقيق فقلت له هذا عندنا من علوم أهل البداية لا من علوم أهل النهاية فبهت الذي كفر وعبس واكفهر ثم قلت لكبيرهم بالله عليك أعيسى كان يعبد الصليب قال لا وإنما ظهر الصليب بعد قتله على زعمهم ونحن نعبد شبيه الاله فقلت له بالله عليك الله شبيه قال لا فقلت له يجب عليكم حرق هذه الصلبان بالزفت والقطران فاستشاط غيظا وقال لي كنت أوقعك في المهالك وأجعلك عبرة لكن الله أمرنا بحب الأعداء فقلت له لكن الله أمرنا ببغض الأعداء فقال لي إذا شريعتنا كاملة فقلت له على طريقة الاستهزاء شريعتكم كاملة لأنها تعبد الأصنام والصلبان وشريعتنا ناقصة لأنها تعبد الله وحده لا شريك له فاشتد غضبه حتى كاد أن يبطش بي ولكن الله سلم لمزيد اللطف بي ثم إن كبيرهم قال لي يا محمدي إني رأيت في كتبكم الحديثية أن نبيكم انشق له القمر نصفين فدخل نصفه من كم ونصفه من الكم الآخر وخرج تاما من جيب صدره ومساحة البدر مثل الدنيا ثلاث مرات وثلث وهي ثلاثمائة وثلاث وثلاثون سنة وثلث فما هذه الخرافات فقلت له أما ورد أن ابليس جاء لسيدنا ادريس وهو يخيط بالابرة وبيده قشرة بيضة وقال له أيقدر ربك أن يجعل الدنيا في قشرة هذه البيضة فقال لي نعم ورد ذلك فقلت له كيف يقدر فقال إما أن يكبر القشرة أ يصغر الدنيا فقلت له سبحان الله تحلونه عاما وتحرمونه عاما وإذا سلمت هذا فلم لا تسلمه لنبينا فغص بريقه واصفر وعبس وتولى فقتل كيف قدر وهذا الجواب مني من باب ارخاء العنان للالزام وإلا فدخول نصفي البدر في الكمين باطل عند جميع المحدثين الأعلام لكن كبيرهم لا يعرف اصطلاح علمائنا ذوي المقام العالي فلو أجبته ببطلانه لقال لي رأيته في كتبكم فلا يصغي لمقالي فلذلك دافعته بالبرهان القطعي العقلي لأنه لا يمتثل بعد ما رآه للدليل النقلي ثم إن كبيرهم في ميدان البحث أنكر نبوة نبينا السيد الكامل وقال إنه عندنا ملك عادل فقلت له ما المانع من نبوته فقال نحن لا نقول بها وإنما نقول بشدة صولته فقلت له أليس النبي الذي أتى بالمعجزات وأخبر بالمغيبات فقال كبيرهم أي معجزة أتى بها وأي مغيبات أخبر بها فسردت له بعض المعجزات وأعظمها القرآن وذكرت له بعض المغيبات فقال لي رأيت البخاري من علمائكم ذكر بعضها ثم قال لي إنما علمه ذلك الغلام يشير لقوله تعالى إنما يعلمه بشر فقلت له بالله عليك لسان ذلك الغلام ماذا قال أعجمي فقلت له بالله عليك لسان بيننا ماذا قال عربي قلت له بالله عليك نبينا يقرأ ويكتب أم أمي قال أمي لا يقرأ ولا يكتب فقلت له بالله عليك هل سمعت عربيا يتعلم من عجمي قال لا فأفحم في الجواب وانقطع عن الخطاب ثم قال لي كيف يقول قرآنكم يا أخت هرون وبينه وبينها ألف من السنين فقلت له أنت أعجمي لا تعرف لغة العرب كيف مبناها فقال لي وكيف ذلك فقلت له يطلق الأخ في لغتهم على الأخ النسبي وعلى الأخ الوصفي والمراد هنا الثاني ومعنى الآية يا أيتها المتصفة عندنا بالعفة والديانة والعبودية مثل هرون الموصوف بتلك الصفات الكاملة وهذا المعنى في لسان العرب شائع وفي مجاراتهم ومجاري أساليبهم ذائع فوقف حمار الشيخ في الطين ولما رآني صغير السن وكان سني إذ ذاك نحو تسع عشرة سنة قال لي تصلح أن تكون مثل ولد ولدي فمن أين جاءتك هذه المعرفة التامة فقلت له جميع ما سألتني عنه هو من علوم البداية ولو خضت معي في مقام النهاية لأسمعتك ما يصم أذنيك وفي هذا القدر كفاية فترك المناظرة ورجع القهقري وشاع صيتي في مالطة بين الرهبان والكبراء وكنت إذا مررت في السوق يحترموني وما خدمت كافرا قط وكان سبب خلاصي رؤيا مبشرة من يومها ركبت سفينة النجاة متوجها لأسكندرية ثم منها لمصر القاهرة ثم سافرت للحجاز مرارا ودخلت اليمن وعمان البحرين والبصرة وحلب ودمشق وتوجهت للروم ثم ألقيت عصا التسيار في بيت المقدس العطير الأطوار وجاءتني الفتيا وأنا لها كاره وأنشد قول من قال

وتمثلت ببيتي امرئ القيس وهما بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه الخ ولما وصلت للروم باب المراد وتمتعت بتلك المهاد متوجا بتاج فتوى الحنفية إلى القدس الشريف الرفيعة العماد وعزل مرارا وأخذ عن أجلاء منهم الشمس محمد بن سالم الحفني وعلى أخيه الشيخ يوسف الحفني والشيخ أحمد الملوي وعن الشيخ علي العروسي والسيد محمد البليدي بفتح الباء والشيخ أحمد الجوهري والشيخ أحمد الأشبولي نزيل الحرم المكي والشيخ أحمد الدمنهوري والشيخ عمر الطحلاوي والشمس محمد العمادي والشيخ عبد الرحمن اللطفي وغيرهم ناس كثيرون وأما تصانيفه فإنها ناهزت الثمانين ما بين منظوم ومنثور وكتب ورسائل في فنون شتى وأما نظمه فهو رائق جدا فمنه قوله وكتب به لبعض أحبابه مذيلا على بيت امرئ القيس
فأجابه بقوله
وللمترجم
وله أيضا
وكتب إليه بعض أحبابه بقوله مضمنا
فأجابه بقوله
وللمترجم مضمنا
وله من قصيدة
ومن شعره وكان وقع شتاء وثلج في نيسان أكثر من كانون
ومن شعره قوله مضمنا المصراع الأخير
ومن مستملحاته الشعرية في مسئلة فقهية
ومراسلاته وأشعاره كثيرة وكانت وفاته في القدس في ذي القعدة سنة احدى وتسعين ومائة وألف ودفن بمقبرة مأمن الله رحمه الله تعالى.

  • دار البشائر الإسلامية / دار ابن حزم-ط 3( 1988) , ج: 4- ص: 102