التصنيفات

الفقيه الأديب أبو إسحق بن خفاجه مالك أعنه المحاسن وناهج طريقها، العارف بترصيعها وتنميقها الناظم لعقودها، الراقم لبروها، المجيد لإرهافها، العالم بجلائها وزفافها، تصرف في فنون الإبداع كيف شاء، وأبلغ دلوة من الإجادة الرشاء، فشعشع القول ورقمه، ومد في ميدان الإعجاز طلقه، فجاء نظامه أرق من النسيم العليل، وأنفق من الروض البليل، يكاد يمتزج بالروح، وترتاح الله النفس مكالغصن المروح، إن شبب فغمزان الجفون الوطف، أو اشارت البنان التي تكاد تعقد من اللطف، وإن وصف سراه والليل بهيم ما فيه وضوح، وخد الثريا بالندى منضوح، فناهيك من غرض انفرد بمضماره، وتجرة لحمي ذمارة، وإن مدح فلا الأعشى للمحلق، ولا حسان لأهل جلق، وإن تصرف في فنون الأوصاف، فهو فيها كفارس خصاف، وكان في شبيبته مخلوع الرسن، في ميدان مجونه، كثير الوسن، بين صفا الانتهاك وحجونه، لا يبالي بمن التبس، ولا أي نار اقتبس، إلا أنه قد نسك اليوم نسك ابن أذينة، وغض عن إرسال نظرة في أعقاب الهوى عينه، وقد أثبت له ما يقف عليه اللواء، وتصرف غليه الأهواء، أخبرني إنه لما أقلع عن صبوته، وطلع ثنيه سلوته، والكهولة قد حنكته، وأسلكته من طرق الأرعواء حيث اسلكته، نام فرأى أنه مستيقظ وجعل يفكر فيما مضى من شبابه، وفي من ذهب من أحبابه، ويبكي على أيام لهوه، وأوان غفلته وسهوه، ويتوجع لسالف ذلك الزمان، ويتبع الذكر دمعا كواهي الجمان، ثم استيقظ وهو يقول، [وافر]

وأخبرني أنه لقي عبد الجليل الشاعر بين لورقة والمرية والعدو يلبط لا يريم يفرع تلك الربى، ولا يزال يروع حتى مهب الصبا، فباتا ليلتهما بلورقة يتعاطيان أحاديث حلوة المساق، ويواليان أناشد بديعة الاتساق، إلى أن طلع لهم الصباح أو كاد، وخوفهم تلك الأنكاد، فقام الناس إلى رحالهم فشدوها، وافتقدوا أسلحتهم فاعدوها، وساروا يطيرون وجلا، وأن رأوا غير شيء ظنوه رجلا، فمال إليه عبد الجليل وفؤاده يطير، وهو كالطايا في اليوم العاصف المطير، فجعل، يؤمنه فلا يسكن فرقه، ويرنسه فيتنفس الصعدا نثيرهر حرقه، فأخذ في أساليب من القريض يسليه بأشغاله بها، وإيغاله في شعبها، فأحيل على تذييل وإجازة، واختبل حتى لم يدر حقيقة النظم ولا مجازة، إلى أن أمرا بمشهدين عليهما راسان باديان، وكأنهما بالتحذير لهما مناديان، فقال أبو إسحق مؤتجلا،
[طويل]
فقال عبد الجليل مسرعا: [طويل]
فما تم قوله حتى لاح قتام، كأنه أغنام، فانقشع عن سربة خيل، كقطع إليل، فما انجلت إلا عبد الجليل قتيل وابن خفاجة سليب وهذا من أغرب تقول، واصدق تقول، وبلغمني ذكرته في هذا الكتاب بقبيح، وأتيت في وصف أيام فتوته بتندير وتمليح، فكتب إلي يعاتبني، [كامل]
وله في وصف ورد نثر عليه نوار نارنج: [كامل مجزوء]
وله في صفته أيضا: [مجتث]
وكتب إلي معاتبا على مخاطبة لم ر لها جوابا، ولا قرع لا نبأي بها بابا، فكتبت إليه معتذرا بطول اغترابي، وتوالي اضطرابي، وإني ما استقررت يوما، ولا نقعت في منهل الثواء ظمأ ولا جوعا، فكتب إلي،، يا سيدي الأعلى، وعلقي الأغلى، حلي بك وطنك، ولا خلا منك عطنك، كتبت والود على أولاه، والعهد بحلاه، ترف زهرة ذكراه، ويمج الري ثراه، منطويا على لدغة حرقه، بل لوعة فرقة، أبيت بها بليل لا يندى جناحه، ولا يتنفس صباحه، فها أنا كلما تناوحت الرياح أصيلا، وتنفست نفسا عليلا، أصانع البرحاء تنشقا، وأتنفس الصعدا تشوقا، فهل تجد على الشمال نفحة، كما أجد على الجنوب لفحة، أم هل تحس لذلك الوهج الما، كما أجد الأرج مما، وأما وحقك قسما، يشتمل على الإيمان لزما، إن في أدنى هذه اللواعج، ما يقتضي أنصاء هذه النواعر، ويحمل على حزق، جيب الخرق، وجر ذيل، برد اليل، حتى أهبط أرض ذلك الفضل، فاغتبط وارد، مشرع ذلك النبل، فانبرد، وعسى الله بلطفه أن ينظم هذا البدد، ويعيد ذلك الود، فيبرد الأحشاء، كيف شاء، بمنه وأن طتابك الكريم وفإني تحية، هزتني أريحية، هز المدامة تتمنى، والحمامة تتغنى، فلولا أن يقال صبا للزمت سطوره، ولثمت مسطوره، وما أنطقتني صبوة استفزتني، فهزتني، ولكن فضله راح في كاس العلا تناولتها، فكلما شربت، طربت، فلولا وقوع غمرات الشيب، لابتذرت ش الجيب، ثم صحت واطرباه، وناديت وأحر قلباه، وبعد فإني وقفت من جملته على ما وقع موقع القطر، وحسبك ثلجا، وطلع طلوع هلال الفطر، وكفاك مبتهجا، وما أعرب عنه من تفسير حالك، وتفصيل حلك وترحالك، ولا غروان تجذبك الرواحل، وتتهاداك المراحل، فما للنجم أخيك من دار، ولا في غير الشرف من مدار، فقع أني شئت وأرتع وطر، حيث أحببت أو طر، فما انتصتك يد المغارب، إلا ماضي المضارب، ولا تعاطتك أقطار البلاد، لا طيب الميلاد، فما صار أن نعق ببينك غراب، وخفق برحلك سراب، إذ لم يقص من فضلك اغتراب، ولا أخل بنصلك ضراب، لازلت مخيما بمنزلة مجد تجمع من اتساع، في ارتفاع، وأمتاع، في امتناع، بين امرة بغدان، ومنعة عمدان، بحول الله تعالى وبركاته والسلام، وله في وصف شجرة نارنج: [متقارب]
وله يتغزل: [مجتث]
وله في مثله: [بسيط مجزوء]
قال يندب معاهد الشباب، ويتفجع لوفاة الإخوان والأحباب، بعقب سيل عاد لديار آثارا، وقضى عليها وهيا انتثارا، [طويل]
ولقد أحلني أحد الديار المندوبة وهي كعهدها في جودة مبناها، وعودة سناها، في ليلة انتحلت ظلامها أثمدا، ومحونا بها من نفوسنا كمدا، ولم يزل ذلك الأنس يبسطه، والسرور ينشطه، حتى نشر لي ما طواه، وبث مكتوم لوعته وجواه، وأعلمني بلياليه فيها مع أترابه، وما قضى بها من أطرابه، وكان هذا المنزل اشهى إليه من سواه، وأخص بهواه، لأنه كان كلفا بربه، مسرفا في حبه، وفيه يقول وقد مات باغمات، [طويل]
وله في وردة طرأت في غير أوانها: [كامل]
وكانت بضفة الجزيرة أيكتر يانعة وكان هو ومن يهواه يقعدان لديها، ويوسدان خدودهما أبرديها، فمر بها ومحبوبه قد طواه الردى، ولواه عن ذلك المنتدى، فتذكر ذلك العهد وجماله، وأنكر صبره لفقده واحتماله، فقال: [طويل]
وله يستطيل الليل: [مجتث]
وله في الشقيق: [كامل]
وله مما يتعلق بصفة نار: [كامل]
ووصلت شاطبة في فطر سنة عشر وخمس ماية والأمير أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين أيده الله معيد بها، ومجدد ذاهب رتبها، وكان عيدا، كان عهد أهلها بمثله بعيدا، بل لم يعهد بالقطر شبيهه، ولم يحضر مثله خاملة ولا نبيهه، وكان ابن خفاجة هذا حاضرا لاستنجاز وعده، بالتوقيع على صك يحذى نعاله من عنده، فلما كان يوم العيد واحتفل جمعه واحتشد، قام أبو إسحق وأنشد، [طويل]
وله في الأخذ بحظ من الجد والهزل، والزهد والغزل، [منسرح]

  • مكتبة المنار - الأردن-ط 1( 1989) , ج: 1- ص: 230