التصنيفات

محمود بن طي الشيخ جمال الدين العجلوني المعروف بالحافي.
كان إنسانا حسنا فقير الحال ذا عيال، أقام بصفد مدة، وكان يعرف بعض عربية، وينظم شعرا لا بأس به، وصحب عفيف الدين التلمساني زمانا، وأخذ عنه ذلك المذهب. وكان مع فقره وتصوفه حاد الأخلاق.
أنشدني كثيرا من شعره وكثيرا ما رواه لي عن عفيف الدين التلمساني، وكان لعله يحظ أكثر ديوان العفيف. وبحثت معه غير مرة. وكنت أرد مقالته، وشعب ذهن جماعة بصفد، وأعان الله على إنقاذهم، وكان يرتزق بشهادة القسم في خاص السلطان.
وتوفي - رحمه الله تعالى - بصفد في سنة أربع وعشرين وسبع مئة. وقد قارب السبعين سنة.
وكتبت أنا إليه مرة، وقد توجه الى قرية تسمي علما من قرى صفد، ومعه شخص يعز علي:

فكتب هو الجواب إلي عن ذلك، ولكني لم أجده عند تعليقي هذه الترجمة.
وأنشدني من لفظه لنفسه تخميس قصيدة جيمية للعفيف التلمساني:
#بالناظر الفاتر الوسنان ذي الدعج #وما بخد الذي تهوى من الضرج #قم يا نديم فما في الوقت من حرج
#لي الهنا قد وفت سعدي بما وعدت #ودارها قربت من بعدما بعدت #فانظر تشاهد أنوار الجمال بدت
#نسيمة القرب من ذاك الجمال سرت #فكم فؤاد بها سرت وكم أسرت #وخاطر بلبلته عندما خطرت
#عزت فعز علينا نيل مطلبها #لما تسامت علوا في تمرتبها #وفي لحاظك معنى عن تطلبها
#صهباء تذهب بالتبريح والترح #وتبدل الهم والأوهام بالفرح #يا طيب في ساحتي حاناتها مرحي
#يا ويح روحي تمادت في مآربها #واستعذبت ما تلاقي من معذبها #مسلوبة قد براها عشق سالبها
#أشفقت من فيض آماقي على غرقي #ولم يخل الضنى مني سوى رمقي #وبدل النوم بالتسهيد والأرق
#عليك مذ كنت لي ما زلت معتمدا #لما أجلك بالتعظيم معتقدا #ولم أحل عن عهود بيننا أبدا
#أضحى وجودي منسوبا الى العدم #وسر وجودي بسقمي غير مكتتم #كم قد تبرمت من شوقي ومن ألمي
#لي البشارة أحلامي بكم صدقت #وبالرضا أحسن الأحوال قد نطقت #وكان ما صار بالحسنى التي سبقت
#أكرم بها ليلة عظمت حرمتها #ودمت أشكر مهما عشت نعمتها #ولم أخف من صروف الدهر نقمتها
#لما تجنبت عن علمي وعن عملي #شوقا لرؤياك يا سولي ويا أملي #أفنى فناك فنائي وانقضى أجلي
#ومذ تجليت في كل المظاهر لي #ولاح معناك لي في السهل والجبل #حققت رؤياك كشفا بالعيان جلي
#محمود بن سلمان بن فهد الشيخ الإمام العالم العلامة الأديب الكامل البارع الناظم الناثر القاضي الرئيس الجليل شهاب الدين أبو الثناء الحلبي الدمشقي الحنبلي، صاحب ديوان الإنشاء بدمشق.
سمع من الرضي بن البرهان، ويحيى بن عبد الرحمن بن الحنبلي، والشيخ جمال الدين بن مالك، وابن هامل المحدث، وغيرهم. وكان يذكر أن له إجازة من يوسف بن خليل، وتفقه على ابن المنجا وغيره. وقرأ العربية على ابن مالك، وتأدب بالشيخ مجد الدين بن الظهير الإربلي الحنفي، وسلك طريقه في النظم وحذا حذوه وأربى عليه، وإن كان قد تلا تلوه، لأنه كان إذا نظم أخذ الكلمات حروفا، فإذا ركبها صارت في الآذان شنوفا، يرشف السمع منه مدامه، ويتعلم التغريد منها الحمامة، ويسطرها فيرى الناس بدرها وقد استفاد تمامه، وزهرها وقد شق الربيع كمامه، وروضها وقد جادته الغمامه. وإذا نثر فضح الدر في السلوك، ورصعه في تيجان الملوك، فكم من تقليد هو في يد صاحبه للسعد إقليد، وكم منشور فيه توليد، وهو بوجنة السيادة توريد، وكم من توقيع هو قنديل يضيء لمن حواه أو هو في كأس مسرته قنديد. وخطه من أين للوشي رقمه أو للعقد نظمه أو للروض زهره أو لطرف الحبيب سحره، أو للنجوم طرائقه، أو لخطوط إقليدس دقائقه، أو للفكر الصحيح حقائقه، قد نمق أوضاعه المتأنقة، ونسخ محاسن من تقدمه بحروفه المحققة:
وكان - رحمه الله تعالى - ممن أتقن الفنين نظما ونثرا. وبرع في الحالين بديهة وفكرا. وكان هو يزعم أن نثره أحسن من نظمه، وأن بدره فيه أكمل منه في تمه.
والذي أراه أنا، وأبرأ فيه من العناية والعنا، أن نظمه أعذب في الأسماع، وأقرب الى انعقاد الإجماع، لأنه انسجم تركيبا وازدحم تهذيبا، فسحر الألباب، ودخل بالعجب من كل باب، وإن كان نثره قد جوده، وأجراه على قواعد البلاغة وعوده، فإن شعره أرفع من ذلك طبقة، وأبعد شأوا على من رام أن يلحقه، وهو يحذو فيه حذو سبط التعاويذي. وقصائده مطولة فائقة، ليس يرتفع فيها ولا ينحط، بل هي أنموذج واحد ليس فيها ما يرمى. ولم يكن بغواص على المعاني ولا يقصد التورية، فإنها جاءت في كلامه قليلة، ومقاطيعه قليلة، ولكن قصائده طويلة طائلة هائلة، لعلها تجيء في ثلاثة مجلدات أو أربعة، ولم يجمعها أحد، وهي كما قال ابن الساعاتي:
وأما نثره فيجيء في ثلاثين مجلدة. وكان أخيرا بالديار المصرية، ينشئ هو ويكتب ولده القاضي جمال الدين إبراهيم، فيجيء المنشور أو التوقيع فائقا في خطه ولفظه.
وعلى الجملة فلم أر من يصدق عليه اسم الكاتب غيره، لأنه كان ناظما ناثرا، عارفا بأيام الناس وتراجمهم ومعرفة خطوط الكتاب، وله الروايات العالية بأمها كتب الأدب وغيره، ورأى الأشياخ وأخذ عنهم. وعين في وقت بالديار المصرية لقضاء الحنابلة.
وهو - رحمه الله تعالى - أحد الكلمة الذين عاصرتهم وأخذت عنهم. وكان يكتب الإنشاء أولا بدمشق، ثم إن الصاحب شمس الدين بن السلعوس نقله الى الديار المصرية لما توفي القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وتقدم ببلاغته وكتابته وإنشائه وسكونه وتواضعه.
وأقام بالديار المصرية الى أن توفي القاضي شرف الدين بن فضل الله بدمشق، فجهز مكانه الى دمشق صاحب ديوان الإنشاء، فأقام بها الى أن توفي - رحمه الله تعالى - ليلة السبت ثاني عشري شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مئة بدار الفاضل بدمشق داخل باب الناطفانيين، وصلي عليه ضحى يوم السبت بالجامع الأموي، وصلى عليه نائب الشام الأمير سيف الدين تنكز والأعيان برا باب النصر، ودفن التي عمرها لنفسه بالقرب من مسجد ابن يغمور، وصلي عليه بمكة والمدينة.
ومولده في شعبان سنة أربع وأربعين وست مئة.
وكان محبا لأهل الخير والصالحين، مواظبا على النوافل والتلاوة والأدعية، يستحضر ذلك، ويذكر الموت دائما، وعنده خوف من الله - تعالى - وعليه سكينة كبيرة ووقار.
ولما مات رحمه الله تعالى كنت بالديار المصرية فقلت أرثيه، ولم أكتب بها الى أحد:
وكنت قد قرأت عليه المقامات الحريرية وانتهيت منها الى آخر المقامة الخامسة والعشرين في سنة ثلاثة وعشرين وسبع مئة، فكتب هو عليها: قرأ علي المولى الصدر فلان الدين، نفعه الله بالعلم ونفع به، من أول كتاب المقامات الى آخر الخامسة والعشرين قراءة تطرب السامع وتأخذ من أهواء القلوب بالمجامع، وسأل منها عن غوامض تدل على ذكاء خاطره المتقد، وصفاء ذهنه العارف منه بما ينتفي وينتقد. ورويتها له عن الشيخ الإمام مجد الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن الظهير الإبلي، وساق سنده الى الحريري ثم إنه كتب لي على آخرها وقد كملت قراءتها عليه بدمشق في ثاني عشر شهر الله المحرم سنة أربع وعشرين وسبع مئة:
قرأ علي المولى الكبير الرئيس العالم الفاضل المتقن المجيد نظما ونثرا المحسن في كل ما يأتي به من الأنواع الأدبية بديهة وفكرا. فلان الدين نفعه الله بالعلم ونفع به كتاب المقامات الحريرية قراءة دلت على تمكنه من علم البيان واقتداره على إبراز عقائل المعاني المستكنة في خدور الخواطر مجلوة لعيان الأعيان. وإنه استشف أشعة مقاصدها بفكره المتقد، وفرق بين قيم فرائدها بخاطره المنتقد، فما تجاوز مكانا إلا وأحسن الكلام في حقيقته ومجازه، ولا تعدى بيانا إلا وأجمل المقال في تردد البلاغة بين بسط القول فيه وإيجازه، ورويته له عن فلان، وذكر السند على العادة.
وكتب هو لي أيضا على كتاب الحماسة:
قرأ علي الصدر فلان الدين قراءة مطلع من البلاغة على كنوزها، مميز في الصناعة بين لجين بديعها وإبريزها: باحث عن إبراز مقاصدهم التي لا توجد في كلام من بعدهم، عالم بقيم فرائدهم التي إذا ساواها بغيرها نقاد الأدباء بسرح الامتحان والسبك نقدهم. ثم ذكر سنده فيها، على العادة.
وكتب هو أيضا على كتابه أهنا المنائح في أسنى المدائح مما نظمه هو في مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قرأ علي المولى فلان الدين أيده الله تعالى هذا الكتاب والزيادات الملحقة في آخره من نظمي أيضا قراءة دلت على وفور علمه، وثبت رويته في استنباط المعاني وقوة إدراكه وسرعة فهمه، وشهدت بتمكنه في هذه الصناعة، وأنبأت عما يجريه فكره من مواد البراعة على لسان اليراعة، وأذنت له أن يرويها عني، وغيرها مما قرأه علي وما لم يقرأه من نظمي ونثري ومسموعاتي وإجازاتي.
وكتبت أنا في آخر كتابه حسن التوسل الى صناعة الترسل بعدما قرأته عليه في شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة: قرأت هذا الكتاب على مصنفه الشيخ الإمام:
المفوه، المدبر، المشير، السفير، يمين الملك، يمين الملوك والسلاطين، شهاب الدين أبي الثناء محمود صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالشام المحروس:
ابن المولى الولي الصالح السعيد زين الدين سلمان بن فهد رحمهما الله تعالى في مجالس آخرها التاريخ المذكور، وقد رأى أن ينظمني في سلك خدمه ويفيض علي كما أفاض عليهم ملابس نعمه، ويحشرني في زمرة الآخذين عنه ويقبسني أنوار كماله في التهذيب الذي لم تطمح النفس الأبية أن تقبسها إلا منه.
وكتبت أنا على أول هذا الكتاب:
فلما وقف هو عليها كتب إلي رحمه الله تعالى:
وقرأت عليه بعض ديوان أبي الطيب. وقرأت عليه ألفية ابن مالك ورواها لي عن المصنف.
ولما قرأت عليه قوله في كتاب حسن التوسل:
أخذت في الزهزهة لما في هذين البيتين من الجناس المركب، وبالغت في الثناء عليهما فقال لي: خذ نفسك بنظم شيء في هذه المادة، فامتنعت فقال: لابد من ذلك، فغبت عنه يومي، وجئته في اليوم الثاني وأنشدته لنفسي في هذه المادة:
فقال: حسن، وعجب بهما الحاضرين. ثم قال: إلا أن قافيتي أنا رائية، فغبت عنه يومي وأتيته في غد، وأنشدته لنفسي:
وأنشدته لنفسي أيضا:
فقال: حسن لسن، وزاد في الإعجاب بذلك، ثم قال: إلا أن قافيتي أنا مؤسسة، يعني أن فيها الألف، فأتيته في اليوم الثاني وأنشدته لنفسي أيضا:
فقال: أجدت، ولكن أنا بيتاي في غزل، وهذان في مديح، فغبت عنه يومي، وجئته في اليوم الثاني وأنشدته لنفسي:
فزاد في تقريظهما والثناء عليهما، فقلت: يا سيدي، والله ما يلحقك أحد في بيتك، ولو كان المطوعي أو البستي. قال: ولم ذاك؟ قلت: لأنك شاعر مجيد فحل وقعت على المعنى بكرا فلم تدع فضلة لغيرك ليأتي به في تراكيبك العذبة الفصيحة ومعناه الحسن البليغ، فبالغ في الجبر والصدقة.
وأنشدني من لفظه لنفسه:
فاستحسنتهما، وأنشدته لنفسي مضمنا في اليوم الثاني:
فأعجبه هذا التضمين كثيرا، وأنشدني يوما له:
فاستحسنتهما، وأنشدته لنفسي في اليوم الثاني:
فقال: نفس جيد دال على التمكن والقدرة، ولكن اجتهد إذا عارضت أحدا أن يكون قولك في وزنه ورويه، فأنشدته في اليوم الثاني:
فقال رحمه الله تعالى: أجدت بارك الله فيك.
وأنشدني يوما لنفسه قوله:
فغبت عنه وأنشدني في اليوم الثاني:
فأعجباه كثيرا.
وأنشدني قوله أيضا مما كتب به الى الملك المظفر صاحب حماة:
فغبت عنه وأنشدته في اليوم الثاني:
فأعجباه كثيرا وزهزه لهما.
وأنشدني من لفظه لنفسه يعارض ابن الخيمي:
قلت: فأعجبتني هذه القصيدة وهزت أعطافي طربا، لما هزأت بالروض وقد مرت به نسمة الصبا وفارقته. وتوفي رحمه الله تعالى فأنشدتها يوما بالقاهرة لبعض الأصحاب الأفاضل فألزمني بنظم شيء في هذه المادة، فاستعفيت، فلم يسعف بالإعفاء، فقلت مع اعترافي بأنه شهاب في أوجه، وأنا في حضيض من الحظ:
قلت: وقد سقت في ترجمة ابن الخيمي في تاريخي الكبير قصيدته البائية والقصيدة التي نظمها ثانيا لما تحاكم هو ونجم الدين بن إسرائيل الى شرف الدين بن الفارض، وغير ذلك مما نظمه العفيف التلمساني وغيره.
وأنشدت يوما أيضا بعض الأصحاب الأغرة بالقاهرة قول شيخنا شهاب الدين أبي الثناء محمود رحمه الله تعالى، وهو:
فألزمني بنظم شيء في هذا المعنى، فقلت: هذا يتعذر، لأن هذا استوفى المعنى ولم يترك فيه فضلا، وجود النظم فألفاظه في غاية الفصاحة وتراكيبه في غاية الانسجام، فقال: لابد من ذلك، فقلت أنا مختصرا:
وأنشدته يوما أيضا من قصيدة:
الأبيات كلها، وقد تقدمت هذه القصيدة في ترجمة الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل بن علي صاحب حماة، فأعجبه ذلك، وألزمني نظم شيء في هذه المادة، فنظمت ولكن ذاك بنى وأنا هدمت:
وقلت أنا أيضا في هذه المادة:
وأنشدني شيخنا المذكور رحمه الله لنفسه:
قلت: هو من قول الأرجاني:
وأنشدني لنفسه الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة:
قلت: لا يقال إلا عظم مهيض، وأما منهاض فما أعرفه ورد في فصيح الكلام، والسقام لا علاقة له بالعظم إنما هو باللحم والجلد معا تبعا لذلك.
ومن نظم شيخنا شهاب الدين ما كتب به الى القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر، رحمه الله تعالى، ومن خطه نقلت:
ومن إنشائه البديع وحوكه الذي قصر عنه الحريري وبعد عن البديع كتاب في وصف الخيل: وينهي وصول ما أنعم به من الخيل التي وجد الخير في نواصيها واعتد حصنها حصونا يعتصم في الوغى بصياصيها.
فمن أشهب غطاه النهار بحلته، وأوطأه الليل على أهلته، يتموج أديمه ريا ويتأرجح ريا، ويقول من استقبله في حلى لجامه: هذا الفجر قد أطلع الثريا، إن التقت المضائق انساب انسياب الأيم، وإن انفرجت المسالك مر مرور الغيم. كم أبصر فارسه يوما أبيض بطلعته، وكم عاين طرف السنان مقاتل العدا في ظلام النقع بنور أشعته، لا تستن داحس في مضماره، ولا تطلع الغبراء في شق غباره، ولا يظهر لاحق من لحاقه بسوى آثاره، تسابق يداه مرامي طرفه، ويدرك شوارد البروق ثانيا من عطفه.
ومن أدهم حالك الأديم، حالي التشكيم، له مقلة غانية وسالفة ريم، قد ألبسه الليل برده، وأطلع بين عينيه سعده، يظن من نظر الى سواد طرته، وبياض حجوله وغرته أنه توهم النهار نهرا فخاضه، وألقى بين عينيه نقطة من رشاش تلك المخاضة. لين الأعطاف، سريع الانعطاف، يقبل كالليل ويمر كجلمود صخر حطه السيل، يكاد يسبق ظله، ومتى جارى السهم الى غرض سبقه قبله.
ومن أشقر وشاه البرق بلهبه، وغشاه الأصيل بذهبه، يتوجس ما لديه برقيقتين وينفض وفرتيه عن عقيقتين، وينزل عذار لجامه من سالفتيه على شقيقتين. له من الراح لونها، ومن الريح لينها، إن حرى فبرق خفق، وإن أسرج فهلال على شفق، لو أدرك أوائل حرب ابني وائل لم يكن للوجيه وجاهه، ولا للنعامة نباهه، وكان ترك إعارة سكاب لوما وتحريم بيعها سفاهة، يركض ما وجد أرضا، وإذا اعترض به راكبه بحرا وثب عرضا.
ومن كميت نهد، كأن راكبه في مهد، عندمي الإهاب. يزل الغلام الخف عن صهواته، وكأن نغم الغريض ومعبد في لهواته. قصير المطا، فسيح الخطا، إن ركب لصيد قيد الأوابد، وأعجل عن الوثوب الوحوش اللوابد، وإن جنب الى حرب لم يزور من وقع القنا بلبانه، ولم يشك لو علم الكلام بلسانه، ولم ير دون بلوغ الغاية وهو في عرض راكبه ثانيا من عنانه، وإن سار في سهل اختال براكبه كالثمل، وأن أصعد في جبل طار في عقابه كالعقاب، وانحط في مجاريه كالوعل، متى ما ترق العين فيه تسهل، ومتى أراد البرق مجاراته قال له الوقوف عند قدره ما أنت هناك فتمهل.
ومن حبشي أصفر بروق العين ويشوق القلب بمشابهة العين، كأن الشمس ألقت عليه من أشعتها جلالا، وكأنه نفر من الدجا فاعتنق منه عرفا واعتلق حجالا، ذي كفل يزين سرجه، وذيل يسد إذا استدبرته منه فرجه، قد أطلعته الرياضة على مراد راكبه وفارسه، وأغناه نضار لونه ونضارته عن ترصيع وتوشيع ملابسه، له من البرق خفة وطئه وخطفه، ومن النسيم طروقه ولطفه، ومن الريح هزيزها إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه، يطير بالغمز، ويدرك بالرياضة مواضع الرمز، ويغدو كألف الوصل في استغناء مثلها عن الهمز.
ومن أخضر حكاه من الروض تفويفه، ومن الوشي تقسيمه وتأليفه، قد كساه الليل والنهار حلتي وقار وسنا، واجتمع فيه من البياض والسواد ضدان لما استجمعا حسنا، ومنحه الباري حلة وشيه، ونحلته الرياح ونسماتها قوة ركضه وخفة مشيه، يعطيك أفانين الجري قبل سؤاله، ولما لم يسابقه شيء من الخيل أغراه حب الظفر بمسابقة خياله، كأنه تفاريق شيب في سواد عذار، أو طلائع فجر خالط بياضه الدجا فما سجى، ومازج ظلامه النهار فما انهار ولا أنار، ينحال لمشاركة بينه وبين الماء في السير كالسيل، ويدل بسبقه على المعنى المشترك بين البروق اللوامع وبين البرقية من الخيل. ويكذب المانوية لتولد اليمن بين إضاءة النهار وظلمة الليل.
ومن أبلق ظهره حرم وجريه ضرم، إن قصد غاية فوجود الفضاء بينه وبينها عدم، وإن صرف في حرب فعمله ما يشاء البنان والعنان وفعله ما يريد الكف والقدم. قد طابق الحسن البديع بين ضدي لونه، ودلت على اجتماع النقيضين علة كونه، وأشبه زمن الربيع باعتدال الليل فيه والنهار، وأخذ وصف حلتي الدجا في حالتي الإبدار والإسرار، لا تكل مناكبه، ولا يضل في حجرات الجيوش راكبه، ولا يحوج ليله المشرق لمجاورة نهاره الى أن تسترشد فيه كواكبه، ولا يجاريه الخيال فضلا عن الخيل، ولا يمل السرى إلا إذا مله مشبهاه النهار والليل، ولا تتمسك البروق اللوامع من لحاقه بسوى الأثر، فإن جهدت فبالذيل، فهو الأبلق الفرد، والجواد الذي لمجاريه العكس وله الطرد، قد أغنته شهرة لونه في جنسه عن الأوصاف، وعدل بالرياح عن مباراته سلوكها من الاعتراف له جادة الإنصاف، فترقى المملوك الى رتب العز من ظهورها، وأعدها لخطبة الجنان إذ الجهاد عليها من أنفس مهورها، وكلف بركوبها فكل ما أكمله عاد، وكل ما مله شره إليه، فلو أنه زيد الخيل لما زاد، ورأى من آدابها ما دل على أنها من أكرم الأصائل، وعلم أنها ليومي حربه وسلمه جنة الصايد وجنة الصائل. وقابل إحسان مهديها بثنائه ودعائه، وأعدها في الجهاد لمقارعة أعداء الله وأعدائه، والله تعالى يشكر بره الذي أفرده في الندى بمذاهبه، وجعل الصافنات الجياد من بعض مواهبه، بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى.
ومن إنشائه رسالة في البندق، وذكر الأربعة عشر واجبا، وهي من بدائع أعماله وما أظن أحدا يأتي بنظيرها، وقد سقتها بكمالها في تاريخي الكبير، وسقت كثيرا من نثره ونظمه.
وكتب إليه ناصر الدين حسن بن شاور المعروف بابن النقيب:
فأجابه بقوله:
وكتب إليه السراج

  • دار الفكر المعاصر، بيروت - لبنان / دار الفكر، دمشق - سوريا-ط 1( 1998) , ج: 5- ص: 368