سنان راشد الدين، كبير الإسماعيلية وطاغوتهم، أبو الحسن سنان بن سلمان بن محمد البصري الباطني، صاحب الدعوة النزارية.
كان ذا أدب وفضيلة، ونظر في الفلسفة وأيام الناس، وفيه شهامة ودهاء ومكر وغور، فذكر رسول له وهو سعد الدين عبد الكريم، قال: حكى الشيخ سنان: قال: وردت الشام، فاجتزت بحلب، فصليت العصر بمشهد على ظاهر باب الجنان، وثم شيخ مسن، فقلت: من أين الشيخ؟ قال: من صبيان حلب.
قلت: الدعوة النزارية نسبة إلى نزار ابن خليفة العبيدية المستنصر، صيره أبوه ولي عهده، وبث له الدعاة، فمنهم صباح جد أصحاب الألموت، أحد شياطين الإنس، ذو سمت، وذلق، وتخشع، وتنمس، وله أتباع. دخل الشام والسواحل في حدود ثمانين وأربع مائة، فلم يتم له مرامه، فسار إلى العجم، وخاطب الغتم الصم، فاستجاب له خلق، وسلخهم، وحلهم، وكثروا، وأظهروا شغل السكين والوثوب على الكبار، ثم قصد قلعة الألموت بقزوين، وهي منيعة بأيدي قوم شجعان، لكنهم جهلة فقراء، فقال لهم: نحن قوم عباد مساكين، فأقاموا مدة، فمالوا إليهم، ثم قال: بيعونا نصف قلعتكم بسبعة آلاف دينار، ففعلوا، فدخلوها، وكثروا، واستولى صباح على القلعة، ومعه نحو الثلاث مائة، واشتهر بأنه يفسد الدين، ويحل من الإيمان، فنهد له ملك تلك الناحية، وحاصر القلعة مع اشتغاله بلعبه وسكره، فقال علي اليعقوبي من خواص صباح: أيش يكون لي عليكم إن قتلته؟ قالوا: يكون لك ذكران في تسابيحنا، قال: رضيت، أمرهم بالنزول ليلا، وقسمهم أرباعا في نواحي ذلك الجيش، ورتب مع كل فرقة طبولا، وقال: إذا سمعتم الصيحة، فاضربوا الطبول، فاختبط الجيش، فانتهز الفرصة، وهجم على الملك فقتله، وقتل، وهرب العسكر، فحوت الصباحية الخيام بما حوت، واستغنوا، وعظم البلاء بهم، ودامت الألموت لهم مائة وستين عاما، فكان سنان من نوابهم.
فأما نزار، فإن عمته عملت عليه، وعاهدت الأمراء أن تقيم أخاه صبيا، فخاف نزار، فهرب إلى الإسكندرية، وجرت له أمور وحروب، ثم قتل، وصار صباح يقول: لم يمت، بل اختفى، وسيظهر، ثم أحبل جارية، وقال لهم: سيظهر من بطنها، فأذعنوا له، واغتالوا أمراء وعلماء خبطوا عليهم، وخافتهم الملوك، وصانعوهم بالأموال.
وبعث صباح الداعي أبا محمد إلى الشام، ومعه جماعة، فقوي أمره، واستجاب له الجبلية الجاهلية، واستولوا على قلعة من جبل السماق.
ثم هلك هذا الداعي، وجاء بعده سنان، فكان سخطة وبلاء، متنسكا، متخشعا، واعظا، كان يجلس على صخرة كأنه صخرة لا يتحرك منه سوى لسانه، فربطهم، وغلوا فيه، واعتقد منهم له الإلهية، فتبا له ولجهلهم، فاستغواهم بسحر وسيمياء، وكان له كتب كثيرة ومطالعة، وطالت أيامه.
وأما الألموت فوليها بعد صباح ابنه محمد، ثم بعده حفيده الحسن بن محمد الذي أظهر شعار الإسلام، ونبذ الانحلال تقية، وزعم أنه رأى الإمام عليا، فأمره بإعادة رسوم الدين، وقال لخواصه: أليس الدين لي؟ قالوا: بلى، قال: فتارة أضع عليكم التكاليف، وتارة أرفضها، قالوا: سمعنا وأطعنا، واستحضر فقهاء وقراء ليعلموهم، وتخلصوا بهذا من صولة خوارزمشاه.
نعم، وكان سنان قد عرج من حجر وقع عليه في الزلزلة الكبيرة زمن نور الدين، فاجتمع إليه محبوه على ما حكى الموفق عبد اللطيف ليقتلوه، فقال: ولم تقتلوني؟ قالوا: لتعود إلينا صحيحا، فشكر لهم، ودعا، وقال: اصبروا علي، يعني ثم قتلهم بحيلة. ولما أراد أن يحلهم من الإسلام، نزل في رمضان إلى مقثأة، فأكل منها، فأكلوا معه.
قال ابن العديم في ’’تاريخه’’: أخبرني شيخ أدرك سنانا أنه كان بصريا يعلم الصبيان، وأنه مر وهو طالع إلى الحصون على حمار، فأراد أهل إقميناس أخذ حماره، فبعد جهد تركوه، ثم آل أمره إلى أن تملك عدة قلاع. أوصى يوما أتباعه، فقال: عليكم بالصفاء بعضكم لبعض، لا يمنعن أحدكم أخاه شيئا له، فأخذ هذا بنت هذا، وأخذ هذا أخت هذا سفاحا، وسموا نفوسهم الصفاة، فاستدعاهم سنان مرة، وقتل خلقا منهم.
قال ابن العديم: تمكن في الحصون، وانقادوا له. وأخبرني علي بن الهواري أن صلاح الدين سير رسولا إلى سنان يتهدده، فقال للرسول: سأريك الرجال الذين ألقاه بهم، فأشار إلى جماعة أن يرموا أنفسهم من أهل الحصن من أعلاه، فألقوا نفوسهم، فهلكوا.
قال: وبلغني أنه أحل لهم وطء أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم، وأسقط عنهم صوم رمضان.
قال: وقرأت بخط أبي غالب بن الحصين أن في محرم سنة تسع وثمانين هلك سنان صاحب الدعوة بحصن الكهف، وكان رجلا عظيما خفي الكيد، بعيد الهمة، عظيم المخاريق، ذا قدرة على الإغواء، وخديعة القلوب، وكتمان السر، واستخدام الطغام والغفلة في أغراضه الفاسدة. وأصله من قرى البصرة، خدم رؤساء الإسماعيلية بألموت، وراض نفسه بعلوم الفلاسفة، وقرأ كثيرا من كتب الجدل والمغالطة ورسائل إخوان الصفاء، والفلسفة الإقناعية المشوقة لا المبرهنة، وبنى بالشام حصونا، وتوثب على حصون، ووعر مسالكها، وسالمته الأنام، وخافته الملوك من أجل هجوم أتباعه بالسكين. دام له الأمر نيفا وثلاثين سنة، وقد سير إليه داعي الدعاة من قلعة ألموت جماعة غير مرة ليقتلوه لاستبداده بالرئاسة، فكان سنان يقتلهم، وبعضهم يخدعه، فيصير من أتباعه.
قال: وقرأت على حسين الرازي في ’’تاريخه’’ قال: حدثني معين الدين مودود الحاجب أنه حضر عند الإسماعيلية في سنة اثنتين وخمسين، فخلا بسنان، وسأله فقال: نشأت بالبصرة، وكان أبي من مقدميها، فوقع هذا الأمر في قلبي، فجرى لي مع إخوتي أمر، فخرجت بغير زاد ولا ركوب، فتوصلت إلى الألموت، وبها إلكيا محمد بن صباح، وله ابنان حسن وحسين، فأقعدني معهما في المكتب، وكان يبرني برهما، ويساويني بهما، ثم مات، وولي حسن بن محمد، فنفذني إلى الشام، فخرجت مثل خروجي من البصرة، وكان قد أمرني بأوامر، وحملني رسائل، فدخلت مسجد التمارين بالموصل، ثم سرت إلى الرقة، فأديت رسالته إلى رجل، فزودني، واكترى لي بهيمة إلى حلب، ولقيت آخر برسالته، فزودني إلى الكهف، وكان الأمر أن أقيم هنا، فأقمت حتى مات الشيخ أبو محمد صاحب الأمر، فولي بعده خواجا علي بغير نص، بل باتفاق جماعة، ثم اتفق الرئيس أبو منصور ابن الشيخ أبي محمد والرئيس فهد، فبعثوا من قتل خواجا، وبقي الأمر شورى، فجاء الأمر من الألموت بقتل قاتله وإطلاق فهد، وقرئت الوصية على الجماعة، وهي:
هذا عهد عهدناه إلى الرئيس ناصر الدين سنان، وأمرناه بقراءته على الرفاق والإخوان، أعاذكم الله من الاختلاف واتباع الأهواء، إذ ذاك فتنة الأولين، وبلاء الآخرين، وعبرة للمعتبرين، من تبرأ من أعداء الله وأعداء وليه ودينه، عليه موالاة أولياء الله، والاتحاد بالوحدة سنة جوامع الكلم، كلمة الله والتوحيد والإخلاص. لا إله إلا الله عروة الله الوثقى، وحبله المتين، إلا فتمسكوا به، واعتصموا به، فبه صلاح الأولين، وفلاح الآخرين،
أجمعوا آراءكم لتعليم شخص معين بنص من الله ووليه، فتلقوا ما يلقيه إليكم من أوامره ونواهيه بقبول، فلا وربك لا تؤمنون حتى تحكموه فيما شجر بينكم ثم لا تجدوا في أنفسكم حرجا مما قضى وتسلموا تسليما، فذلك الاتحاد بالوحدة التي هي آية الحق المنجية من المهالك، المؤدية إلى السعادة، إذ الكثرة علامة الباطل المؤدية إلى الشقاوة المخزية، فنعوذ بالله من زواله، وبالواحد من آلهة شتى، وبالوحدة من الكثرة، وبالنص والتعليم من الأدواء والأهواء، وبالحق من الباطل، وبالآخرة الباقية من الدنيا الملعونة، إلا ما أريد به وجه الله، فتزودوا منها للأخرى، وخير الزاد التقوى، أطيعوا أميركم ولو كان عبدا حبشيا.
قال ابن العديم: كتب سنان إلى صاحب شيزر يعزيه بأخيه:
إن المنايا لا تطا بمنسم | إلا على أكتاف أهل السؤدد |
فلئن صبرت فأنت سيد معشر | صبروا وإن تجزع فغير مفند |
هذا التناصر باللسان ولو أتى | غير الحمام أتاك نصري باليد |
يا للرجال لأمر هال مقطعه | ما مر قط على سمعي توقعه |
فإذا الذي بقراع السيف هددنا | لا قام مصرع جنبي حين تصرعه |
قام الحمام إلى البازي يهدده | واستيقظت لأسود البر أضبعه |
ما أكثر الناس وما أقلهم | وما أقل في القليل النجبا |
ليتهم إذ يكونوا خلقوا | مهذبين صحبوا مهذبا |
دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 15- ص: 361