محمد بن عراق محمد بن عراق: محمد بن علي بن عبد الرحمن، الشيخ الإمام، العارف بالله تعالى المجمع على ولايته وجلالته القطب الرباني، والغوث الصمداني، الأستاذ أبو علي شمس الدين بن عراق الدمشقي. نزيل المدينة المنورة، وأحد أصحاب سيدي علي بن ميمون. قال في الشقائق: كان - رحمه الله تعالى - من أولاد أمراء الجراكسة، وكان من طائفة الجند على زي الأمراء، وكان صاحب مال عظيم، وحشمة وافرة، ثم ترك الكل، واتصل بخدمة الشيخ العارف بالله تعالى السيد علي بن ميمون المغربي، واشتغل بالرياضة عنده. حكي أنه لم يشرب الماء مدة عشرين يوما في الأيام الحارة حتى خر يوما مغشيا عليه من شدة العطش، وقرب من الموت فقالوا للشيخ: إن ابن عراق قرب من الموت من شدة العطش، فقال الشيخ: إلى رحمة الله تعالى، فكرروا عليه القول، فلم يأذن في سقيه، وقال: صبوا على راحتيه الماء، ففعلوا ذلك، فقام على ضعف ودهشة، فلم يمض على ذلك أيام إلا وقد انفتح عليه الطريق، ونال ما يتمناه. انتهى. قلت: ذكر سيدي محمد صاحب الترجمة في كتابه المسمى ’’بالسفينة العراقية، في لباس خرقة الصوفية’’ أنه ولد في سنة ثمان وسبعين وثمانمئة، وقرأ القرآن العظيم بالتجويد على الشيخ عمر الداراني. قرأ عليه ختمات، وعلى الشيخ إبراهيم المقدسي قرأ عليه يويمات، ثم اشتغل في الحساب على الشيخ زين الدين عرفة، ثم جود ختمة لابن كثير أفرد لروايته على الشيخ عمر الصهيوني، وجود عليه الخط أيضا، وأخذ عنه علم الرماية، ولزمه فيه ثلاث سنوات كاملات، وفي أثنائها مات والده في سنة خمس وتسعين وثمانمئة، وتزوج في تلك السنة، ثم توجه إلى بيروت بنية استبقاء إقطاع والده، فسمع وهو في بيروت برجل فيها من الأولياء يسمى سيدي محمد الرايق، فزاره ودعا له وقال له: لا خيب الله سعيك، ثم قال له: يا ولدي إن أحببت التماس البركة من يد أهلها فعليك بأحد الثلاثة: رجل ببيروت يسمى الشيخ عفان، ورجل بطرابلس يسمى الشيخ ياسر، ورجل بصيدا يسمى الشيخ عمر بن المبيض، فيسر الله تعالى في ذلك الشهر باجتماعه بالثلاثة، وسأل كل واحد منهم أن يدعو له أن ينقذه مما هو فيه، ثم عاد إلى دمشق، واشتهر عنه أمر زيارته لهؤلاء. لكنه اشتغل بالفروسية والرمي والصيد، ولعب الشطرنج، والنرد والدفاف والتنعم بالمأكولات والملبوسات، وإنشاء الإقطاع والفدادين، ولم يزل مع هذه الأمور، مواظبا على الصلوات، وزيارة الصالحين، وحب الفقراء والمساكين، حتى مضى خمسة أعوام، ولم يتيسر له من يوقظه من هذا المنام، حتى كان يوم جمعة صادف فيه الشيخ إبراهيم الناجي في جبانة الباب الصغير، وهو راجع من ميعاده، فنزل سيدي محمد عن فرسه إجلالا للشيخ وسلم على الشيخ. فقال الشيخ: من يكون هذا الإنسان؟ فقيل له: فلان ابن فلان، فأهل به ورحب وترحم على والده، فسأله سيدي محمد أنه يدعو له أن ينقذه الله تعالى مما هو فيه فقال له: لو حضرت الميعاد، ولازمتنا لحصل الخير. قال سيدي محمد: فوادعته وسرت لصلاة الجمعة، فتعلق قلبي بحبه، وبت تلك الليلة وأنا أحدس به، وعزمت على حضور ميعاده بكرة السبت في زاوية سيدي أبي بكر الموصلي - رضي الله تعالى عنه - قال سيدي محمد: فما صليت صبح نهار السبت إلا بالزاوية المذكورة، وحضرت الميعاد، وكان بحضرة جماعة من الصالحين، ويسر الله تعالى ببركته ترك بعض ما أنا فيه فاشتغلت بالتجارة والزراعة وجعلتهما مهنتي لأنها أشبه، ثم استمر سيدي محمد - رضي الله تعالى عنه - في صحبة الشيخ محمد الناجي حتى مات، ولبس منه خرقة التصوف، وأخذ عنه وعن الفضل ابن الإمام، وعن الشيخ شهاب الدين بن مكية النابلسي علم التفسير والحديث والفقه، وهي العلوم الشرعية، وأخذ علم الأصول والنحو والمعاني والبيان عن جماعة منهم: الشيخ أبو الفتح المزي، والشيخ محمد بن نصير، والشيخ علي المصري، وكان مع ذلك يصحب الصالحين والفقراء الصادقين مثل الشيخ محمد بن بزة، والشيخ محمد بن يعقوب، والسيد أبي بكر العلاف، والحاج علي بن سلطان، والحاج أبي بكر البيروتي، والشيخ عيسى الراجبي، والشيخ يوسف البهلول تلميذ ابن قرا، وسيدي الشيخ عبد اللطيف البلواني، والشيخ أحمد أبي رجيلة، والحاج علي بن عدي، والشيخ محمد المشهور بكمال الدين، والحاج أحمد بن جوان، والشيخ محمد الهليس الصواف، والشيخ جمعة النداف، والشيخ أحمد ضوي، والشيخ حسن الحبار، والشيخ خميس البدوي وغيرهم - رضي الله تعالى عنهم - وكان بعد موت شيخه الناجي يدعو الله تعالى عقب صلاته، وفي إسحاره أن ييسر الله تعالى له من ينقذه من رداه ويطهره من أوزاره، حتى لاحت له ناصية الفلاح وجاء المرشد سيدي علي بن ميمون إلى باب داره عند الصباح، وذلك في مستهل سنة أربع وألف وتسعمئة، فكان كماله على يده، وفي هذه السنة حج سيدي علي بن ميمون، ثم قدم من الحج، وتوجه إلى الروم، وأقام بها خمس سنوات يدعوهم إلى الله تعالى على بصيرة، وكان سيدي محمد سأله المسير معه فقال له: توجه إلى سيدي عبد القادر بن حبيب يحصل باجتماعك به كل خير، ثم قال: أقرئه عني السلام، فسار إليه، وتلقن منه الذكر، ولبس منه الخرقة، وأقام عنده سبعة عشر يوما، وكان كل يوم يعدل سنين، وفي شرح تائية سيدي عبد القادر بن حبيب للشيخ رضوان - رضي الله تعالى عنهما - أن سيدي محمد بن عراق ذهب إليه حافيا إلى الصفد، فقال الشيخ عبد القادر يمدحه:

ثم أشار إليه ابن حبيب أن يرجع إلى والدته، وسأله في الحج، فقال: إن تيسرت لك الأسباب، فلا بأس، فلما رجع إلى والدته شكى إليها القبض، وكانت تخاف عليه الجذب، فأذنت له في التوجه إلى بيروت ليسهل عليه ما هو فيه فاستأذنها في السفر في البحر إلى مصر لطلب العلم والحج أن يسر له ذلك، فأذنت مساعدة له على الخير، فركب البحر، وفي صحبته رجلان من أولي العزم، وهما السيد محمد الأنعالي، والشيخ عبد العزيز الخليلي، ودخل مصر سنة خمس وتسعمئة، فاجتمع فيها بجماعة من العلماء الصالحين من أعلمهم وأفضلهم شيخ الإسلام زكريا، والحافظ الجلال السيوطي والدمياطي، واجتمع من الأولياء بجماعة منهم سيدي أحمد القسطنطيني، وسيدي عبد القادر الدشطوطي، وسيدي محمد أبو المكارم الهيتي، و حصلت له بركتهم. أشاروا عليه بالعود إلى والدته، فعاد في بحر النيل إلى دمياط، واجتمع فيها بعلماء أخيار منهم الشيخ أحمد اليبحوري، وحضر درسه غير مرة، وألف منسكا جامعا، ومنهم الشيخ جلال الدين محمد الخطيب، وسيدي إبراهيم الحواص مؤدب الأطفال. حصل بالبلدتين المذكورتين في مدة يسيرة من أهل العلم ما لم يحصل المرء في أعوام، ثم ركب البحر الكبير إلى بيروت دخلها ليلة عيد الفطر سنة خمس المذكورة، ثم عاد إلى والدته بدمشق، ثم أستأذنها في الحج، فأذنت له، فحج من دمشق، فلما عاد من الحج خطر له أن يتوجه إلى سيدي علي بن ميمون، أو يشتغل فيما أمره به من علم الظاهر، فاستخار الله تعالى، واستشار من إخوانه الشيخ محمد ابن الشيخ يعقوب، وسيدي الشيخ محمد البلاطنسي، والشيخ محمد بن البزة، فأشاروا عليه أن يسير إلى بيروت بنية المرابطة والجهاد، وطلب العلم، فسار إليها، وصحبه الشيخ محمد بن يعقوب، فتلقاهما بها سيدي محمد بن الغصين البيروتي، وسيدي محمد القطب الصرفندي، وسيدي محمد الطيار، ثم تكلموا في خطبة زوجته أم محمد عبد الله، فقال لهم: كرروا الاستخارة في ذلك، وما يلقيه الله تعالى في قلوبكم فهو خير، فباتوا تلك الليلة، وأصبحوا كل واحد منهم رأى واقعة تؤذن بالزواج، فتزوج وبنى بها ليلة النصف من شعبان سنة ست وتسعمئة، وبقي بساحل بيروت إلى سنة عشر وتسعمئة، فخرج منها عن كل ما يملك، ورفض الدنيا ناحية، وأعرض عنها نوبة، وهاجر بأهله إلى دمشق، واجتمع في هذه المدة بثلاثة رجال من أصحاب الأحوال، وهم الشيخ حسن بن سعد الدين الجباوي، والشيخ خليل بن قديم الصمادي، والشيخ عون المشهور بأبي شوشة الطاوعي. سمعت شيخنا - رضي الله تعالى عنه - يحكي مرارا عن والده الشيخ يونس العيثاوي - رضي الله تعالى عنه - أنه كان يقول: ما رأينا من كان مقبلا على الدنيا، ثم تركها حقيقة، وأعرض عنها إعراضا كليا، ثم لم يعد إليها، ولم يكن ليعرج عليها حتى لقي الله تعالى إلا سيدي محمد بن عراق - رضي الله تعالى عنه - وبقي سيدي محمد بدمشق حتى قدم سيدي علي بن ميمون من الروم إلى حماة سنة إحدى عشرة وتسعمئة، فبعث إليه كتابا يدعوه فيه إلى الله تعالى، فلما وصل كتابه إليه بادر إلى الامتثال وأسرع في الحال، وسافر إليه ثاني اثنين، فاجتمع به يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول، فلما سلم عليه، وأذن له بالجلوس بين يديه فتح عليه بإذن الله تعالى، وأعطي لسان المعرفة من يومئذ، وأقام بحماة أربعة أشهر وعشرة أيام كل يوم يزداد علما وهدى من الله تعالى، ثم أذن له الشيخ علي بالمسير إلى بيروت، فسافر إليها، وقعد لتربية المريدين، وقدم عليه الشيخ ذو النون الخياري برسالة من الشيخ محمد الغزاوي، وهو والد الشيخ أبو العون الغزي، فأخذ الطريق عن سيدي محمد بن عراق، وشهد له في السفينة بالفتح، والظفر بالأحوال، وألف سيدي محمد في تلك المدة أربعة وعشرين كتابا في طريق القوم، فلما بلغ شيخه ذلك انقبض انقباضا شديدا، وتطور عليه، وعزم بسبب ذلك على السفر من حماة إلى دمشق، وكتب إلى بيروت لسيدي محمد أن يلقاه بالكتب إلى دمشق، فسافر سيدي محمد إلى دمشق، ونزل عند والدته، وأقام عندها أياما حتى قدم شيخه سيدي علي بن ميمون في سابع عشري رجب سنة ثلاث عشرة وتسعمئة، ونزل بالصالحية، فسار إليه سيدي محمد، وتلقاه بالسلام والإكرام غير أنه استدعاه في ذلك المجلس، وقال له: يا خائن يا كذاب عن من أخذت هذا القيل والقال؟ فقال له سيدي محمد: يا سيدي فداك نفسي قد أتيناك بالموبقات، فافعل فيها ما تشاء، فغسلها سيدي علي، ولم يبق منها سوى القواعد والتأديب، ثم لزمه سيدي محمد ووالدته وأهله، وسكن بهم عنده بالصالحية، وقدمه الشيخ على بقية جماعته في الإمامة، وافتتاح الورد والذكر بالجماعة، وبقي عنده على قدم التجريد هو وأهله، حتى انتقل سيدي إلى مجد المعوش، فسافر معه، وبقي عنده حتى توفي سيدي علي - رضي الله تعالى عنه - ثم بقي بعده بمجد المعوش ست سنين وفي أول السابعة، وهي سنة ثلاث وعشرين عاد إلى ساحل بيروت بنى بها دارا لعياله ورباطا لفقرائه، ثم قصده الناس لأخذ الطريق عنه، وذكر من أعيان جماعته الذين أخذوا عنه ببيروت، ومجد المعوش طائفة في كتاب السفينة منهم الشيخ أحمد الساعي، وحصل له على يديه الجذب الذي لم يتفق لغيره، ومنهم الشيخ علي الجوهري الشهير بالفيومي، والشيخ العارف بالله تعالى سيدي محمد بن قيصر القبيباتي، سيدي محمد بن شكم الصالحي، والشيخ محمد المشهور بكمال الدين الكردي شيخ المدرسة الشامية، والمجاذيب الثلاثة الكمل الشيخ علي الكردي، وصاحبه إسماعيل المهبلي، ومحمد البعلي الشهير بالحلاق، ثم كاتبه جماعة من أعيان دمشق في القدوم عليهم إلى دمشق ليكونوا في حمايته من الفتن والمحن، فسافر إلى دمشق ونزل ببيت ابن الباعوني من صالحية دمشق، وجلس ثم للإرشاد أياما، وكان الناس يجتمعون إليه يوم الخميس للتأديب، ويوم الجمعة لتجويد القرآن، ويوم السبت لقراءة الحديث والفقه، واجتمع في هذه الأيام بنية السلوك جماعة منهم السيد علي العجلوني، والشيخ محمد البصراوي، والشيخ موسى الكناوي، والشيخ أحمد بن الديوان إمام جامع الحنابلة، والشيخ عبد الله بن الحبال إمام جامع المزة وغيرهم، ثم انتقل إلى الغوطة ونزل بقرية سقبا، وانقطع بها إلى الله تعالى المحمدون الثلاثة محمد الباعوني، والشيخ محمد الحنبلي، والشيخ محمد الأسد، وقدم عليه بها من مصر سيدي محمد الصفوري، ثم سافر وهو في صحبته إلى صفد، فعزم على الإقامة بها، والانقطاع بمغارة يعقوب عليه السلام، فلم يتيسر له واجتمع عليه بها جماعة منهم ومن بلاد عجلون وعكا، وكانت مدة إقامته بصفد ثلاثة أشهر وأياما، وهي رجب وشعبان ورمضان، وفي سابع شوال وصل إليه كتاب من أهله يذكرون فيه أن نائب الشام ناوي المسير إلى الحج في سادس عشر الشهر، وأنه جعل الحاج بيد سيدي محمد، فأجابهم بأني لا أسير في ركب إلا أن يكون على الكتاب والسنة، وهذا متعذر، وأنا منتظر الإذن، فلما وصل الجواب إلى دمشق وافق يوم وصوله وصول الشيخ علي - رضي الله تعالى عنه - إلى دمشق بنية حجة الإسلام، فلما بلغه ذلك شق عليه، وأرسل مندوبه إلى سيدي محمد بكتاب مضمونه: ياأخي إن لم يشرح الله صدرك للمسير، وإلا رجعنا، والذي يظهر لي أن غالب الحج يبطل بسببكم، وذلك إليكم، فاستخيروا الله تعالى، وأسرعوا لنا بالجواب، وأجركم على الله تعالى، فالقى الله تعالى في قلبه إجابتهم، وأرسل إليهم إني ألاقيكم إلى المزيريب، وأذن لعياله بالمسير معهم، فلما حصل الاجتماع كان المسير على السنة ببركة سيدي محمد - رضي الله تعالى عنه - والمراد يكون المسير على السنة أنهم أبطلوا أجراس الجمال، ونحو ذلك من البدع التي حدثت في ركب الحج، وهذا ليس إلا كرامة لسيدي محمد، ونفوذ في التصرف، وبلغني أن سيدي محمد ذهب في هذه السفرة ماشيا، واتفقت لسيدي علوان معه قصة ستأتي إن شاء الله تعالى في ترجمته، وكانت هذه السنة سنة أربع وعشرين وتسعمئة، ثم قطن سيدي محمد من يومئذ بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وتردد بين الحرمين الشريفين مرارا، وحج كذلك مرات، وقصد بالمدينة المنورة للإرشاد والتريية، واشتهر بالولاية بل بالقطبية، وبلغني أن رجلا اشتط عليه مرة بالمدينة، وسيدي محمد معرض عنه محتمل لأذاه، فلما انصرف قال له قائل: يا سيدي ما لك لا تنتقم من هذا السفيه؟ فاعتذر عنه بأنه لم يفعل ذلك إلا لأمر ظهر له علي أوجب الإنكار، وإن كنت منه برئيا. لكن يا ولدي سيأتي على الناس زمان إذا وقع بصرهم على قطب ذلك الزمان لا يرونه مسلما، وذلك لما يظهر لهم عليه باعتبار إفهامهم، وإنما يكون ذلك منه تسترا لشدة الظلمة في ذلك الزمان يعني ويكون له في ذلك تأويل صحيح، وأكثر ما ذكرته هنا لختصه من كتاب سيدي محمد المسمى بالسفينة العراقية وبالجملة، فما ذكرته هذا نبذة لطيفة من مناقبه ومكارمه، وقد كان في عصره مفردا علما وإماما في علمي الحقيقة، والشريعة مقدما وليثا على النفس، قادرا وغيثا لبقاع الأرض، ماطرا. قال الشيخ موسى الكناوي - رحمه الله تعالى - يقول: سمعت الشهاب بن المختيش الذهبي الدمشقي يقول: أرسل خلفي سيدي محمد بن عراق، وهو في مدينة صفد في سنة أربع وعشرين وتسعمئة لما أراد السفر إلى الحجاز بنية المجاورة، وكان ذلك في شهر رمضان، فأتى بسحور ليلا بسيرج وعسل، وخفقهما بإصبعه، وألعقني إصبعه صيانة لنفسه، ومنعا لها من شهوتها، وبعضهم قال: مكث أربع عشرة سنة ما أكل اللحم، ومن آثاره - رضي الله تعالى عنه - بدمشق لما كان قاضيا بصالحيتها عمارته للرصفان بدرب الصالحية، وكان يعمل في ذلك هو وأصحابه - رضي الله تعالى عنهم - وممن أخذ عنه ممن لم يتقدم لهم ذكر أولاده الثلاثة سيدي علي، والشيخ عبد النافع، والشيخ العارف بالله تعالى السيد الشريف قطب الدين عيسى الإيجي الصفوي، وصاحبه الشيخ محمد الإيجي، ثم الصالحي، والشيخ العارف بالله تعالى سيدي أحمد الداجاني المقدسي، والشيخ العارف بالله تعالى الشيخ موسى الكناوي، ثم الدمشقي. وشيخنا الشيخ العارف بالله تعالى سيدي أبو البركات محمد البزوري المتوفي في أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث بعد الألف، وهو آخر من أخذ عنه وفاة فيما أعلم. قال الشيخ موسى الكناوي: وزرته - يعني سيدي محمد - مرتين بسقبا من الغوطة، ومرة بداريا، وكنت فيها في صحبة الشيخ عبد الغني بن الجناب العجلوني الإربدي. قال: ولما حججت سنة ثلاثين وتسعمئة اجتمعت به بالحرم النبوي الشريف ودعا لي وأعطاني شيئا من التمر، وكان ذلك آخر العهد به في الدنيا إلى أن قال: وكان في صفته الظاهرة حسن الصورة، أبيض الوجه، لحيته إلى شقرة، مربوع القامة، وقال شيخنا الشيخ أبو البركات البزوري - رضي الله تعالى عنه -: اجتمعت بمكة المشرفة بالشيخ القطب الغوث العارف بالله تعالى شمس الدين محمد بن عراق فسألني ما اسمك؟ قلت: بركات، فقال لي: بل أنت محمد أبو البركات، ثم صافحني ولقنني الذكر، ودعا لي وحرضني على قراءة قصيدته اللامية الجامعة لأسماء الله الحسنى التي أولها:
قال: في كل ليلة أحسبه قال: بين المغرب والعشاء. قلت لشيخنا أبي البركات - رحمه الله تعالى -: هذه القصيدة اللامية التي اشرتم إليها هي من نظم سيدي محمد بن عراق؟ قال: نعم من نظمه وأنا أخذته عنه، فلازم على قراءتها، فإنها نافعة قلت: يا سيدي فنحن نرويها عنكم عن سيدي محمد بن عراق. قال نعم، وقد أثبت هذه القصيدة مع نظيرتين لها في خاتمة كتابي المسمى ’’عنبر التوحيد، ومظهر التفريد، ومن مؤلفات سيدي محمد بن عراق - رضي الله تعالى عنه - كتاب المنح الغنائية، والنفحات المكية’’، وكتاب ’’هداية الثقلين، في فضل الحرمين’’، وكتاب ’’مواهب الرحمن، في كشف عورات الشيطان’’، ورسالة كتبها إلى من انتسب إلى الطريقة المحمدية، في سائر الآفاق خصوصا بمكة العلية، والمدينة المرضية، وكتاب ’’السفينة العراقية’’، وكتاب ’’سفينة النجاه، لمن إلى الله التجاه’’، جوابا عن مكاتبات وردت إليه. وهو ببيروت من قبل بعض العلماء بدمشق يشكون له مما حدث في القرن العاشر من البدع والمنكرات، ومن كلامه في هذه السفينة، وقد أخبرني أستاذي عن بعض مشايخه أنه كان يقول: إني أرى الخمول نعمة، وكل أحد يأباه، وأرى الظهور نقمة، وكل أحد يتمناه، ألا وإن في الظهور، قصم الظهور، وألف أيضا رسالة في صفات أولياء الله تعالى سأله في تأليفها تلميذه وفقيره الشيخ أحمد الداجاني المقدسي بتاريخ نهار الاثنين سابع ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وتسعمئة. قال فيها في وصف المذكورين، قرة العين، وثاني الاثنين أحمد الداجاني حمد الله شأنه، وفهمه أسرار المعاني، ومن كلامه فيها: واعلم أنه لا يجوز لمن يدعي المشيخة أن يتظاهر بين أظهر العباد، ويتصدر للسلوك والإرشاد، حتى يتصف باثنتي عشرة خصلة اثنتان من الله، واثنتان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واثنتان من الصديق - رضي الله تعالى عنه -، واثنتان من الفاروق - رضي الله تعالى عنه -، واثنتان من ذي النورين - رضي الله تعالى عنه، واثنتان من جد الحسنين - رضي الله تعالى عنهم، فأما اللتان من الله يكون غفورا رحيما، واللتان من النبي صلى الله عليه وسلم يكون رؤوفا رحيما، واللتان من أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - يكون صديقا سليما، واللتان من عمر - رضي الله تعالى عنه - يكون غيورا فهيما، واللتان من عثمان - رضي الله تعالى عنه - يكون حيا كريما، واللتان من علي رضي الله تعالى عنه - يكون شجاعا عليما، ثم قال: فيحق لمن اتصف بذلك، أن يكون عمدة للسالك، ومرشدا إلي ومنقذا للهالك، انتهى.
ومما ينسب تأليفه إلى سيدي محمد بن عراق رضي الله تعالى عنه ’’حزب الإشراق’’ أملاه علينا الشيخ يوسف ابن الشيخ سعيد بن حسن القاسمي العجلوني أحد جماعة سيدي أحمد الداجاني المقدسي رضي الله تعالى عنه - عن سيدي أحمد، عن سيدي محمد: ’’إلهي كلما أذنبت دعتني سابقة نعمتك إلى التوبة، وكلما تبت جذبتني أزمة قدرتك إلى المعصية، فلا التوبة تدوم، ولا المعصية تنصرف عني، وما أدري بماذا يختم لي غير أن سابقة الحسنى منك أوجبت لي حسن الظن بك، وأنت عند ظن عبدك بك، فهب لي منك توبة باقية، واصرف أزمة الشهوات عني، وامح زينتها من قلبي بزينة الإيمان، وقني من الظلم والبغي والعدوان يا حليم يا عظيم يا رحمن يا رحيم. إلهي أنوار تجلياتك الوجودية أشرقت، فلا يزاحم ضحاها وجود ليل سواها لإحاطة شمولها في مراتب ظهورها، فحققني اللهم بذلك تحقيقا محفوفا بلزوم مواطن مراضيك مع البقاء بك بعد الفناء فيك على قدم من اصطفيتهم، وأنعمت عليهم من النبيين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله، وكفى بالله عليما. إلهي عم قدمك جدتي، فلا أنا، وأشرق نور سلطان هيبتك فأضاء هيكل بشريتي، فلا سواك، فما دام مني فبدوامك، وما فني مني، فبمعرفتي إياي أسألك سيدي بالألف إذا تقدمت، وبالهاء إذا تأخرت أن تضرب جيم جلال جمعي في زاي زين جمال تفرقتي، حتى ينادي قلبي: يا هو مرة يا من ليس إلا هو، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. إلهي من أقوى مني حولا وأنت حولي؟ ومن أولى مني بوجد أماله، وأنت مأمولي. سيدي من أعظم مني قوة، وأنت قوتي؟ ومن أحق بالأمان مني وأنت عصمتي؟ أمري وأمر كل شيء بيدك يا الله’’. ومن شعر سيدي محمد رضي الله تعالى عنه ما ذكره ابن الحنبلي في ترجمة ولده سيدي علي، وأنشدنا إياه الشيخ الصالح الفقيه الولي يوسف بن سعيد الداجاني العجلوني. قال: أنشدنا ولقننا شيخنا الأستاذ الكبير سيدي أحمد الداجاني. قال: أنشدنا ولقننا شيخنا العارف بالله تعالى سيدي محمد بن عراق لنفسه، وكان يأمر أصحابه بحفظ القرآن، وكان يقول كل ليلة بعد صلاة العشاء عقب قراءة الملك، فإذا فرغ منها قال:
وذكر ابن الحنبلي عن سيدي علي أن والده سيدي محمد بن عراق لما قدم على سيدي علي بن ميمون، وهو بحماة قال له الشيخ: بأي نية جئتني يا ابن عراق؟ قال: فقلت له: يا سيدي قد ضمنت نيتي هذه الأبيات
فقال ابن ميمون: هذه دعوى، ولكن ثبتك الله تعالى، ووقع في الشقائق النعمانية أن سيدي محمد بن عراق مات بالمدينة النبوية، ودفن بها وهو غلط بلا شك، وإنما دفن بمكة بعد أن مات بها، وتحرير وفاته كما كتب به المحدث جار الله بن فهد إلى صاحبه الشيخ شمس الدين بن طولون، ونقله عنه في تاريخه يوم الثلاثاء رابع عشري صفر سنة ثلاث وثلاثين وتسعمئة، ودفن من الغد بباب المعلى، وحضر جنازته سلطان مكة أبو نمي بن بركات. قال الشيخ موسى الكناوي: مات عن أربع وخمسين سنة - يعني تقريبا - وذكر ابن الحنبلي في ترجمة السيد عيسى الصفوي أنه كان له مزيد اعتقاد في سيدي محمد بن عراق، وأنه قال: لما توفي سيدي محمد بمكة المشرفة تهالك الناس على تعاطي غسله، قال: فوقع في نفسي أن أكون ممن يساعد فيه، فلم أشعر إلا بواحد يناديني باسمي أن أقبل إلى مكان غسله، فمضيت فإذا هو يدفع لي إناء ويأمرني بالسكب عليه، ففعلت. قال: ثم لما حمله الناس مزدحمين على سريره، وددت الحمل، فلم أصل إليه، فوقفت بجوار باب السلام ملصقا كتفي بجانبه، فإذا الجنازة قد حضرت على عنق رجل يمني، وقد أمرني بحملها، ففعلت بدون أن أعرف هذا الرجل، والذي قبله. قال: ثم رأيت الشيخ في المنام، فأعطاني بيضتين قال: وكان يوصيني باستعمال دعاء القنوت لكونه جامعا للمطالب الحسنة الجليلة. ولسيدي محمد مع سيدي محمد المنير المصري قصة، ومع سيدي محمد المنير البعلي قصة أخرى ستأتي كل قصة في ترجمة صاحبها. قال الشيخ موسى: ورثاه جماعة منهم أخوة الشيخ علوان - رضي الله تعالى عنهما - فقال:

  • دار الكتب العلمية - بيروت-ط 1( 1977) , ج: 1- ص: 59