العادل نور الدين محمود بن زنكي (عمادالدين) ابن اقسنقر، ابو القاسم، نور الدين، الملقب بالملك العادل: ملك الشام وديار الجزيرة ومصر. وهو اعدل ملوك زمانه واجلهم وافضلهم. كان من المماليك (جده من موالي السلجوقين) ولد في حلب، وانتقلت اليه امارتها بعد وفاة ابيه (541هـ) وكان ملحقا بالسلاجقة، فاستقل. وضم دمشق إلى ملكه مدة عشرين سنة. وامتدت سلطته في المماليك الاسلامية حتى شملت جميع سورية الشرقية وقسما من سورية الغربية، والموصل وديار بكر والجزيرة ومصر وبعض بلاد المغرب وجانبا من اليمن، وخطب له بالحرمين. وكان معتنيا بمصالح رعيته مداوما للجهاد، يباشر القتال بنفسه، موفقا في حروبه مع الصليبين، ايام زحفهم على بلاد الشام. واسقط ماكان يؤخذ من المكوس، واقطع عرب البادية اقطاعات لئلا يتعرضوا للحجاج. وهو الذي حصن قلاع الشام وبنى الاسوار على مدنها، كدمشق وحمص وحماة وشيزر وبعلبك وحلب. وبنى مدارس كثيرة منها (العادلية) اتمها بعده العادل اخو صلاح الدين، و (دار الحديث) كلتاهما في دمشق، وهو اول من بنى دارا للحديث. وبنى الجامع (النوري) بالموصل، والخانات في الطريق، والخوانق للصوفية. وكان متواضعا مهيبا وقورا، مكرما للعلماء ينهض للقائهم ويؤنسهم ولايرد لهم قولا: عارفا بالفقه على مذهب ابي حنيفة، ولاتعصب عنده. وسمع الحديث بحلب ودمشق من جماعة، وسمع منه جماعة. وقرأت في كتاب (مشارع الاشواق-خ) في الجهاد، لاحمد بن ابراهيم بن محمد النحاس الدمشقي، الورقة39: (خرج السلطان المجاهد محمود المعروف بالشهيد، رحمه الله، في كتاب فضل الجهاد باسناده عن سعيد بن سابق الخ) وكان يجلس في كل اسبوع اربعة ايام يحضر الفقهاء عنده ويامر بازالة الحجاب حتى يصل اليه من يشاء، ويسأل الفقهاء عما يشكل عليه. ووقف كتبا كثيرة. وكان يتمنى ان يموت شهيدا، فمات بعلة (الخوانيق) في قلعة دمشق، فقيل له (الشهيد) وقبره في المدرسة (النورية) وكان قد بناها للاحناف بدمشق. ولمحمد بن ابي بكر ابن قاضي شهبة كتاب (الدر الثمين-خ) في سيرته، ولابي شامة كتاب (الروضتين في اخبار الدولتين-ط) في سيرته وسيرة السلطان صلاح الدين، ودولتيهما.
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 7- ص: 170
العادل نور الدين محمود
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 16- ص: 0
العادل نور الدين الشهيد محمود بن زنكي بن آقسنقر، هو السلطان العادل المجاهد المرابط الملقب بالعادل نور الدين أبو القاسم بن قسيم الدولة التركي. كان آقسنقر قد ولي نيابة حلب للسلطان ملكشاه بن ألب رسلان، وولي غيرها من بلاد الشام. ونشأ ابنه زنكي بالعراق، وندبه السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه برأي المسترشد لولاية الموصل وديار بكر والبلاد الشامية بعد قتل آقسنقر البرسقي وموت ابنه مسعود. فظهرت كفاية زنكي وثباته عند ظهور ملك الروم ونزوله على شيزر حتى رجع إلى بلاده خائبا، وقد حاصر زنكي دمشق فلم يفتحها، وافتتح الرها والمعرة وكفرطاب وغيرها من أيدي الكفار. ولما توفي قام مقامه الملك العادل نور الدين، وملك وله ثلاثون سنة.
وكان أعدل ملوك زمانه بالإجماع، وأحرصهم على الخير وأدينهم وأتقاهم، و أظهر السنة بحلب، وغير البدعة التي كانت لهم في التأذين، وقمع الرافضة وبنى المدارس وأقام العدل، وحاصر دمشق مرتين وقصدها في الثالثة، وقد كان صالح معين الدين أنر نائب صاحبها وصاهره، واجتمعت كلمتهما على العدو، فملكها وسكنها وحصن سورها، وبنى بها المدارس والمساجد، ووسع أسواقها ورفع عن الناس الأثقال. وكان يؤخذ منهم من المغارم بدار البطيخ، وسوق الغنم، وضمان النهر، والكيالة، شيء كثير. وأبطل الخمر، وأخذ بانياس من الفرنج والمنيطرة، وفتح قلعة أفامية، وحصن الباره وقلعة الراوندان، وقلعة تل خالد، وحصن كفرلاثا، وحصن بسرفوث بجبل بني عليم، وعزاز وتل باشر، ودلوك، ومرعش، وعين تاب، ونهر الجوز. وكان حريصا على تحصيل الكتب الصحاح والسنن، كثير المطالعة للفقه والحديث، مواظبا على الصلاة في الجماعة، كثير التلاوة والصيام والتسبيح، متحريا في المطعم والمشرب، عريا عن التكبر.
روى الحديث وأسمعه بالإجازة، وكان من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره. فإذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره، ولم تسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في سخطه، وأشهى ما إليه كلمة حق أو إرشاد إلى سنة يتبعها، يوافي الصالحين، ويزورهم، وإذا احتلم ممالكيه أعتقهم وزوج ذكرانهم لإناثهم ورزقهم، ومتى تكررت الشكوى من ولاته عزلهم. وأطلق من المكوس والرسوم الديوانية ما يتحصل من ذلك في كل سنة خمس مائة ألف وست مائة وثمانون ألفا وأربع مائة وسبعون دينارا من دمشق وتدمر وصرخد والقريتين والسخنة وبانياس وبعلبك وحمص وحماة وحلب وسرمين والمعرة وكفرطاب وعزاز وتل باشر وعين تاب ونابلس ومنبج والباب وبزاعة وقلعة نجم وجعبر وحران وسنجار والموصل ونصيبين وعرابان والخابور والشمسانية والأرسل وقرقيسيا والسكين وماكسين والمجدل والحصين والجحشية والمحولية والرحبة. وكان ذلك بتوقيع كتبه موفق الدين خالد بن القيسراني، يأتي ذكر السبب فيه فيما بعد..
قال ابن واصل: كان من أقوى الناس بدنا وقلبا ورأيا ومكيدة لم ير على ظهر فرس أشد منه، كأنما خلق عليه، لا يتحرك ولا يتزلزل.
وكان من أحسن الناس لعبا بالكرة، يجري الفرس ويتناولها من الهواء بيده ويرميها إلى آخر الميدان. وكان يمسك الجوكان بكم قبائه استهانة باللعب، وكان إذا حضرت الحرب أخذ قوسين وتركشين وباشر القتال بنفسه. وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها وكان يقعد في دار العدل في الأسبوع أربع مرات، ويحضر عنده الفقهاء والعلماء. ويأمر بإزالة الحاجب والبوابين، ووقع في أسره ملك إفرنجي، فأشار الأمراء ببقائه في الأسر خوفا من شره، وبذل هو في نفسه مالا، فبعث إليه نور الدين سرا يقول: أحضر المال، فأحضر ثلاث مائة ألف دينار، فأطلقه. فعند وصوله إلى مأمنه ملت، فطلب الأمراء سهمهم من المال فقال: ما تستحقون منه شيئا، لأنكم نهيتم عن الفداء، وقد جمع الله لي الحسنيين الفداء وموت اللعين وخلاص المسلمين من شره. وبنى بذلك المال المارستان والمدرسة ودار الحديث بدمشق. وكان أسمر طويلا حسن الصورة ليس بوجهه شعر سوى حنكه، وتوفي بقلعة دمشق بالخوانيق سنة تسع وستين وخمس مائة يوم الأربعاء حادي عشر شوال، ومولده في شوال سنة إحدى عشرة وخمس مائة. وأشار الأطباء عليه بالفصد فامتنع. وكان مهيبا فما روجع، وعهد بالملك لولده الصالح إسماعيل وهو ابن إحدى عشرة سنة. وقال العماد الكاتب يرثيه:
يا ملكا أيامه لم تزل | لفضله فاضلة فاخره |
غاضت بحار الجود مذ غيبت | أنملك الفائضة الزاخره |
ملكت دنياك وخلفتها | وسرت حتى تملك الآخره |
عجبت من الموت كيف اهتدى | إلى ملك في سجايا ملك |
وكيف ثوى الفلك المستديـ | ـر في الأرض، والأرض وسط الفلك |
ومدرسة سيدرس كل شيء | وتبقى في حمى علم ونسك |
تضوع ذكرها شرقا وغربا | بنور الدين محمود بن زنكي |
اعدلوا ما دام أمركم | نافذا في النفع والضرر |
واحفظوا أيام دولتكم | إنكم منها على خطر |
إنما الدنيا وزينتها | حسن ما يبقى من الخبر |
وكيف لا نثني علة عيشنا | المحمود والسلطان محمود |
فليسكن الناس ظلال الجنى | إن رواق العز ممدود |
ونيرات الملك وهاجة | وطالع الدولة مسعود |
وصارم الإسلام لا ينثني | إلا وشلو الكفر مقدود |
مناقب لم تك موجودة | إلا ونور الدين موجود |
مظفر في درعه ضيغم | عليه تاج الملك معقود |
نال المعالي حاكما مالكا | فهو سليمان وداود |
وكم له من وقعة يومها | عند ملوك الشرك مشهود |
والقوم إما مرهق صرعة | أو موثق بالقد مشدود |
حتى إذا عادوا إلى مثلها | قالت لهم هيبته: عودوا |
طالب بثار ضمنته الظبى | فكل ما تضمن مردود |
والكر والفر سجال الوغى | فطارد طورا ومطرود |
وإنما الإفرنج من بغيها | عادت وقد عاد لها هود |
قد حصحص الحق فما جاحد | في قلبه بأسك مجحود |
فكل مصر بك مستفتح | وكل ثغر بك مسدود |
هذي العزائم لا ما تدعي القضب | وذي المكارم لا ما قالت الكتب |
وهذه الهمم اللاتي متى خطبت | تعثرت خلفها الأشعار والخطب |
صافحت يا ابن عماد الدين ذروتها | براحة للمساعي دونها تعب |
مازال جدك يبني كل شاهقة | حتى ابتنى قبة أوتادها الشهب |
لله عزمك ما أمضى وهمك ما | أفضى اتساعا بما ضاقت به الحقب |
يا ساهد الطرف والجفان هاجعة | وثابت القلب والأحشاء تضطرب |
أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة | فؤاد رومية الكبرى لها يجب |
ضربت كبشهم منها بقاصمة | أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب |
قل للطغاة وإن صمت مسامعها | قولا لصم القنا في ذكره أرب |
ما يوم إنب والأيام دائلة | من يوم بغرا بعيد لا ولا كثب |
أغركم خدعة الآمال ظنكم | كم اسلم الجهل ظنا غره الكذب |
غضبت للدين حتى لم يفتك رضى | وكان دين الهدى مرضاته الغضب |
طهرت أرض الأعادي من دمائهم | طهارة كل سيف عندها جنب |
حتى استطار شرار الزند قادحه | فالحرب تضرم والآجال تحتطب |
والخيل من تحت قتلاها تقر لها | قوائم خانهن الركض والخبب |
والنقع فوق صقال البيض منعقد | كما استقل دخان تحته لهب |
والسيف هام على هام بمعركة | لا البيض ذو ذمة فيها ولا اليلب |
والنبل كالوبل هطال وليس له | سوى القسي وأيد فوقها السحب |
وللظبي ظفر حلو مذاقته | كأنما الضرب فيما بينهم ضرب |
وللأسنة عما قي صدورهم | مصادر أقلوب تلك أم قلب؟ |
خانوا فخانت رماح الطعن أيديهم | فاستسلموا وهي لا نبع ولا غرب |
كذاك من لم يوف اتلله مهجته | لاقى العدى والقنا في كفه قصب |
كانت سيوفهم أوحى حتوفهم | يا رب حانية منجاتها العطب |
حتى الطوارق كلت من طوارقهم | ثارت عليهم بها من تحتها النوب |
أجسادهم في ثياب من دمائهم | مسلوبة وكأن القوم ما سلبوا |
أبناء ملحمة لو أنها ذكرت | فيما مضى نسيت أيامها العرب |
من كان يغزو بلاد الشرك مكتسبا | من الملوك فنور الدين محتسب |
ذو غرة ما سمت والليل معتكر | إلا تمزق عن شمس الضحى الحجب |
أفعاله كاسمه في كل حادثة | ووجهه نائب عن وصفه اللقب |
في كل يوم لفكري في وقائعه | شغل فكل مديحي فيه مقتضب |
من باتت الأسد أسرى في سلاسله | هل باشر الغلب إلا من له الغلب |
فملكوت سلب الإبرنس قاتله | وهلت له غير أنطاكية سلب |
من للشقي إذا لاقت فوارسه | وأن يسايرها من تحته قتب |
عجبت للصعدة السمراء مثمرة | برأسه إن أثمار القنا عجب |
سما عليها سمو الماء أرهقه | أنبوبة في صعود أصلها صبب |
ما فارقت عذبات التاج مفرقه | إلا وهامته تاج ولا عذب |
إذا القناة ابتغت في رأسه نفقا | بدا لثعلبها من نحره سرب |
كنا نعد حمى أطرافنا ظفرا | فملكتك الظبي ما ليس يحتسب |
عمت فتوحك بالعدوى معاقلها | كأن تسليم هذا عند ذا جرب |
لم يبق منهم سوى بيض بلا رمق | كما التوى بعد رأس الحية الذنب |
فانهض إلى المسجد الأقصى بذي لجب | يوليك أقصى المنى فالقدس مرتقب |
وائذن لموجك في تطهير ساحله | فإنما أنت بحر لجه لجب |
يا من أعاد ثغور الشام ضاحكة | من الظبي من ثغور زانها الشنب |
ما زلت تلحق عاصيها بطائعها | حتى أقمت وإنطاكية حلب |
حللت من عقلها أيدي معاقلها | فاستحصنت وإلى ميثاقك الهرب |
وأيقنت أنها تتلو مراكزها | وكيف يثبت بيت ما له طنب |
أجريت من ثغر الأعناق أنفسها | جري الجفون امتراها بارح حصب |
وما ركزت القنا إلا ومنك على | جسر الحديد هزبر غيله أشب |
فاسعد بما نلته من كل صالحة | يأوي إلى جنة المأوى لها حسب |
إن لا تكن أحد الأبدال في فلك التـ | ـقوى فلا نتمارى أنك القطب |
فلو تناسب أفلاك السماء بها | لكان بينكما من عفة نسب |
هذا وهل كان في الإسلام مكرمة | إلا شهدت وعباد الهوى غيب |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 25- ص: 0