محمد بن حمزة الحسيني محمد بن حمزة الحسيني: محمد بن حمزة بن أحمد بن علي بن محمد بن علي بن الحسن بن حمزة، الشيخ الإمام شيخ الإسلام، مفتي دار العدل بدمشق، السيد الشريف الحسيب النسيب، أبي عبد الله كمال الدين الحسيني الدمشقي الشافعي الشهير بأبيه، ولد في جمادى الأولى سنة خمسين وثمانمئة، كما قرأته بخطه في إجازته لأولاد مفلح، وبلغني أن والده استجاز له من ابن حجر، ولا يبعد فإن وفاة ابن حجر كانت ليلة السبت ثامن عشر ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وثمانمئة، واشتغل في العلم على والده وخاليه النجمي والتقوي ابني قاضي عجلون، وعلى غيرهم، وبرع وفضل وتردد إلى مصر في الاشتغال والأشغال، ثم صار أحد الشيوخ المعول عليهم من الشافعية بدمشق فقها وأصولا وعربية وغير ذلك، وولي إفتاء دار العدل بدمشق، وقصده الطلبة، وكان جامعا للعلوم مع جلالة ومهابة وهيئة حسنة، وكان يقرر في درسه بسكينة وتؤدة وأدب واحتشام، مع حل المشكلات ومراجعة التصحيح للشيخ نجم الدين ابن قاضي عجلون، والوقوف عندما صححه من كلام الشيخين وكلام المتأخرين، وكان يتردد إلى مصر، وتزوج وانتفع به الطلبة، وتخرج به الطلبة بدمشق والقاهرة، وما والاهما، وكان يدرس ويفتي وآخرا ترك الإفتاء، قال والد شيخنا الشيخ يونس العيثاوي - رحمه الله تعالى -: وكان يرد الأسئلة إلى بعض تلامذته لأمور منها: المحنة التي حصلت له مع السلطان قانصوه الغوري، وهي أنه رفع إليه سؤال فيمن بنى بنيانا في مقبرة، مسألة هل يهدم أو لا؟ فكتب أنه يهدم، فهدم على الفور، وكان الميت المبني على قبره أحد أولاد محب الدين الأسلمي، ناظر الجيوش بالشام، بمقبرة الشيخ أرسلان، وكان الهدم يوم الأربعاء ثاني رمضان سنة ثلاث عشرة وتسعمئة، بحضرة قاضي القضاة الشافعية الولوي بن الفرفور، وقاضي القضاة المالكية خير الدين الغزي، وقاضي القضاة الحنابلة نجم الدين عمر بن مفلح، وصاحب الترجمة مفتي دار العدل كمال الدين بن حمزة وغيرهم، فلما هدم البناء المذكور استفتى أبو الميت محب الدين المذكور شيخ الإسلام التقوي ابن قاضي عجلون وهو خال السيد كمال الدين صاحب الترجمة فأفتى بعدم الهدم، وهو غير المنقول، وكأنه أدخل عليه في السؤال ما دعاه إلى الإفتاء بنلك، فأخذ محب الدين المذكور خط شيخ الإسلام ابن قاضي عجلون، وسافر به إلى مصر، بعد أن عقد بسبب ذلك مجالس عدة بدمشق منها يوم الأحد سادس المحرم سنة أربع عشرة وتسعمئة، بحضرة نائب الشام يومئذ سيبائي، والقضاة الأربعة والدوادار دولتباي وغيرهم، اجتمعوا بالتربة المذكورة وكشفوا عليها، واتفق الحال آخرا على أن من قال بقدم الجدار المبني يكتب خطه ومن قال بحدوثه يكتب خطه، ثم سافر محب الدين ووقف للغوري شاكيا باكيا، وبلغني أنه حمل معه من عظام الموتى، فطرحها بين يدي الغوري، فعند ذلك بعث الغوري في طلب السيد كمال الدين وخاله وولده القاضي نجم الدين، وقاضي القضاة الولوي بن الفرفور، وقاضي القضاة ابن يونس، وقاضي القضاة ابن خير الدين، وقاضي القضاة ابن مفلح وأقضى القضاة شهاب الدين الرملي، وعقد لهم مجلس بحضرة الغوري وعلماء مصر وقضاتها، وصاروا يتألفون السلطان بالجمع بين الإفتائين، تأدبا مع الشيخ تقي الدين ابن قاضي عجلون لأنه كان يومئذ شيخ الكل على الإطلاق، وكان للسيد أيضا أصحاب وأنصار، فما أمكنهم إلا الإصلاح، وكان من كلامهم للسلطان الغوري أن العلماء ما زالوا يختلفون في الوقائع وكل أفتى بحسب ما ظهر له، وكان ميل الغوري إلى ما أفتى به الشيخ تقي الدين، وانفصل الأمر بعد عقد مجالس على المصادرة، وأخذ المال، وعزل ابن الفرفور وتولية القاضي نجم الدين ابن الشيخ تقي الدين المذكور قضاء القضاة الشافعية، وعاد هو ووالده إلى دمشق متوليا لقضائها، ومكث مدة بها قاضيا، ثم عزل بابن الفرفور، واستمر الولوي بن الفرفور قاضيا إلى انقضاء الدولة الجراكسة، وعاد السيد كمال الدين وبقية القضاة إلى دمشق، وعكفت الطلبة عليه، وعظم شأنه، حدثنا بهذه القصة مرارا مشافهة شيخنا - فسح الله تعالى في مدته - عن والده الشيخ يونس - رحمه الله تعالى - ومن خطه نقلت ما عدا تاريخ الهدم والمجلس الذي عقد بالتربة المذكورة فإني حررته من كتاب ابن طولون، ونقلته من خطه، وولي السيد كمال الدين بن حمزة - رحمه الله تعالى - مع تدريس البقعة بالجامع الأموي، تدريس الشاميتين بدمشق الجوانية والبرانية والعزيزية والتقوية والأتابكية، وكان مجلس درسه بالجامع الأموي شرقي مقصورته، ولما دخل إبراهيم باشا الوزير الأعظم إلى دمشق في سنة إحدى وثلاثين وتسعمئة، رتب له في مال الجوالي بدمشق ثلاثين عثمانيا، وكان قليل الاعتراض على الحكام في أمر العامة، وعاش عيشة هنية نقية، وكان يتودد إلى أهل الصلاح، وممن حمل عنه الفقه وغيره من العلماء الشيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين بن القاري، والشيخ العلامة بهاء الدين بن سالم، والعلامة كمال الدين الدركي إمام الشامية البرانية وخطيبها، والعلامة شمس الدين بن بركات بن الكيال، والعلامة برهان الدين الأخنائي، والعلامة القاضي جلال الدين البصروي، والعلامة القاضي زين الدين عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام التقوي ابن قاضي عجلون، والعلامة القاضي جمال الدين بن حمدان، والشيخ العلامة برهان الدين بن حمزة، والشيخ العلامة يعقوب الواعظ، والشيخ العلامة شمس الدين الوفائي الواعظ، والشيخ العلامة المفتي المدرس يونس العيثاوي والد شيخنا، والشيخ العلامة الورع شهاب الدين أحمد الطيبي، والشيخ العلامة الصالح علاء الدين القيمري وغيرهم، ولم يتفق لشيخ الإسلام الوالد الأخذ عنه لاستغنائه عنه بشيوخه وأقرانهم من الشاميين والمصريين، كما ستعلمه من ترجمة الشيخ الوالد.
وحئثني من أثق به عن الشيخ الوالد أن رجلا قال لشيخ الإسلام الجد: يا سيدي لو أمرت ولدك الشيخ بدر الدين أن يقرأ على السيد كمال الدين لكان ذلك حسنا فقال: ولدي من أقران السيد كمال الدين. فكيف يقرأ عليه؟ وأراد بذلك الشيخ الجد التنويه بمقام ولده، والتعريف بقدره مع
اعترافه بكمال الكمال، وإلا فلا مانع من ذلك، قال والد شيخنا - رضي الله تعالى عنه -: وكان السيد كمال الدين - رحمه الله تعالى - هو سبب ظهور شرح المنهاج للشيخ جلال الدين المحلي بدمشق، فإنه استكتبه بمصر، وكتبه الطلبة وهو مفيد مع الاختصار، وكان الناس يطالعون العجالة، وهي أنفع لاشتمالها على الدليل والتعليل، والفروع المفيدة، قال وأشياخنا كالإمام البلاطنسي وغيره، كانوا يأمرون الطلبة بمطالعتها قال: وأول اجتماعي بالسيد المذكور سألني عن محل إقامتي، فقلت: بميدان الحصا، فقال لي: هذه المحلة خصها الله تعالى بثلاثة أبارية كل منهم انفرد بفن لا يشارك فيه الشيخ إبراهيم الناجي بعلم الحديث، والشيخ إبراهيم القدسي بفن القراءات، والشيخ إبراهيم بن قرا في التصوف. انتهى.
ورأيت للشيخ الصالح العلامة علاء الدين بن صدقة قصيدة يتغزل فيها ويتخلص لمدح صاحب الترجمة، فأحببت إثباتها هنا وهي هذه:
لي في المحبة شاهد بفنائي | عند الأحبة، وهوعين بقائي |
أذهبت كلي في الغرام، ولم أدع | من جملتي إلا محل رجائي |
فتبوأ الإحسان مني منزلا | وسط الفؤاد، وسائر الأعضاء |
ملكتهم رقي، وقلت برقة | إن تقبلوا فأنا من السعداء |
ما زلت أسفح في هواكم أدمعي | حتى همت ممزوجة بدماء |
فأنا الغريق بعبرة في لجة | أشكو بها من فقد نار جواء |
لوكنت في لجج ولم تك في الحشا | أهل المودة زاد حر ظمائي |
فبحق ساعات الوصال تعطفوا | وأحيوا بوصل ميت الأحياء |
إن تقتلوا مضناكم يا حبذا | إذ تدخلوه بزمرة الشهداء |
أو ترحموا صبا كئيبا ترحموا | بمراحم من أرحم الرحماء |
برح المتيم في الهيام صبابة | لما عليه سطت يد البرحاء |
يا من هم قصدي وسؤلي والمنى | إني كلفت بكم وطال عنائي |
جودوا وجوروا سادتي فأنا على الحـ | ـالين لم أنقض عهود ولائي |
أعرضت عن قومي لأجل رضاكم | وغدوت عبدا في الهوى برضائي |
أصبحت عن أهلي غريبا نازحا | وارحمتاه لغربة الغرباء |
ليس الغريب غريب دار إنما | عندي الغريب المستهام النائي |
وأنا الذي عني أخلائي نأوا | والصبر مني ذاهب متنائي |
لما ترحلت الأحبة حل بي | داء ضنيت به وعز دوائي |
ساروا إلى نحو الخيام وهم معي | قد خيموا في القلب والأحشاء |
تلك الليالي الماضيات بقربهم | كوميض برق في دجى الظلماء |
ماذا عليهم لو أتاني منهم | من يكشف الضراء بالسراء |
وأقول: مهلا يا رعاك الله إن | جزت المنازل جز على اللمياء |
ولم الذي قد لامني في حبها | إن كنت ترعى في الأنام إخائي |
واحفظ فؤادك بين سمر كواعب | واحذر ظبا الألحاظ بين ظباء |
فأنا القتيل بسيف لحظ عزيزة | وأنا الطعين بأسمر الهيفاء |
كحل السهاد نواظري من نظرة | أرسلتها للمقلة الكحلاء |
لله كم سهرت عيوني عندما | شهرت سيوف المقلة النجلاء |
لله ما منع الكرى عني سوى | ذات الدلال بعينها الوسناء |
زارت بليل، ثم لما أسفرت | ولى ظلام الليلة الليلاء |
سدلت ذوائبها فقلت: تمثلا | بالله خل الرقص في الظلماء |
وجلت محيا مثل بدر في الدجى | وتمايلت تمشي على استحياء |
ما أن تثنت وانثنت إلا حكت | غصنا يميس بحلة خضراء |
سارت تودعني وضنت بعدما | سمحت ولم ترث لعظم بلائي |
فغدوت من شجو، ومن كلف بها | مستوحشا في الأهل والعشراء |
فشددت راحلة الرجاء على | مطية همتي، وجنحت للعظماء |
لا أبتغي إلا كمال الدين ذا الـ | ـحسب الشريف خلاصة الشرفاء |
حبر وبحر في العلوم وسيد | شيخ المشايخ أوحد العلماء |
حاوي الفضائل كنز أسرار الهدى | عين الشريعة بهجة الفقهاء |
علم الحقيقة والطريقة شيخ | الإسلام المحقق عمدة الفضلاء |
المرتقي لذرى المكارم التقى | نسل السراة السادة الكرماء |
فهو الرئيس ابن الرئيس ابن الرئيس | ابن الرئيس وأرأس الرؤساء |
ولقد كساه الله ثوب ولاية | ومهابة وجلالة وبهاء |
شيخ السكينة والوقار إذا بدا | سطعت أشعة لمة بيضاء |
فتراه مثل البدر بين نجومه | يسمو على العيوق والعواء |
والله ما في ذا الزمان نظيره | في الفضل تحت الخيمة الزرقاء |
فله مقام ليسر يدرك شأوه | خضعت لديه ذروة العلياء |
ولقد حوى شرفا عليا زانه | بتواضع ونزاهة وسخاء |
ذو حشمة ذو هيبة ذو رفعة | بمحاسن الخلفاء والأمراء |
قطب له الأعلام قد نشرت على | الأبدال والأوتاد والنجباء |
أهل الصفا سلكوا على منهاجه | فمضى بهم للروضة الزهراء |
لسما الحقيقة قد سما وجلا عن الـ | ـقلب الصدا بحقائق الأسماء |
روض العلوم لقد تضوع نشره | لما تكمل منه بالأحياء |
داوى العليل شفا الغليل، ولم يزل | لقلوب أهل الله خير شفاء |
ذو حكمة وبلاغة لم يوجدا | في العصر للحكماء والبلغاء |
لا غرو أن قريش أهل فصاحة | فاقت فصاحة سائر الفصحاء |
هذا وإن الكامل الأوصاف قد | أضحى الفريد، وكعبة الشعراء |
يا سعد لا تلو على سلمى، وسل | ما قد جرى في الحلة الفيحاء |
واقصد ديار الاكرمين بجلق | الأمجدين الكمل الكبراء |
وانثر لآلئ مدح ذا الشرف الذي | في الناس سار بسيرة حسناء |
العالم الفرد الذي قد قام | بالإرشاد والتدريس والإفتاء |
الصاحب العقل العزيز، ومن غدا | في الكون قدوة سائر العقلاء |
الزاهد الورع التقي الطاهر الـ | ـحسب النقي البر بالفقراء |
لا عيب فيه غيرأن يمينه | مبسوطة في الناس بالنعماء |
هو كنز طلاب الكمال وذخرهم | قطب الوجود ومطلب الصلحاء |
يحيي قلوب مجالسيه كأنه | روح وريحان لدى الجلساء |
قد حاز كل لطافة وظرافة | وعلا على اللطفاء والظرفاء |
كررت مدحي إذ حلا في الأكمل | ابن الأكمل ابن الأكمل الأصلاء |
يا ليت شعري ما أقول بمدحه | وعليه أثنى الدهر كل ثناء |
مولاي قد قصرت فيما قلته | لكنني طولت ذيل رجائي |
فالعفو عن من كان من صدقاتكم | وأتى لكم من أصدق الصدقاء |
توفي قرة العين الكمالي | وصرنا بعده في سوء حال |
ولكنا صبرنا واحتسبنا | وليس القلب بعد الصبرسالي |
ومهما كان في الدنيا جميعا | فإن مصير ذاك إلى الزوال |
دار الكتب العلمية - بيروت-ط 1( 1977) , ج: 1- ص: 40