أحمد الكيواني أحمد بن حسين باشا بن مصطفى بن حسين بن محمد بن كيوان الشهير بالكيواني الدمشقي مفد الزمان وحسنته الاديب الشاعر والأديب الماهر كان سميدعا عارفا بارعا كاملا كاتبا فاضلا له يد طولى في العلوم وفنون الآداب ومهارة تامة خصوصا بالانشاء والنظم والنثرة براعة في الكناية بحيث تفرد بحسن الخط بوقته مع معارف تامة وخط أخذ من الحسن وافر الحظ فلو رآه ابن مقلة لانبهر من صنائع كتابته وياقوت الوقف قلمه عند بدائع براعته ولد بدمشق ونشأ بها وارتحل إلى مصر واستقام بها مدة سنين وطلب العلم على جماعة أجلاء وحضر على الشيخ محمد الدلجي في النحو وعلى أحمد الاسقاطي الحنفي بالفقه وغيرهما من العلماء ومن مشايخه بدمشق الشمس محمد بن عبد الرحمن الغزي العامري الشافعي الدمشقي وأخذ الخط عن الكاتب الشيخ محمد العمري الدمشقي وأجيز بالكتابة المعروفة عند أرباب الخط وأخذه عنه الناس ونظم ونثر وسلب برقتهما عقول البشر وكان بدمشق غالب جلوسه في حانوت بسوق الدرويشية يجتمع عنده زمرة الادباء والكمل على لعب الشطرنج وله فيه ارجوزة عجيبة وكان هو أحد أعيان جند أوجاق اليرلية بدمشق والمشار إليه بهم ووالده كان أمير الامراء تولى حكومة القدس وعجلون وغيرها وهذا المترجم كان فيما أعلم وأتحققه درة في جيد دهره وغرة في جبهة عصره ولما وفد إلى دمشق المولى السامي عثمان الشهير بالخلصة صاحب الوقف بدمشق وكتخدا الوزير الأعظم أراد الاجتماع برجل من الأدباء فجىء له بصاحب الترجمة فرآه مستوفي الشروط من جميع أدوات الظرف وطبق مشربه فلما ذهب إلى الروم واصطحبه معه وحصل له منه غايت الأماني والاكرام وصرف كليته إليه واقبل بالتعظيم عليه والذي حصل له منه من الاكرام لم يحصل إلى أحد وكان المولى المذكور يمينه بما يروم وسوداؤه تخيل له أشياء أخر وذهب معه إلى السفر فلما قتل عاد إلى قسطنطينية ومنها عاد إلى الشام وكان رحمه الله مع أدبه سوداؤه تنفره عن الناس ومعاشرتهم وتخيل له أشياء غريبة فبسببها كان يندب زمانه ولما ولي حكومة دمشق الشام الوزير الشهير عبد الله باشا المعروف بالشنجي وكان كاتبا فاضلا له اطلاع في العلوم ومعرفة حتى انه ألف كتابا سماه أنهار الجنان في آي القرآن رتبه على طريقة ترتيب ذيبا في الآيات القرآنية وزاد أشياء أخر وكان وزيرا شجاعا مقداما سخيا لم تكتحل عين الأوقات والزمان برؤيا مثله ولما وفد إلى دمشق كأنت إذ ذاك مشحونة بالفتن وخروج الأشقياء بها فمهد ما كان وأزال الاشقياء ضر بالسيوف ومحامهم وجاء بعسكر غزير إلى دمشق مختلف الأجناس ثم إنه بعد ذلك أصلحت دمشق وطافت غارت إليه الأدباء وأهلها وقابلهم بمزيد الاكرام مع التوقير والاحترام ومدح بالقصائد الغرر وكان ممن مدحه صاحب الترجمة ولما اجتمع به قابله بالاعزاز ومنحه بالاكرام الوافر وصارت عنده الرتبة العظمى والمقام الأكبر وكان الأديب الشيخ سعيد ابن السمان يسمى ديوان المترجم بالملطمة حسد منه لأنه في محل المشكلات لا يصح أن يصير تلميذا له لأن المترجم نوع وابن السمان نوع أخر وصحيح القول انه في هذا القرن كالأمير منجك المنجكي في القرن الماضي بل أرجح وإن لم يكن أرجح منه فهو مقارن له وعلى كل حال فهو فرد الدهر أدبا وفضلا ونظما ونثرا وترجمه ابن السمان المذكور آنفا في كتابه الذي ترجم به شعراء دمشق وقال في وصفه بقية القوم الذين مضو وسنوا الندى وفرضوا ودان لهم المجد فرضوا احتفل به الكمال احتفال الصاحب بابن هلال وأحاط بأطرافه إحاطة الهالة بالهلال فتقاسمه عضوا عضوا وأودعه من الاناءة ما يطيش دونه رضوى فأنتدب لإقامة برهانه وإحراز السبق في حومة رهانه فرأى عبا بافخاض واعتاص بالجواهر عن الأعراض منتقيا منها الجياد ومختار ما يهزأ بقلائد الأجياد برقة تحسدها الألطاف وفكاهة خنية القطاف ومحاضرات بها لراغب واله وحديث بالرقة لم يسنج على منواله وطبع يسابق حاتم بالكرم وغيره ينفخ في غير ضرم وقلم بنوادر المعاني ندى ومداد عنبري الفوحة ندى وخط نزهة العاشق والروضة الغنا للمستعبر الناشق أشهى من العارض المزرد إذا استدار بالخد للورد وأما شعره فإنه التبر المذاب والرشفات من الثنايا العذاب استخلصه من حكم هي من جوامع الكلم واستودعه ما هو من قول لو وليت سلم فإذا وصف الرياض أغنى عن إملاء ذات الأطواق وإذا ترسل في الغرام علم ابن الدمنة الاشواق أو ندب الاطلال انسى قفا نبك أو أنتقل إلى النشيب في الآرام فما أبو عبادة في حسن السبك إلا أنه من الانفة في مناط الثريا قاد حابها من الأوهام زندا وريا تخيل له سوداؤه آراء شاسعه يسلك منها سبلا واسعه فلا يرضى من الأيام إلا بالاستحدام وهي تصول على أمانيه صولة إقدام فيعتبها بقصيد ويوسعها من تأنيبه وتفنبده
من كل معنى تكاد تشربه في كل مغنى مسامع الأدب على أن غالب شعره في ذلك مشحون لا يشوبه على كثرته غش ولا ملحون وهو ممن جاب البلاد وسبر أغواها والأنجاد وكنت وإياه بمصر والشباب به كلف نختلف لمبادرة الأدب ولا نختف وقد أنسيت به الطارف والتليد واستعوضت بصحبته عن الحميم والوليد وحين عصفت بي إلى الروم رياح القدر رأيت هلاله في أفق سمائها بدر وهو في كنف بعض رؤسائها والحظوة تلحظه وشيم المعالي مطمحه وملحظه ترنو إليه الدنيا وهو يرمقها شزرا حتى عادت إلى طبعها فأوسعته ملامة وزجرا فرجع منها بخفي حنين خأوى الراحة صفر اليدين فكأنما ارته أضغاثا وخيلت له الأجادل بغاثا وأراد أن يستقبل من أمره ما استدير فلم يجد ما قدر وما دبر
على المرء أن يسعى لما فيه نفعه | وليس عليه أن يساعده الدهر |
قفوا بالناجيات على زرود | تناج دوراس الدمن الهمود |
نحى حمى زرود بالقوافي | ونبك عليه بالدمع البديد |
على اطلالها وكف الغوادي | بعرصتها ودمدمة الرعود |
تعرت من بشاشتها وأضحى | يسر محولها قلب الحسود |
وأخلق ثوب جدتها وكأنت | مفوفة الدر انك والبردود |
وقد كأنت تهش لزائريها | منازلها وتضحك للوفود |
سقى أيامنا بزرود غيث | يجود مدى الزمان على زرود |
ليالي باللقا بيض أعبضت | بأيام من التفريق سود |
ولي كبد بذاك الجوحري | تلوب بها من الظمأ الشديد |
وقلب لا يعنف بالتسلي | ودمع لا يغير بالخمود |
وركب أدلجوا والليل مرس | بكلكاء على قب وقود |
أبادوا العيس مما كلفوها | دؤوبا قطع بيد بعد بيد |
وما زال الهوى والشوق يرمى | براكبه إلى أمد بعيد |
إذا أنوا من الأشواق أنت | من الجهد المبرح والوخيد |
ترامى كالسهام بهم وترمى | بخوص عيونهن إلى الورود |
فقد ألفوا بها قطع الفيافي | وقد مرنت على حن القتود |
تشف جسومهم عن جمر وجد | ويبدو عظمهن من الجلود |
إلى أن ثار جيش الصبح يسطو | على الظلماء خفاق البنود |
فكفوا الزجر عن عيسى تفايت | وخروا كالسجود على الصعيد |
فرحت أسائل الركبان عمن | أضاعوني ولم يرعوا عهودي |
رمى كبدي بثالثة الأثافي | زمان حكمه حكم الوليد |
زمان أخرق قد راح سكرا | يجر ذيول جبار عنيد |
يريك الباز من خدم الحبارى | وأسد الغاب من خول القرود |
وأجدل مرقب يمسي غراب | يهدده بأنواع الوعيد |
وأيام غضاب لا بجرم | على الأحرار معلنة الحقود |
دعا داعي الحمام بعز قومي | فوافوه على خيل البريد |
وأودعهم لحود ابل جفونا | كذا الأسياف تودع في الغمود |
مضوا وبقيت بعدهم فريدا | أقاسي وحشة الفرد الوحيد |
أزى عارا وقد أودوا حياتي | فآنف من بقاي ومن وجودي |
اكفكف كلما ذكروا دموعي | فعصيني وثأبي غير جود |
ترامي همتي في كل مرمى | وأرسف من همومي في قيودي |
وأطوي أضلعا ملئت غراما | لتقصيري على نفس مديد |
اعل بآجن رفق وامرى | عفافة بلغة دون الزهيد |
ترفق يا زمان فما فؤادي | بصلد لا يلين ولا جليد |
وليس القلب من حجر فيبقى | على هذا ولا أنا من حديد |
رويدك لا تحأول ماء وجهي | وهاك ان اشتهيت دم الوريد |
ولا تحسب حياتي فيك منا | فإني لست أرغب في الخلود |
وهاتفة تملي حديث صبابة | على غصن عال من الرند ميال |
فنبه أشواقي ووجدي سجعها | ولم أك سال عن هواها ولا سالي |
كان غليل الشوق بين جوانحي | لسان لهيب دب في جسم زبال |
فيا حر أشواقي ويا طول غربتي | وواكبدي الحري وواجسمي البالي |
رمتني الليالي بالغرف فجذذت | بسيف النوى قلبي وكفي وأوصالي |
فإن تردني الأيام أبقى بحسرتي | ويبقى الهوى والشوق أسرع قتال |
وإن تبقني حيا لحزني والضنا | اعش كاسفا بالابهم وأوجال |
كفى حزنا طول اغتراب ووحشة | وقلة أعوان وإخفاق آمال |
فلا بدع إن قل احتمال منكرا | تغير حالي بعد خمسة أحوال |
تنوع أطوار وفقد موانس | وأعواز أوطار وقلة أشكال |
وهم بلا حد وطرف بلا كرى | وقلب بلا أنس وكف بلا مال |
تنكبك الهم الدخيل فإنه | إلى الحرا سرى من خيال إلى خال |
وأسرع من أودى به الهم والأسى | كريم أهأنت نفسه رقة الحال |
وغير منه الدم غر خصاله | وكلفه الاقلال عادات بخال |
أرى السحر ما نوحيه أجفانك المرضى | ولكنه لا يقبل الشرح والعرضا |
رموز وأسرار معانات حلها | إلى ما تراه من نحولي بها أفضى |
يسل على قلبي الفتور مهندا | من السيف أمضى حين يغمد أو ينضى |
حمى لحظه السفاح تفاح خده | فلا شم منه يستفاد ولا عضا |
ودق عن الادراك والوهم خصره | فلا هصره يرجى ولا ضمه يقضى |
ويؤلمني أن لا يزال فم الصبا | يقبل سرا ورد وجنته الغضا |
ألا يأبى من كلما أعرضت له | دموعي بشكوى الشوق أعرض أو أغضى |
رضيت تلافي في هواه صبابة | ويا ليته عني بسفك دمي يرضى |
فافي حياتي أو يجود بها سوى | عذاب أراه في محبته فرضا |
وريح أنت تسري برياه موهنا | ففضت ختام الدمع من مقلتي فضا |
وصادحة تشكو الفراق مجانة | وتهجع أحيانا ولم أذق الغمضا |
وقد لاح من ثغر الصباح ابتسامة | أحس بها جفن العمامة فارفضا |
فأودعني تغريدها الحزن والأسى | وطارت بلبي حيث لم أستطع نهضا |
وخيل لي وهمي طروق خياله | فألصقت خدي بالطريق له أرضا |
فإن كان لا يرضى مجرا لذيله | بحكم الهوى العذوي الأدما محضا |
فقد نفض الدمع المورد صبغه | على أرض خدي مثل ما يشتهي نفضا |
وحيرني دهر يجوز مع الهوى | فلم أستطع إبرام أمر ولا نقضا |
سأندب عصر الوصل ما ذر شارق | فما كان إلا كوكبا لاح وانقضا |
ظبي على ملك الجمال استحوذا | فابتز صبري بالنفار وأنفذا |
ما فيه من قضو يقول إذ | عاينته يا ليت خلقة ذا كذا |
وملخص الشرح المطول كل من | لاقاه راح مسبحا ومعوذا |
ذكراه تنعش مهجتي وتذيبها | فهي اتلاف لمهجتي وهي الغذا |
ويغيم طرفي بالدموع إذا بدا | مع انه يجلو من المقل القذا |
وأموت من عطشي إليه وقد جرى | ماء الحياة بثغره العطر الشذا |
لا تنطفي حرق الجوى إلا إذا | قبلته بل ان صدقت ولا أذا |
العز لا يشتام إلا | من ذرى فلك القناعة |
لا تغلطن فليس إلا | ما أقول أو الوضاعة |
رقع سمال الصبر أو | فالبس جلأبيب الرقاعة |
وإذا اقتنيت سوى التوكل | فالبضاعة للاضاعه |
مشينا في بلاد ليس فيها | سوى وحل يموج ولا يحول |
كأنك راكب فلكا إذا ما | مشت بك في مجاريه الخيول |
أقول لراسب في الوحل يحبو | أطلب لك التردد والمقيل |
فحول وجهه دون انزعاج | وغنى وهو مضطجع يقول |
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا | فأهون ما يمر به الوحول |
أعاذك رب الناس من كل وحشة | فإنك في هذا الزمان غريب |
ولا كان للمكروه نحوك مقصد | ولا لصروف الدهر فيك نصيب |
هذا وإذا اجنح الخاطر الكريم | للسؤال عن حالي الداعي القديم |
فلا وصل إلا ان اروح ملججا | على أسود من فوق أخضر مزيد |
شوائل أذناب يخيل أنها | عقارب دبت فوق صرح ممرد |
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى | إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم |
فقلت لصاحبي انعم صباحا | لعمرك قد تعارفت الوجوه |
لا تعدن للزمان صديقا | وأعد الزمان للأصدقاء |
على أنني أقضي الحقوق بطاقتي | وأبلغ في رعى الذمام لهم جهدي |
كل يوم يقول لي لك ذنب | يتجنى ولا يرى ذاك منى |
فانا الدهر في اعتذار إليه | وإذا ما رضى فليس يهنى |
ربما جئته لاسلفه العذ | ر لبعض الذنوب قبل التجني |
ورب اشارة عدت كلاما | ولفظ لا يعد من الكلام |
ولما طغى كيوان في الشام واعتدى | وارجف اهليها وللظلم فصلا |
فقلت لهم قروا عيوانا وارخوا | ففي بعلبك قتل كيوان اصلا |
دار البشائر الإسلامية / دار ابن حزم-ط 3( 1988) , ج: 1- ص: 97