ذو الوزارتين أبو الحسن بن الحاج رحمه الله شيخ الجلالة وفتاها، ومبدأ الفضائل ومنتهاها، مع كرم كانسجام الأمطار، وشيم كالنسيم المعطار، أقام زمنا على المدامة معتكفا، ولثغور البطالة مرتشفا، لا يغدو إلى ثملا، ولا يروح إلا بنشوة مشتملا، وجود أبدا هاطل، وجيدة إلا من المعالي عاطل، ثم فاء عن تلك الساحة، واختار تعب النسك عن تلك الراحة، فراح حليف خشوع، وأصبح بين سجود وركوع، وله شعر له في النفس شروق، وكان الحسن منه مسروق، وقد أثبت منه أنواعا، يضم عليها الاستحسان جوانح وأضلاعا، ويجلها من تجويده منازل ورباعا، أخبرني الوزير أبا عامر بن يشتغير أنه حضر معه في مجلس ابن لبون في يوم صرف عنه الزمان صرفه، وغمض فيه الحدثان
طرفه، وزفت إليه الأماني أبكارها، وأطلعت عليه شموسها وأقمارها، وهزت فيه المدام أعطاف ندامه، وصار السعد من خدامه، وذو الوزارتين أبو الحسن قد نسك وعف، وأمسك عن الشهوات وكف، ولم تبق فيه للطرب إلا بقية لا تقبل إنسا، ولا تستحسن من أجناس اللهو جنسا (فحياه) فتى وسيم بكاس منهتكا عليه ومتواقعا، وطامعا أن يخرق من توبته ما غدا له راقعا، وأطمعه بفتور لحظ حسب أنه يفتنه، وتثور فيه فتنه، فأعرض عنه إعراض زاد، فير كلف بالمحاسن ولا واجد، وقال: كامل
ومهفهف مزج الفتور بشدة | وأقام بين تبذل وتمنع |
يثنيه من فعل المدامة والصبا | سكران سكر طبيعة وتطبع |
أوما إلي بكاسه فرددتها | ودنا فشفعها بلحظة مطمع |
والله لولا أن يقال هوى الهوى | منه بفضل عزيمة وتورع |
لذهبت من تلك السبيل بمذهبي | فيما مضى ونزعت فيه منزعي |
لي صاحب عميت علي شوفه | حركاته مجهولة وسكونه |
يرتاب بالأمر الجلي توهما | وإذا تيقن نازعته ظنونه |
مازلت أحفظه على شرفي به | كالشيب تكرهه وأنت تصونه |
أسهر عيني ونام في جذل | مدرك حظ سعى إلى أجل |
دنياه مقصورة عليه فما | يطويها طائر لذي أمل |
قد لفقت بالمحال فاجتمعت | من خدع جمة ومن حيل |
كم محنة قد بليت منه بها | وهو يرى أنها يد قبلي |
أخ لي كنت آمنه غرورا | يسر بما أساء به سرورا |
هو السم الذعاف لشاربيه | وإن أبدى لك الأرى المشورا |
ويوسعني أذى فأزيد حلما | كما جذ الذبال فزاد نورا |
من عذيري من فاتر ذي جفون | صلن في صولة القدير الضعيف |
علق مجد علقته وقديما | همت بالحسن في النصاب الشريف |
يطلع الشمس في المساء ويهدي | زاهر الورد في زمان الخريف |
يا مديرا من سحر عينيه جمرا | أنا مما أدرت جد نزيف |
علل المستهام منك بوعد | وإليك الخيار في التسويف |
آه لما ضمت عليه الجيوب | من زفرات وقلوب تذوب |
جاء بي الحب إلى مصرعي | في طرق سالكها لا يؤب |
واستلبت عقلي خمصانة | نابت مناب الشمس عند الوجوب |
يسحرني منها إذا كلمت | وجه مليح ولسان خلوب |
تقول إذا أشكو إليها الهوى | سبحان من ألف بين القلوب |
أزورك مشتاقا وأرجع مغرما | وأفتح بابا للصبابة مبهما |
امنعي السقم الذي عاد حمله | عزيز علينا أن نصح وتسقما |
منعت محبا منك أيسر لحظة | تبل غليل الشوق أو تنقع الظما |
وما رد ذاك السجف حين رميته | عن القلب سيفا من هواك مصمما |
هوى لم تعن عين عليه بنظرة | ولم يك لأسمعه وتوهما |
وملتقطات من حديث كأنما | نثرن به سلك الجمان المنظما |
دعون إليك القلب بعد نزوعه | فأسرع لما لم يجد متلوما |
تقلص ظل منك وازور جانب | واحرز حظي من رضاك الأجانب |
وأصبح طرفا من صفائك مشرعي | وأي صفاء لم تشبه الأشائب |
رويدا فلي قلب على الخطب جامد | ولكن على عتب الأحبة ذائب |
وحسبك إقراري بما أنا منكر | وإني مما لست أعلم تائب |
أعد نظرا في سالف العهد أنه | لأوكد مما تقتضيه المناسب |
ولا تعقب العتبى بعتب فإنما | محاسنها في أن تتم العواقب |
وأغلب ظني أن عندك غير ما | ترجمه تلك الظنون الكواذب |
لك الخير هل رأي من الصفح ثابت | لديك وهل عهد من السمح عايب |
يحث ركابي أنني لك هائم | ويثني عناني أنني لك هائب |
وإن سؤتني بالسخط في غير معظم | فها أنا منك اليوم نحوك هارب |
يا دوحة ما يريمها ثمر | وروضة كل نبتها زهر |
يا مزنة لا تغب نافعة | والمزن في طول صوبه ضرر |
يا منهلا قد صفا فلا كدر | يصد عن ورده ولا حظر |
يا عصرة الحرجين لا عصر | يوجد في حادث ولا أسر |
برك ذاك الفي اثقلتي | وحمل ما لا أطيقه خطر |
فلتعفني من نداك تتبعه | حسبك ما لقيت يا عمر |
قد ذهبت جملة الوفاء فما | في الناس خبر لها ولا خبر |
وصرت في معشر حقودهم | تبدو إذا كلموك أو نظروا |
بني رحيم ركبتم سننا | في المجد لا يقتفى له أثر |
كل أفانين بركم عجب | وكل أيام دهركم غرر |
عجبا لمن طلب المحا | مد وهو يمنع ما لديه |
ولباسط آماله | في المجد لم يبسط يديه |
لم لا أحب الضيف أو | أرتاح من طرب إليه |
والضيف يأكل رزقه | عندي ويحمدني عليه |
كل من تهوى صديق محض | لك ما لا تتقي أو ترتجي |
فإذا حاولت نصرا أو جدا | لم تقف إلا بباب مرتج |
وبيضاء ينبو اللحظ عند التفاتها | وهل تستطيع العين تنظر في الشمس |
وهبت لها نفسا علي كريمة | وقد علمت أن الضنانة بالنفس |
أعالج منه السخط في حالة الرضا | ولا أعدم الإيحاش في ساعة الأنس |
بعثت بها ولا ألوك حمدا | هدية ذي اصطناع واعتلاق |
خدود أحبة وافين صبا | وعدن على ارتماض واحتراق |
فحمر بعضها خجل التلاقي | وصفر بعضها وجل الفراق |
يا رب أعجم صامت لقنته | طرف الحديث فصار أفصح ناطق |
جون الإهاب أعير فوه صفرة | كالليل طرزه وميض البارق |
حكم من التدبير أعجزت الورى | ورأي بها المخلوق لطف الخالق |
عدمت بصيرتي وسداد رأيي | ولوعا بالحديث المستفاض |
وصرت مؤملا أملاك حمص | ورود الهيم مسفرة الحياض |
وردناها فالفينا أمورا | مصرفة على رأي ابن ماض |
كأن رئيسها الأعلى يتيم | يدور عليه منه حكم قاض |
وإن من الغرائب أن مثلي | يحل بهم فيرحل غير راض |
تعز عن الدنيا ومعروف أهلها | إذا عدم المعروف في آل عباد |
أقمت بهم ضيفا ثلثة أشهر | بغير قرى ثم ارتحلت بلا زاد |
كم بالمغارب من أشلاء محترم | وعاثر الجد مصبور على الهون |
أبناء معن وعباد ومسلمة | والحميريين باديس وذي النون |
راحوا لهم في هضاب العزابنية | وأصبحوا بين مقبور ومسجون |
كفى حزنا إن المشارع جمة | وعندي إليها غلة وأوام |
ومن نكد الأيام أن يعدم الغنى | كريم وإن المكثرين لئام |
أبا جعفر مات فيك الجمال | فأظهر خدك لبس الحداد |
وقد كان ينبت زهر الرياض | فأصبح ينبت شوك القتاد |
ابن لي متى كان بدر السمام | يدرك بالكون أو بالفساد |
وهل كنت في الملك من عبد شمس | فأحنى عليك ظهور السواد |
ومعذر رقت محاسن وجهه | فقلوبنا وجدا عليه رقاق |
لم يكس عارضه السواد وإنما | نفضت عليه صباغها الأحداق |
مكتبة المنار - الأردن-ط 1( 1989) , ج: 1- ص: 139