موسى بن أبي الفضل يونس بن محمد بن منعة الشيخ العلامة كمال الدين ابن يونس أبو الفتح الموصلي
والد شارح التنبيه الشيخ شرف الدين أحمد بن موسى
ولد في صفر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة بالموصل وتفقه على والده الشيخ رضي الدين يونس ثم توجه إلى بغداد فتفقه بالمدرسة النظامية على معيدها السديد السلماسي وقرأ العربية بالموصل على الإمام يحيى بن سعدون وببغداد على الكمال عبد الرحمن الأنباري ثم عاد إلى الموصل مقيما بها
وكان رجلا متبحرا في كثير من فنون العلم موصوفا بالذكاء المفرط إليه مرجع أهل الموصل وما والاها في الفتاوى وأصحابه يعظمونه كثيرا
وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات وقال إنه درس بعد وفاة والده في موضعه بالمسجد المعروف بالأمير زين الدين صاحب إربل قال وهذا المسجد يعرف الآن بالمدرسة الكمالية لأنه نسب إلى كمال الدين المذكور لطول إقامته به ولما اشتهر فضله انثال عليه الفقهاء وتبحر في جميع فنون العلم وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد
وتفرد بعلم الرياضة ولقد رأيته بالموصل في شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة وترددت إليه دفيعات عديدة لما كان بينه وبين الوالد رحمه الله من المؤانسة والمودة الأكيدة ولم يتفق لي الأخذ عنه لعدم الإقامة وسرعة الحركة إلى الشام
وكان الفقهاء يقولون إنه يدري أربعة وعشرين فنا دراية متقنة فمن ذلك المذهب وكان فيه أوحد الزمان وكان جماعة من الطائفة الحنفية يشتغلون عليه بمذهبهم ويحل مسائل الجامع الكبير أحسن حل مع ما يجيء عليه من الإشكال المشهور
وكان يتقن فن الخلاف والتجاري وأصول الفقه وأصول الدين ولما وصلت كتب فخر الدين الرازي للموصل وكان بها إذ ذاك جماعة من الفضلاء لم يفهم أحد منهم اصطلاحه فيها سواه وكذلك الإرشاد للعميدي لما وقف عليها حلها في ليلة واحدة وأقرأها على ما قالوا
وكان يدري فن الحكمة والمنطق والطبيعى والإلهي وكذلك الطب ويعرف فنون الرياضة من اقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطي وهي لفظة يونانية معناها بالعربية الترتيب ذكر ذلك أبو بكر في كتابه وأنواع الحساب المفتوح منه والجبر والمقابلة والأرثماطيقي وطريق الخطأين والموسيقى والمساحة
معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها وبالجملة فلقد كان كما قال الشاعر

واستخرج في علم الأوفاق طرقا لم يهتد إليها أحد وكان يبحث في العربية والتصريف بحثا تاما مستوفى حتى إنه كان يقرئ كتاب سيبويه والإيضاح والتكملة لأبي علي الفارسي والمفصل للزمخشري وكان له في التفسير والحديث وأسماء الرجال وما يتعلق به يد جيدة
وكان يحفظ من التواريخ وأيام العرب ووقائعهم والأشعار والمحاضرات شيئا كثيرا
وكان أهل الذمة يقرأون عليه التوراة والإنجيل ويشرح لهما هذين الكتابين شرحا يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله وكان في كل فن من هذه الفنون كأنه لا يعرف سواه لقوته فيه
وبالجملة فإن مجموع ما كان يعلمه من الفنون لم نسمع عن أحد ممن تقدمه أنه كان قد جمعه
ولقد جاءنا الشيخ أثير الدين المفضل بن عمر بن المفضل الأبهري صاحب التعليقة في الخلاف والزيج والتصانيف المشهورة من الموصل إلى إربل في سنة ست وعشرين وستمائة وقبلها في سنة خمس وعشرين ونزل بدار الحديث وكنت أشتغل عليه بشيء من الخلاف فبينما أنا يوما عنده إذ دخل عليه بعض فقهاء بغداد وكان فاضلا فتجاريا في الحديث زمانا وجرى ذكر الشيخ كمال الدين في أثناء الحديث فقال له الأثير لما حج الشيخ كمال الدين ودخل بغداد كنت هناك فقال نعم فقال كيف كان
إقبال الديون العزيز عليه فقال ذاك الفقيه ما أنصفوه على قدر استحقاقه فقال الأثير ما هذا إلا عجب والله ما دخل بغداد مثل الشيخ فاستعظمت منه هذا الكلام وقلت يا سيدنا كيف تقول كذا فقال يا ولدي ما دخل بغداد مثل أبي حامد الغزالي والله ما بينه وبين الشيخ نسبة
وكان الأثير على جلالة قدره في العلوم يأخذ الكتاب ويجلس بين يديه يقرأ عليه والناس يوم ذلك يشتغلون في تصانيف الأثير ولقد شهدت هذا بعيني وهو يقرأ عليه كتاب المجسطي
ولقد حكى بعض الفقهاء أنه سأل الشيخ كمال الدين عن الأثير ومنزلته في العلوم فقال ما أعلم فقال وكيف هذا يا مولانا وهو في خدمتك منذ سنين عديدة يشتغل عليك فقال لأنني مهما قلت له تلقاه بالقبول وقال نعم يا مولانا فما جادلني في مبحث قط حتى أعلم حقيقة فضلة
ولا شك أنه كان يعتمد هذا القدر مع الشيخ تأدبا وكان معيدا عنده في المدرسة البدرية وكان يقول ما تركت بلادي وقصدت الموصل إلا للاشتغال على الشيخ
وكان شيخنا تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح المتقدم ذكره يبالغ في الثناء على فضائله وتعظيم شأنه وتوحده في العلوم فذكره يوما وشرع في وصفه على عادته فقال له بعض الحاضرين يا سيدنا على من اشتغل ومن كان شيخه فقال هذا الرجل خلقه الله إماما عالما في فنونه لايقال على من اشتغل ولا من كان شيخه فإنه أكبر من هذا
وحكى لي بعض الفقهاء بالموصل أن ابن الصلاح المذكور سأله أن يقرأ عليه شيئا من المنطق سرا فأجابه إلى ذلك وتردد إليه مدة فلم يفتح عليه بشيء فقال له يا فقيه المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن فقال له ولم ذلك يا مولانا فقال لأن الناس يعتقدون فيك الخير وهم ينسبون كل من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد فكأنك تفسد عقائدهم فيك ولا يحصل لك من هذا الفن شيء فقبل إشارته وترك قراءته
ومن يقف على هذه الترجمة فلا ينسبني إلى المغالاة في حق الشيخ ومن كان من أهل تلك البلاد وعرف ما كان عليه الشيخ عرف أني ما أعرته وصفا ونعوذ من الغلو والتساهل في النقل
وقد ذكره أبو البركات ابن المستوفي المتقدم ذكره في تاريخ إربل فقال هو عالم مقدم ضرب في كل علم وهو في علم الأوائل كالهندسة والمنطق وغيرهما ممن يشار إليه حل اقليدس والمجسطي على الشيخ شرف الدين المظفر بن محمد بن المظفر الطوسي الفارابي يعني صاحب الاسطرلاب الخطي المعروف بالعصا
قال ابن المستوفي ووردت عليه مسائل من بغداد في مشكلات هذا العلم فحلها واستصغرها ونبه على براهينها بعد أن احتقرها وهو في الفقه والعلوم الإسلامية نسيج وحده ودرس في عدة مدارس بالموصل وتخرج عليه خلق كثير في كل فن
ثم قال أنشدنا لنفسه وأنفذها إلى صاحب الموصل يشفع عنده
قلت أنا ولقد أنشدني هذه الأبيات عنه أحد أصحابه بمدينة حلب وكنت بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وبها رجل فاضل في علوم الرياضة فأشكل عليه مواضع من مسائل الحساب والجبر والمقابلة والمساحة واقليدس فكتب جميعها في درج
وسيرها إلى الموصل ثم بعد أشهر عاد جوابه وقد كشف عن خفيها وأوضح غامضها وذكر ما يعجز الإنسان عن وصفه ثم كتب في آخر الجواب فليمهد العذر في التقصير في الأجوبة فإن القريحة جامدة والفطنة خامدة قد استولى عليها كثيرة النسيان وشغلها حوادث الزمان وكثير مما استخرجناه وعرفناه نسيناه بحيث صرنا كأنا ما عرفناه
وقال لي صاحب المسائل المذكورة ما سمعت مثل هذا الكلام إلا للأوائل المتقنين لهذه العلوم ما هذا من كلام أبناء هذا الزمان
وحكى لي الشيخ الفقيه الرياضي علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر الحنفي المقرئ المعروف بتعاسيف وكان إماما في علوم الرياضة قال لما أتقنت علوم الرياضة بالديار المصرية وبدمشق تاقت نفسي إلى الاجتماع بالشيخ كمال الدين لما كنت أسمع من تفرده بهذه العلوم فسافرت إلى الموصل قصدا للاجتماع فلما حضرت في مجلسه وخدمته وجدته على حلية الحكماء المتقدمين وكنت قد طالعت أخبارهم وحلاهم فسلمت عليه وعرفته قصدي له للقراءة عليه فقال لي في أي العلوم تريد تشرع فقلت في الموسيقى فقال مصلحة هو فلي زمان ما قرأه علي أحد فأنا أوثر
مذاكرته وتجديد العهد به فشرعت فيه ثم في غيره حتى شققت عليه أكثر من أربعين كتابا في مقدار ستة أشهر وكنت عارفا بهذا الفن لكن كان غرضي الانتساب في القراءة إليه وكان إذا لم أعرف المسألة أوضحها لي وما كنت أجد من يقوم مقامه في ذلك
وقد أطلت الشرح في نشر علومه ولعمري لقد اختصرت
ولما توفي أخوه الشيخ عماد الدين محمد المتقدم ذكره تولى الشيخ المدرسة العلائية موضع أخيه ولما فتحت المدرسة القاهرية تولاها ثم تولى المدرسة البدرية في ذي الحجة سنة عشرين وستمائة وكان مواظبا على إلقاء الدروس والإفادة
وحضر في بعض الأيام دروسه جماعة من المدرسين أرباب الطيالس وكان العماد أبو علي عمر بن عبد النور بن يوسف الصنهاجي النحوي البجائي حاضرا فأنشد على البديهة
وللعماد المذكور فيه أيضا
وكان الشيخ سامح الله يتهم في دينه لكون العلوم العقلية غالبة عليه وكانت تعتريه غفلة في بعض الأحيان لاستيلاء الفكرة عليه بسبب هذه العلوم فعمل فيه العماد المذكور
انتهى كلام ابن خلكان
ورأيت بخط الشيخ كمال الدين بن يونس على الجزء الأول من اقليدس إصلاح ثابت بن قرة ما نصه قرأت على الشيخ الإمام العالم الزاهد الورع شرف الدين فخر العلماء تاج الحكماء أبي المظفر أدام الله أيامه بعد عوده من طوس هذا الجزء وكنت حللته عليه نفسي مع كتاب المجسطي وشيء من المخروطات واستنجزته ما كان وعدنا به من كتاب الشكوك فأحضره واستنسخته وكتبه موسى بن يونس بن محمد بن منعة في تاريخه هذا صورة خطه وتاريخ الكتاب المشار إليه تاسع عشر ربيع الأول سنة ست وسبعين وخمسمائة هجرية

  • دار هجر - القاهرة-ط 2( 1992) , ج: 8- ص: 378