المعتمد ابن عباد محمد بن عباد بن محمد بن اسماعيل اللخمي، ابو القاسم، المعتمد على الله: صاحب اشبيلية وقرطبة وما حولها، واحد افراد الدهر شجاعة وحزما وضبطا للامور. ولد في باجة (بالاندلس) وولي اشبيلية بعد وفاة ابيه (سنة 461هـ) وامتاك قرطبة وكثيرا من المملكة الاندلسية، واتسع سلطانه إلى ان بلغ مدينة مرسية (وكانت تعرف بتدمير) واصبح محط الرحال، يقصده العلماء والشعراء والامراء، وما كان يجتمع في بابه من اعيان الادب. وكان فصيحا شاعرا وكاتبا مترسلا، بديع التوقيع، له (ديوان شعر -ط). ولم يزل في صفاء ودعه إلى سنة 478هـ. وفيها استوللا ملك الروم (الا1ذفونش) الفونس السادس على (طليطلة) وكان ملوك الطوائف، وكبيرهم المعتمد ابن عباد، يؤدون للاذفونش ضريبة المعتمد، وارسل اليه يهدده ويدعوه إلى النزول له عما في يده من الحصون. فكتب المعتمد إلى يوسف بن تاشفين (صاحب مراكش) يستنجده، والي ملوك الاندلس يستثير عزائمهم. ونشبت (سنة 479هـ) المعركة المعروفة بوقعة (الزلاقة) فانهزم الاذفونش (الفونس) بعد ان ابيد اكثر عساكره. قال ابن خلكان: وثبت المعتمد في ذلك اليوم ثباتا عظيما واصابه عدة جراحت في وجهه وبدنه وشهد له بالشجاعة. وعاد ابن تاشفين بعد ذك إلى مراكش، وقد اعجب بما رأي في بلاد الاندلس من حضارة وعمران. وزارها بعد عام، فاحسن المعتمد استقباله. وعاد. وثارت فتنةو في قرطبة (سنة 483) قتل فيها ابن للمعتمد، وفتنة ثانية في اشبيليبة اطفأ المعتمد نارها، فخمدت. ثم اتقدت، وظهر من روائها جيش يقوده (سير بن ابي بكر الاندلسي) من قواد جيش (ابن تاشفين) وحوصر المعتمد في اشبيلية، قال ابن خلكان: (وظهر من مصابرة المعتمد وشدة باسه وتراميه على الموت بنفسه ما لم يسمع بمثله) واستولى الفزع على أهل اشبيلية وتفرقت جموع المعتمد، وقتل والداه (المأمون) و (الراضي) وفت في عضده، فادكته الخيل، فدخل القصر، مستسلما للاسر (سنة484) وحمل مقيدا، مع اهله، على سفيتة. ودخل على ابن تاشفين، في مراكشـ فامر بارساله ومن معه إلى اغمات Agmat وهي بلدة صغيرة وراء مراكش. وللشعراء في اعتقاله وزوال ملكه قصائد كثيرة. وبقي في اغمات إلى ان مات. وهو آخر ملوك الدولة العبادية.

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 6- ص: 181

المعتمد بن عباد محمد بن عباد بن إسماعيل أبو القسم المعتمد ابن المعتضد ملكا الأندلس، ولد محمد بمدينة باجة سنة إحدى وثلثين أربع ماية، وولى الملك سنة إحدى وستين بإشبيلية فقام به أحسن قيام واهتم به أتم اهتمام، عدل في الرعية وأنصفهم وانتجعه الفضلاء ومدحه الشعراء، أولاده يزيد يلقب الراضي وهو فاضل له شعر وعبد الله والفتح وكلهم فضلاء شعراء قتل يزيد بين يديه يوم الوقعة، ومن وزرايه ابن زيدون وابن عمار، وللمعتمد شعر جيد في الذروة، منه:

وهو يشبه قول الآخر:
وقال يودع حظاياه:
وقالت يوما إحدى جواريه وهو في سجن أغمات،: لقد هنا هنا، فأعجبه منها ذلك وقال:
كان المعتمد بن عباد من أكبر ملوك الطوايف وأكثرهم بلادا ويؤدي الضريبة للأذفونش فلما ملك طليطلة لم يقبل الضريبة طمعا في أخذ بلاده وأرسل إليه يتهدده ويأمره بالنزول عن الحصون التي معه فضرب المعتمد الرسول وقتل من كان معه من الفرنج وكان الأذفونش متوجها لحصار قرطبة فرجع إلى طليطلة فكتب المعتمد إلى ابن تاشفين صاحب مراكش يستنجده فحضر إلى سبتة وعبر بالعساكر إلى الجزيرة الخضراء وعبر آخرهم وهم عشرة آلاف فارس واجتمع بالمعتمد وتسامع به ملوك الأندلس فجاءوا إليه من كل جانب فكتب الأذفونش إلى ابن تاشفين كتابا يتهدده فيه وطوله فكتب يوسف بن تاشفين الجواب في ظهره: الذي يكون ستراه! فلما وقف عليه ارتاع ثم إنه جاء والتقى الجيشان في مكان يقال له الزلاقة من بلاد بطليوس وتصافا ونصر الله الإسلام وثبت المعتمد في ذلك اليوم وأصابه عدة جراحات في وجهه وبدنه وغنم المسلمون بلاد الفرنج وسلاحهم ورجع ابن تاشفين إلى بلاده ثم أنه عاد في العام الثاني وحاصر بعض الحصون وخرج إليه المعتمد وعاد ابن تاشفين إلى مراكش وقد أعجبه حسن بلاد الأندلس وبهجتها وما بها من المباني والبساتين والمياه والمطاعم وغيرها مما لا يوجد ببلاد مراكش ولم يزل خواصه يغرونه على المعتمد ويوحشون ما بينهما بما ينقلونه عنه ليأخذ هلم بلاد الأندلس فتغير عليه وقصده فلما انتهى إلى سبتة جهز إليه العساكر فحاصروه بإشبيلية حصارا شديدا وقاتلهم المعتمد قتالا عظيما فاستولى على الناس بالبلد الجزع فهربوا منها وألقوا نفوسهم في لنهر من شرفات السور ثم إن العسكر هجم البلد وقبضوا على المتعمد وأهله وقيدوه من وقته وجعل مع أهله في مركب وحملوا إلى الأمير يوسف بن تاشفين فأرسله إلى حصن أغمات واعتقله بها إلى أن مات ومن الغريب أنه نودي على جنازته الصلاة على الغريب، وسيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة يوسف بن تاشفين طرف جيد من سبب محاصرة ابن عباد وكيف تغير عليه ابن تاشفين فليطلب هناك فإنه أبسط من هذا، وما جرى على أحد من الملوك ما جرى عليه وعلى أولاده لأن بناته صرن يغزلن للناس بالكرى، وبعض أولاد أولاده وهو فخر الدولة يعمل أجيرا في دكان صايغ حتى قال أبو بكر ابن اللبانة الداني في ذلك من جملة قصيدة:
وتوفي المعتمد بسجن أغمات وهي خلف مراكش وبينها وبين الظلمات ثلث ليال سنة ثمان وثمانين وأربع ماية، ومن شعر المعتمد وهو في سجن أغمات:
ومن شعره وقد تألم يوما من القيد وضيقه:
ودخل عليه بناته في يوم عيد وقد غزلت إحداهن غزلا بالأجرة لصاحب الشركة الذي كان في خدمة أبيها لما كان في سلطانه فرآهن في أطمارهن الرثة وحالهن السيئة فقال:
ورأي القيد يوما في رجل ولده أبي هاشم وقد عض بساقيه فبكى وقال:
ولابن اللبانة مصنف جمعه سماه نظم السلوك في وعظ الملوك قصره على أشعاره وأشعار أولاده والمراثي التي نظمها فيهم ومنها قصيدة أولها:
منها:
وقال أيضا وهو في السجن يندبه:
منها:
وكان قد انفكت عنه القيود فأشار إلى ذلك يقول فيها:
وقال ابن اللبانى أيضا:
منها:
واجتمع من شعرايه عند قبره جماعة وبكوه وأنشدوا قصادي في رثايه منهم أبو بحر عبد الصمد قال قصيدة أولها:
ولما تولى المعتمد على الله الملك بعد أبيه المعتضد قال علي بن عبد الغني الحصري الضرير:
ابن القزاز محمد بن عبادة أبو عبد الله المعروف بابن القزاز من شعراء الذخيرة، له اليد الطولى في الموشحات، من شعره قوله:
ومنه:
ومن موشحاته المطبوعة قوله:
#صما مصورا من كل شيء حسن #إن رمى لم يخط من دون القلوب الجنن

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 3- ص: 0

ابن عباد المعتمد على الله اسمه محمد بن عباد.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 16- ص: 0

المعتمد بن عباد صاحب الأندلس، المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن الملك المعتضد بالله أبي عمرو، عباد بن الظافر بالله أبي القاسم، قاضي إشبيلية، ثم ملكها، محمد بن إسماعيل بن قريش اللخمي.
قيل: هو من ذرية النعمان بن المنذر صاحب الحيرة.
حكم المعتمد على المدينتين قرطبة وإشبيلية، وأصلهم من الشام من بلد العريش، فدخل أبو الوليد إسماعيل بن قريش إلى الأندلس، ثم برع القاضي في الفقه، وولي القضاء، ثم تملك مدة، وقام من بعده ابنه المعتضد، فساس المملكة بإشبيلية، وبايعوه بالملك في سنة ثلاث وثلاثين وأربع مائة.
وكان شهما، صارما، داهية، ذبح جماعة من أعوان أبيه، وصادرهم، وعلا شأنه، ودانت له الأمم.
غرز خشبا في قصره، وعممها برؤوس كبار وملوك، وكانوا يشبهونه بالمنصور العباسي، ورام ابنه إسماعيل اغتياله، فأخذه، وضرب عنقه، وعهد إلى ابنه المعتمد.
قيل: سمه طاغية الفرنج في ثوب فاخر، أهداه له.
ومن جبروته وعتوه أنه أخذ مالا لأعمى، فهج وجاور بمكة، فبلغ المعتضد أنه يدعو عليه، فندب رجلا أعطاه جملة دنانير مطلية بسم، فسار إلى مكة، وأوصله الذهب، فقال: يظلمني بإشبيلية، ويصلني هنا؟! ثم وضع منها دينارا في فمه كعادة الأضراء، فمات من الغد.
وهرب منه مؤذن إلى طليطلة، فبقي يدعو عليه في السحر، فنفذ من جاءه برأسه.
وقد سكر ليلة، وخرج في الليل معه غلام، وسار مخمورا، حتى وافى قرمونه، وصاحبها إسحاق البرزال، وبينهما حروب، وكان يشرب أيضا في جماعة، فاستأذن المعتضد، ودخل، فزاد تعجبهم، فسلم وأكل، وأل من سكره، وسقط في يده، لكنه تجلد، ثم قال: أريد أن أنام، ففرشوا له، فتناوم، فقال بعضهم: هذا كبش سمين، والله لو أنفقتم ملك الأندلس عليه ما قدرتم، فقال معاذ بن أبي قرة: كلا، رجل قصدنا، ونزل بنا مستأمنا، لا تتحدث عنا القبائل أنا قتلنا ضيفنا، ثم انتبه وقام، فقبلوا رأسه، وقال للحاجب: أين نحن؟ قال: بين أهلك وإخوانك. قال: هاتوا دواة، فكتب لكل منهم بخلعة ومال وأفراس وخدم، وأخذ معه غلمانهم لقبض ذلك، وركب، فمشوا في خدمته. لكن أساء كل الإساءة؛ طلبهم بعد أشهر لوليمة، فأتاه ستون منهم، فأكرمهم، وأنزلهم حماما، وطينه عليهم سوى معاذ، وقال لمعاذ: لم ترع، حضرت آجالهم، ولولاك، لقتلوني، فإن أردت أن أقاسمك ملكي، فعلت، قال: بل أقيم عندك، وإلا بأي وجه أرجع، وقد قتلت سادات بني برزال، فصيره من كبار قواده، وكان من كبار قواد المعتمد.
وحكى عبد الواحد بن علي في ’’تاريخه’’ أن المعتضد ادعى أنه وقع إليه المؤيد بالله هشام بن الحكم المرواني، فخطب له مدة بالخلافة، وحمله على تدبير هذه الحيلة اضطراب أهل إشبيلية عليه؛ أنفوا من بقائهم بلا خليفة، وبلغه أنهم يتطلبون أمويا، فقال: فالمؤيد عندي، وشهد له جماعة بذلك، وأنه كالحاجب له، وأمر بالدعاء له في الجمع، ودام إلى أن نعاه للناس سنة خمس وخمسين وأربع مائة، وادعى أنه عهد إليه بالخلافة.
وهذا هذيان، والمؤيد هلك سنة نيف وأربع مائة، ولو كان بقي إلى هذا الوقت، لكان ابن مائة سنة وسنة.
هلك المعتضد سنة أربع وستين، وأربع مائة.
وخلفه المعتمد صاحب الترجمة، فكان فارسا شجاعا، عالما أديبا، ذكيا شاعرا، محسنا جوادا ممدحا، كبير الشأن، خيرا من أبيه. كان أندى الملوك راحة، وأرحبهم ساحة، كان بابه محط الرحال، وكعبة الآمال.
قال أبو بكر محمد بن اللبانة الشاعر: ملك المعتمد من مسورات البلاد مائتي مسور، وولد له مائة وثلاثة وسبعون ولدا، وكان لمطبخه في اليوم ثمانية قناطير لحم، وكتابه ثمانية عشر.
قال ابن خلكان: كان الأذفونش قد قوي أمره، وكانت الملوك بالأندلس يصالحونه، ويحملون إليه ضرائب، وأخذ طليطلة في سنة ثمان وسبعين بعد حصار شديد، من القادر بن ذي النون، فكان ذلك أول وهن دخل من الفرنج على المسلمين، وكان المعتمد يؤدي إليه، فلما تمكن، لم يقبل الضريبة، وتهدده، وطلب منه أن يسلم حصونا، فضرب الرسول، وقتل من معه، فتحرك اللعين، واجتمع العلماء، واتفقوا على أن يكاتبوا الأمير أبا يعقوب بن تاشفين صاحب مراكش لينجدهم، فعبر ابن تاشفين بجيوشه إلى الجزيرة، ثم اجتمع بالمعتمد، وأقبلت المطوعة من النواحي، وركب الأذفونش في أربعين ألف فارس، وكتب إلى ابن تاشفين يتهدده، فكتب في ظهر كتابه: الذي يكون ستراه. ثم التقى الجمعان، واصطدم الجبلان بالزلاقة من أرض بطليوس، فانهزم الكلب، واستؤصل جمعه، وقل من نجا، في رمضان سنة تسع وسبعين، وجرح المعتمد في بدنه ووجهه، وشهد له بالشجاعة والإقدام، وغنم المسلمون ما لا يوصف. وغدا ابن تاشفين.
ثم عبر في العام الآتي، وتلقاه المعتمد، وحاصرا حصنا للفرنج، وترجل ابن تاشفين، فمر بغرناطة، فأخرج إليه صاحبها ابن بلكين تقادم وهدايا، وتلقاه، فغدر به، واستولى على قصره، ورجع إلى مراكش، وقد بهره حسن الأندلس وبساتينها، وحسن له أمراؤه أخذها، ووحشوا قلبه على المعتمد.
قال عبد الواحد بن علي: غلب المعتمد على قرطبة في سنة ’’471’’، فأخرج منها ابن عكاشة، إلى أن قال: وجال ابن تاشفين في الأندلس يتفرج، مضمرا أشياء، معظما للمعتمد، ويقول: نحن أضيافه وتحت أمره، ثم قرر ابن تاشفين خلقا من المرابطين يقيمون بالأندلس، وأحب الأندلسيون ابن تاشفين، ودعوا له، وجعل عندهم بلجين قرابته، وقرر معه أمورا، فهاجت الفتنة بالأندلس في سنة ثلاث وثمانين، وزحف المرابطون، فحاصروا حصونا للمعتمد، وأخذوا بعضها، وقتلوا ولده المأمون في سنة أربع، فاستحكمت الإحنة،
وغلت مراجل الفتنة، ثم حاصروا إشبيلية أشد حصار، وظهر من بأس المعتمد وتراميه على الاستشهاد ما لم يسمع بمثله. وفي رجب سنة أربع، هجم المرابطون على البلد، وشنوا الغارات، وخرج الناس عرايا، وأسروا المعتمد.
قال عبد الواحد: برز المعتمد من قصره في غلالة بلا درع ولا درقة، وبيده سيفه، فرماه فارس بحربة أصاب الغلالة، وضرب الفارس فتله، فولت المرابطون. ثم وقت العصر، كرت البربر، وظهروا على البلد من واديه، ورموا فيه النار، فانقطع العمل، واتسع الخرق على الراقع بقدوم سير ابن أخي السلطان، ولم يترك البربر لأهل البلد شيئا، ونهبت قصور المعتمد، وأكره على أن كتب إلى ولديه أن يسلما الحصنين، وإلا قتلت، فدمي رهن على ذلك، وهما المعتد، والراضي، وكانا في رندة ومارتلة، فنزلا بأمان ومواثيق كاذبة، فقتلوا المعتد، وقتلوا الراضي غيلة، ومضوا بالمعتمد وآله إلى طنجة بعد أن أفقروهم، ثم سجن بأغمات عامين وزيادة، في قلة وذل، فقال:

قيل: إن بنات المعتمد أتينه في عيد، وكن يغزلن بالأجرة في أغمات، فرآهن في أطمار رثة، فصدعن قلبه، فقال:
وله من قصيدة:
ولابن اللبانة -ووفد بها إلى السجن:
فلما أنشده إياها، وأراد الخروج، أعطاه تفضيلة وعشرين دينارا، وأبياتا يعتذر فيها. قال: فرددتها عليه لعلمي بحاله، وأنه ما ترك عنده شيئا.
قال ابن خلكان: مولده كان في سنة إحدى وثلاثين وأربع مائة، ومات في شوال سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. وقد سمى ابن اللبانة بني المعتمد بأسمائهم وألقابهم، فعد نحوا من ثلاثين نفسا، وعد له أربعا وثلاثين بنتا.
قلت: افتقروا بالمرة، وتعلموا صنائع، وكذلك الدهر، نسأل الله المغفرة.
ابن المرابط، الهكاري:

  • دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 14- ص: 126

المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن عباد

ملك قمع العدا وجمع الناس والندا وطلع على الدنيا بدر هدى لم يتعطل يوما كفه ولا بنانه اونة يراعه واونة سنانه وكانت أيامه مواسم وثغور برة بواسم ولياليه كلها دررا وللزمان أحجالا وغررا لم يغفلها من سمات عوارف ولم يضحها من ظل إيناس وارف ولا عطلها من ماثرة بقي أثرها باديا ولقي معتفيه منها إلى الفضل هاديا وكانت حضرته مطمحا للهمم ومسرحا لآمال الأمم وموقفا لكل كمي ومقذفا لذي انف حمي لم تخل من وفد ولم يصح جوها من انسجام رفد فاجتمع تحت لوآيه من جماهير الكماة ومشاهير الحماة أعداد يغص بهم الفضا وأنجاد يزهى بهم النفوذ والمضا وطلع في سمائه كل نجم متقد وكل ذي فهم منتقد فأصبحت حضرته ميدانا لرهان الأذهان وغاية لرمي هدف البيان ومضمارا لإحراز خصل في كل معنى وفصل فلم يرتسم في زمامه إلا بطل نجد ولم يتسق في نظامه إلا ذكاء ومجد فأصبح عصره أجمل عصر وغدا مصره أكل مصر تسفح فيه ديم الكريم ويفصح فيه لسانا سيف وقلم ويفضح الرضى في وصفه ايام ذي سلم وكان قومه وبنوه لتلك الحلبة زينا ولتلك الجملة عينا عن ركبوا خلت الأرض فلكا بجمل نجوما وإن وهبوا رأيت الغمام سجوما وإن أقدموا أحجم عنترة العبسي وإن فخروا أقصر عرابة الأوسي ثم انحرفت الأيام فالوت بإشراقه وأذوت يانع ايراقه فلم يدفع الرمح ولا الحسام ولم تنفع تلك المنن الجسام فتملك بعد الملك وحط من فلكه إلى الفلك فأصبح خايضا تحدوه الرياح وناهضا يزجيه البكا والنياح، وقد ضجت عليه أياديه، وارتجت لاجوانب ناديه، وأضحت منازله قد بان عنها الأنس والحبور، وألوت بهجتها الصبا والدبور، فبكت العيون عليه دما، وعاد موجود الحيوة عدما، وصار أحرار الدهر فيه خدما، فسحقا لدنيا ما رعت حقوقه، ولا أبقت شروقه، فكم أحياها لبنيها، وأبداها رائقة لمجتليها، وهي الأيام لا تقي من تجنيها، ولا تبقي على مواليها، أدثرت آثار جلق، وأخمدت نار المحلق، وذللت عزة عاد بن شداد، وهدت القصر ذا الشرفات من سنداد، ونعت ببوس النعمان، وأكمنت غدرها له في طلب الأمان، وقد أثبت من نظمه العذب الجنى، الرائق السنا، الفائق اللفظ والمعنى، ما يمتزج بالنفوس والقلوب، ويتارج به مسرى الصبا والجنوب، وذكرت أثناءه من مآثره المخترعة ومفاخره، ومشاهده المستبدعة ومحاضره، ما يهون الدنيا وزخرفها، ويلين تقلبها وتصرفها، أخبرني ذو الوزارتين أبو بكر بن القصيرة أنه كان بغرفة القصر المكرم مقيما لرسوم المعتمد وحدوده، منشأ لمخاطباته وعهوده، في اليوم الذي خرج فيه ابن عمار إلى شلب معه مفتقدا لأعمالها، مسددا أغراض عمالها، إذ طلع إليه الوزير الأجل أبو بكر بن زيدون منشرح المحيا، متضح العليا، يتهلل بشرا، ويتخيل أنه المسك نشرا، وقال لما خرج ابن عمار إلى شلب ثار للمتعمد هيامه القديم وكلفه، وتجدد له معلقه بها ومالفه، فإنه عمرها في ظل صباه، وفرع بها هضاب السرور ورباه، وبرد عمر قشيب، وشبابه غض لم يرعه مشيب، ايام ولاه المعتضد بالله أمرها، وأدارت عليه الغرارة خمرها، فقال مرتجلا، وابن عمار بالانحفاز له: "طويل"

وأخبرني ذخر الدولة ابن المعتضد أنه دخل عليه في ليلة قد ثنى السرور منامها، وامتطى الحبور غاربها وسنامها، وراع الأنس فوادها، وستر بياض الأماني سوادها، وغازل نسيم الروض زوارها وعوادها، ونور السرج قد قلص أذيالها، ومحا من لجين الأرض نبالها، والمجلس مكتس بالمعالي، وصوت المثاني والمثالث عال، والبدر قد كمل، والتحف بضوءه القصر واشتمل، وتزين بسناه وتجمل، فقال: "كامل"

وأخبرني أبو بكر بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة أنه استدعاه ليلة إلى مجلس قد كساه الروض وشيه، وامتثل الدهر أمره فيه ونهيه، فسقاه الساقي وحياه، وسفر له الأنس عن مؤنق محياه، فقام للمعتمد مادحا، وعلى دوحة تلك النعماء صادحا، فاستجاد قوله، وأفاض عليه طوله، فصدر وقد امتلأت يداه، وغمره جوده ونداه، فلما حل بمنزلة وافاه رسوله بقطيع وكاس من بلار، وقد اترع بصرف العقار، ومعهما: "كامل"

وأخبرني ابن إقبال الدولة ابن مجاهد أنه كان عنده في يوم قد نشر من غيمه رداء ند، واسكب من قطرة ماء ورد، وأبدى من برقة لسان نار، وأظهر من قوس قزحه حنايا آس حفت بنرجس وجلنار، والروض قد نفث رياه، وبث الشكر لسقياه، فكتب إلى الطبيب أبي محمد المصري: "خفيف"

فوافاه والفى مجلسه قد اتعلت أباريقه أجيادها، وأقامت به خيل السرور طرادها، وأعطته الأماني انطباعها وانقيادها، وأهدت الدنيا ليومه مواسمها وأعيادها، وخلعت عليه الشمس شعاعها، ونشرت فيه الحدائق إيناعها، فأديرت الراح، وتعوطيت الأقداح، وخامر النفوس الابتهاج والارتياح، وأظهر المتعهد في إيناسه، ما استرق به نفوس جلاسه، ثم دعا بكبير، فشربه كالشمس غربت في ثبير، وعندما تناولها قام المصري ينشد أبياتا تمثلها: "بسيط"

فطرب حتى زحف من مجلسه، وأسرف في تأنسه، وأمر فخلعت عليه ثياب لا تصلح إلا للخلفاء، وأدناه حتى أجلسه مجلس الأكفاء، وأمر له بدنانير عددا، وملأ بالمواهب منه يدا، وكان مجلس ذي الوزارتين أبي الوليد بن زيدون منحطا عنة مجلسه في القعود لإنفاذ أوامر أبيه المعتضد فكتب إلا للخلفاء، وأدناه حتى أجلسه مجلس الأكفاء، وأمر له بدنانير عددا، وملأ بالمواهب منه يدا، وكان مجلس ذي الوزارتين أبي الوليد بن زيدون منحطا عنة مجلسه في القعود لإنفاذ أوامر أبيه المعتضد فكتب إليه: "رمل"

فكتب إليه ابن زيدون مراجعا: "رمل"

وله في ظلام رأه يوم العروبة من ثنيات الوغا طالعا، ولطلا الأبطال قارعا، وفي الدماء والغا، ولمستشبع كؤس المنايا سائغا، وهو ظبي قد فارق كناسه، وعاد أسدا صارت الفتى أخياسه، ومتكاثف قد مزقه إشراقه، وقلوب الدارعين قد شكتها أحداقه، فقال:

وله فيه: "متقارب"

وتوجه اليد الوزير أبو الإصبع بن أرقم رسولا عن المعتصم ومعه الوزير أبو عبيد البكري والقاضي أبو بكر بن صاحب الأحباس فلما دنا من حضرته واقترب، وبات منها على قرب، معتقدا حلولها فجر أو ضحاه، معتمدا مشاهدة فطر ذلك اليوم أو اضحاه، بادر بالإعلام، وكتب إليه على عادة الإعلام، شعرا منه: "بسيط"

فكتب إليه رحمه الله: بسيط

وأخبرني ذخر الدولة أنه استدعاه في ليلة قد ألبسها البدر رداءة، وأوقد فيها أضواءه، وهو على البحيرة الكبرى، والنجوم قد انعكست فيها تخالها زهرا، وقابلتها المجرة فسالت فيها نهرا، وقد ارجت نوافح الند، وماست معاطف الرند، وحسد النسيم الروض فوشى باسراره، وأفشى أحاديث آسه وعراره، ومشى مختالا بين لبات النور وأزراره، وهو وجم، ودمعه منسجم، وزفراته تترجم عن غرام، وتجمجم عن تعذر مرام، فلما نظر إليه استدناه وقربه، وشكا إليه من الهجران ما استغربه، وأنشد: متقارب

فانصرف ولم يعلمه بقصته، ولا كشف له عن غصته، وأخبرني أنه دخل عليه في دار المزينة والزهر يحسد أشراق مجلسه، والدر يحكى اتساق تأنسه، وقد رددت الطير شدوها، وجددت طربها وشجوها، والغصون قد التحفت بسندسها، والأزهار تحيي بطيب تنفسها، والنسيم يلم بها فتضعه بين أجفانها، وتودعه أحاديث أذارها ونيسانها، وبين يديه فتى من فتيانه يتثنى تثني القضيب، ويحمل الكاس في راحة أبهى من الكف الخضيب، وقد توشح وكان الثريا وشاحه، وأنار فكان الصبح من محياه كان اتضاحه، فكلما ناوله الكاس خامره سورة، وتخيل أن الشمس تهديه نوره، فقال المعتمد: منسرح

ولما وصل لورقة استدعى ذا الوزارتين القائد ابا الحسن بن اليسع ليلته تلك في وقت لم يخف فيه زائر من مراقب، ولم يبد فيع غير نجم كثاقب، فوصل وما للأمن إلى فؤاده من وصول، وهو يتخيل أن الجو صوارم ونصول، بعد أن وصى بما خلف، وودع من تخلف، فلما مثل بين يديه أنسه، وأزال توجسه، وقال خرجت من اشبيلية وفي النفس غرام طويته بين ضلوعي، وكفكفت فيه غرب دموعي، بفتاة هي الشمس أو كالشمس أخالها، لا يحول قلبها ولا خلخالها، وقد قلت في يوم وداعها، عند تفطر كبدي وانصداعها: طويل

وقد زارتني هذه الليلة في مضجعي، وأبرأتني من توجعي، ومكنتني من رضابها، وفتنتني بدلالها وخضابها، فقلت: طويل

فكرر استجادته، وأكثر استعادته، فأسر له بخمسماية دينار لورقة من حينه، وأخبرني الوزير الفقيه أبو الحسن ابن سراج أنه حضر مع الوزراء، والكتاب بالزهراء، في يوم غفل عنه الدهر فلم يرمقه بطرف، ولم يطرقه بصرف، ارخت به المسرات عهدها، وأبرزت له الأماني خدها، وأرشفت فيه لماها، وأباحت للزائرين حماها، ومازالوا ينتقلون من قصر إلى قصر، ويبتذلون الغصون بجني وهصر، ويتوقلون في تلك الغرفات، ويتعاطون الكؤس بين تلك الشرفات، حتى استقروا بالروض من بعد ما قضوا من تلك الآثار اوطارا، وأوقروا بالاعتبار قطارا، فحلوا منه في درانيك ربيع مفوقة بالأزهار، مطرزة بالجداول والأنهار، والغصون تختال في أدواحها، وتنثني في أكف أرواحها، وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها، وانقراض أطرابها، والوهي بمشيدها لاعب، وعلى كل جدار غراب ناعب، وقد محت الحوادث ضياءها، وقلصت ظلالها وأفياءها، وطالما أشرقت بالخلائق وابتهجت، وفاحت من شذاهم وارجت، أيام نزلوا خلالها، وتفيئوا ظلالها، وعمروا حدائقها وجناتها، ونبهوا الآمال من سناتها، وراعوا الليوث في آجامها، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها، فأضحت ولها بالتداعي تلفع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلا نوي وأحجار، وقد هوت قبابها، وهرم شبابها، وقد يلين الحديد، ويبلى على طيه الجديد، فبينما هم يتعاطونها صغارا وكبارا، ويديرونها أنا واعتبارا، إذ برسول المعتمد قد وافاهم برقعة فيها: خفيف

فصاروا إلى قصر البستان بباب العطارين فالفوا مجلسا قد حار فيه الوصف، واحتشد به اللهو والقصف، وتوقدت نجوم مدامه، وتاودت قدود خدامه، وأربى على الخورنق والسدير، وأبدى صفحة البدر من أزرار المدير، فأقاموا ليلتهم ما طرقهم نوم، ولا عراهم عن طيب اللذات سوم، وكانت قرطبة منتهى أمله، وكان روم أمرها أشهى عمله، ومازال يخطبها بمداخله أهليها، ومواصلة واليها، غذ لم يكن في منازلتها قائد، ولم يكن لها إلا حيل ومكائد، لاستمساكهم بدعوة خلفائها، وأنفتهم من طموس رسم الخلافة وعفائها، وحين اتفق له تملكها، وأطلعه فلكها، وحصل في قطب دارتها، ووصل إلى تدبير رياستها وإدارتها، قال: بسيط

ولما نظمت في سلكه، واتسمت بملكه، أعطى ابنه الظافر زمامها، وولاة نقضها وإبرامها، فأفاض فيها نداه، وزاد على أمك ومداه، وجملاها بكثرة حبائه، واشتغل بأعبائها عن فتائه، ولم يزل فيها أمرا وناهيا، غافلا عن المكر ساهيا، حسن ظن بأهلها اعتقد، واغترار بهم ما رواه ولا انتقد، وهيهات كم من ملك كفنوه في دمائه، ودفنوه بذمائه، وكم من عرش ثلوه، وعزيز أذلوه، إلى أن ثار فيها ابن عكاشة ليلا، وجر إليها حربا وويلا، فبرز الظافر منفردا من كماته، عاريا عن حماته، وسيفه في يمينه، وهاديه في الظلماء نور جبينه، فإنه كان غلاما كما بلله الشباب بإندائه، والحفه الحسن بردائه، فدافعهم أكثر ليله، وقد منع منه تلاحق رجله وخيله، حتى أمكنتهم منه عثرة لم يقل لها لعا، ولا استقل منها ولا سعى، فترك ملتحفا بالظلماء، معفرا في وسط الحماء، تحرسه الكواكب، بعد الكواكب، وبسترة الحندس، بعد السندس، فمر بمصرعه سحرا أحد أيمة الجامع المغلسين وقد ذهب ما كان عليه ومضى، وهو أعرى من الحسام المنتضى، فخلع رداءه عن منكبيه ونضاه، وستره به سترا أقنع المجد وأرضاه، وأصبح لا يعلم رب تلك الصنيعة، ولا يعرف فشكر له يده الرفيعة، فكان المتعهد إذا تذكر صرعته، وسعر الجوى لوعته، رفع بالعويل نداءه، وأنشد، ولم أدر من ألقى عليه رداءة، ولما كان من الغد حزراسه ورفع على سن رمح وهو يشرق كنار على علم، ويرشق نفس كل ناظر بألم، فلما رمقته الأبصار، وتحققته الحماة والأنصار، رموا أسلحتهم، وسووا للفرار أجنحتهم، فمنهم من أختار فراره وجلاه، ومنهم من اتت به إلى حينه رجلاه، وشغل المعتمد عن رثائه، بطلب ثاره، ونصب الحبائل لوقوع ابن عكاشة وعثاره، وعدل عن تابينه، إلى البحث عن مفرقه وجبينه، فلم تحفظ له فيه قافية، ولا كلمة للوعته شافية، إلا إشارته إليه، في تأبين أخويه، المأمون والراضي المقتولين في أول النائرة، والفتنة الثائرة، التي ينتهي بنا القول إلى سرد خبرها، ونص عبرها، فإنه قال: طويل

فتبكي بدمع للقطر مثله، ويزجرها التقوى فتصغي إلى الزجر

وكان المعتصم بن صمادح قد اختص بأمير المسلمين رحمه الله أيام جوازه البحر إلى حماية الأندلس حين فغر العدو عليها فما، وأسال دموع أهلها دما، وملأ نفوسهم رعبا، وأخذ كل سفينة غصبا، ففل الله به غربه، وحكم فيه طعنه وضربه، فما سعدت نجومه، ولا قعدت عن شياطينه رجومه، في يوم عروبة لم يكن فيه جمع إلا في المدى، ولم تركع فيه إلا رؤس العدا، ولم يطل فيه إلا ذابل وحسام، ولم يصل فيه إلا بطل مقدام، وهو يوم شفى الإسلام بعد ما أشفى، واقتص من أيام الروم واستوفى، وكان للمعتمد رحمه الله فيه ظهور، وغناء مشهور، جلا متكاثف عجاجه، وجلا الروم عن غيطانه وفجاجه، بعد ما لقي حرة، وسقي أمره، وكلم العدويك، وثلم عدده، وتخاذل فيه رؤساء الأندلس فلم يعمل لهم فيه سنان، ولم يكحل جفونهم من قتامة عنان، والمعتمد يلقي اسنتهم بلباته، وتنثني الذوابل ولا ينثني من عناته، وفي ذلك يقول ابن عبادة: وافر

وفي ذلك يقول عبد الجليل ويشير إلى أمير المسلمين وحسن بلائه، وما أظهر المعتمد من إخلاصه وولائه، وأول القصيدة: وافر

ومنها:

ومازال ابن صمادح يتصنع إليه بكل معنى يغرب، ويفسد ما بينه وبين المعتمد ويخرب، ويؤرش بينهما ويضرب، فلما أعلم بقبيح سعيه، وعلم حقيقة بغيه، كتب إليه: كامل

ومن منازعه الشريفة، ومقاطعه المنيفة، وشيمه الملكية، وهممه الفلكية، أن ابن زيدون الذي كان وزير أبيه الذي أظهر صولته، ودبر دولته، وأدجى ضحاها، وأدار بالمكاره رحاها، وأغراه بأعدائه، وزين له الإيقاع بعماله ووزرائه، فغدا شجا في صدورهم، ونكدا في سرورهم، فلما هيل التراب على المعتضد، وأفضى أمره إلى المعتمد، ثاروا إلى طلب ابن زيدون وجاشوا، وبروا في البغي له وراشوا، وأغروه بنكبته، وأروه الرشاد في هدم رتبته، وأرادوه بالي أرادهم، وكادوه كما كادهم، فرموا إلى المعتمد برقعة فيها: كامل

فلما قرأها المعتمد عف عما أرادوه، وكف ألسنة الذين كادوه، بمراجعة حلت من بغيهم ما انعقد، وزأرت عليهم زئير الليث على النقد، دلت على تحققه بالرياسة، وتسنمه لذرى النفاسة، وتقليل لأيمة العدل المعرضين عن الوشاة، الرافضين للبغاة، العارفين بمعاني السعايات وأسبابها، النابذين لأصحابها وأربابها، فأجمل حلي الملوك التصامم عن سماع القدح في ولي، والتعاظم عن الوضع لعلي، والهجر لمن بغي، والزجر لمن نعب بمكروه أورغا، والمراجعة: كامل

فلما بلغ ابن زيدون ما راجعهم به، وتحقق حسن مذهبه، وعلم أن مخيلتهم قد أخفقت، وسعايتهم ما نفقت، وسهامهم تهزعت، ومكائدهم تبددت وتوزعت، قال يمدحه ويعرض بهم: كامل

ولما ثل عرش الخلافة وخوى نجمها، ووهى ركن الإمامة وطمس رسمها، وصار الملك دعوى، وعادت العافية بلوى، استنسر البغاث، وصحت الأضغاث، واستاسد الظبي في كناسه، وثار كل أحد في ناسه، وخلت المنابر من رقاتها، وفقدت الجمع مقيمي أوقاتها، وكان باديس بن حبوس بغرناطة عاثيا في فريقه، عادلا عن سنن العدل وطريقه، يجتري على الله غير مراقب، ويجري إلى ما شاء غير ملتفت للعواقب، قد حجب سنانه لسانه، وسبقت إساءته إحسانه، ناهيك من رجل لم يبت من ذنب على ندم، ولا شرب الماء إلا من قليب دم، احزم من كاد ومكر، وأجرم من راح وابتكر، ومازال متقدا في مناحيه، مفتقدا لنواحيه، لا يرام بريث ولا عجل، ولا يبيت له جار إلا على وجل، إلى أن وكل أمره إلى احد اليهود واستكفاه، وجرى في ميدان لهوه حتى استوفاه، وأمره أضيع من مصباح الصباح، وهمه في غبوق واصطباح، وبلاده مراد للفاتك، وستره في يد الهاتك، فسقط الخبر على المعتضد بالله ملقح الحرب، ومنتج الطعن والضرب، الذي صار الطير تحت أجنحة العقبان، وأخذ الفريسة من فم الثعبان، فسدد إلى مالقة سهمه وسنانه، ورد إليها طرفه وبنانه، وصمم إليها تصميم سابور إلى الحضر، وعزم عليها عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النضر، ووجه إليها جيشه المتزاحم الأفواج، المتلاطم الأمواج، وعليه سيفه المستل، وحتفه المحتل، ابنه المعتمد سهام الأعادي، وحمام الأسد العادي، فلما أطل عليها أعطته صفقتها، وأمطته صهوتها، إلا قصبتها فإنها امتنعت بطائفة من السودان المغاربة لم يرضوا سفاحها، ولا أمضوا نكاحها، وفي أثناء امتناعهم، وخلال مجادلتهم ودفاعهم، طيروا إلى باديس من ذلك خبرا أصحاه من نشوته، ولحاه على صبوته، فأخرج من حينه كتيبته التي كانت ترمي بالزند، ولا تنثني عن القنا القصد، وعليها ابن الناية قائد جنده، وموري زند، وقد كان أشار على المعتمد برابرة بتنفيس الممتنعين ولووه عن مساورتهم، وثنوه عن مراوحتهم ومباكرتهم، ومنعوه من نزالهم، وأطمعوه في استنزالهم، إنما كان ذلك أبقى على الأقارب، وأتقى على أوليك المغارب، فعدل عن انتهاز فرصتهم، وإبراء غصتهم، إلى الاستراحة من تعبة، والإناخة على لهوه ولعبه، وتفرق أصحابه في ارتياد الفتيات، وطراد اللذات، فما أمسى إلا وقد غشيه ليلها، وسال عليه سيلها، وأصحابه بين صريع رحيق، ومنادى من مكان سحيق، فحاب سعيه، وبال رأيه، ونجا براس طمرة ولجام، وآوى إلى أحد المعاقل أعرى من الحسام، فحقد المعتضد عليه بتنفيسه لأهل القصبة، وأصاخته إلى تلك العصبة، وضربه بالعصي، ونكله تنكيل القصي، فكتب إليه: بسيط مجزوء

فعفا عنه وصفح، وعبق له عرف رضاه ونفخ، وقد كان قبل كتب إليه حين أمره بالمقام بالموضع الذي نحا إليه مسجونا يسليه، ويعرض له بالبربر ويستعطفه مما حصل فيه: بسيط

ولما بدت الفتنة وسال سيلها، وانسحب على بهجة الهدنة ذيلها، نازل المرابطون قرطبة وفيها ابنه المأمون وكان أشهر ملوك أوانه خيرا، وأيمنهم طيرا، وما اشتغل بمعاطاة المدامة، ولا توغل للعصيان شعب ندامة، فأقاموا عليها شهورا، وأرخوا من محاصرتها والتضييق عليها ستورا، يساورونها مساورة الأراقم، ويباكرونها بداء من الحصار فأقم، والمأمون قد أوجس في نفسه خيفة، وتوقع منهم داهية مطيفة، فنقل ماله وأهله إلى المدور بعد أن حصنه، وملأه بالعدد وشحنه، وأقام بقصر قرطبة مضطربا، ولأول نبأة مصيخا ومرتقبا، إلا أن صبحوها يوما لعدة كانت بينهم وبين أهلها في تسم أسوارها، وتقحم أنجادها وأغوارها، فوقفوا هاربين، وتشوفوا راهبين، وأهلها يدعون بشعارهم، ويتبعون أهواء مردتهم ودعارهم، وكلهم يبدي تلومه وأحجامه، ويعتقك هولا لا يرى اقتحامه، إلى أن استهلوا استصعابه، وتوغلوا شعابه، وصمموا إلى القصر، وقد علموا قعود الجماعة عن الحماية له والنصر، فلما أحس بهم المأمون خرج بعدد قليل، وحد قليل، وقد رتبت له بطريقه رصائد، ونصبت له فيها مصائد، علق فيه زمامه، ورشق إليه منها حمامه، فانقضوا عليه انقضاض الجارح، وانصبوا إليه انصباب الطير إلى المسارح، فلم يكن له فيها أين يعرج، ولا وجد للخلاص بابا ينفرج، فقطع رأسه وحيز، وخيض به النهر وأجيز، ولما استقر بالمحلة رفع على سن رمح وطيف به في جوانبها، وأخيف به قلب مجانبها، وبقي جسده على الأرض مطروحا، كأنه لم يكن للملك روحا، ولا اختال في عراصه فحكى غصنا مروحا، وذلك بتقدير العليم ثم انتقلوا إلى رندة أحد معاقل الأندلس الممتنعة، وقواعدها السامية المرتفعة، تطرد منها على بعد ملتقاها، ودنو النجوم من ذراها، عيون لأنصبابها دوي كالرعد القاصف، والرياح العواصف، ثم تتكون واديا يلتوي بجوانبها التواء الشجاع، ويزيدها في التوعر والامتناع، وقد تجونت نواحيها وأقطارها، وتكونت فيها لباناتها وأوطارها، لا يعتذر لها مطلب، ولا يتصور فيها عدو إلا علقه ناب أو مخلب، فأناخوا منها على بعد، وأقاموا من الرجاء بها على غير وعد، وفيها ابنه الراضي لم يحفل بأناختهم بإزائه، ولا عدها من أرزائه، لامتناعه عن منازلتهم، وارتفاعه عن مطاولتهم، إلى أن انقضى في أمر إشبيلية ما انقضى، وأفضى أمر أبيه إلى ما أفضى، فحمل على مخاطبة ولله لينزل عن صياصيه، ويمكنهم من نواصيه، فنزل برا بأبيه، وإبقاء على أرماق ذويه، بعد أن عاقدهم مستوثقا، وأخذ عليهم عهدا من الله وموثقا، فلما وصل إليهم، وحصل في أيديهم، ومالوا به عن الحصن وجرعوه الردى، واقطعوه الثرى حين أودى، وفي ذلك يقول المعتمد يرثيهما وقد رأى قمرية بائحة بشجنها، نائحة بفننها على سكنها، وأمامها وكر فيه طائران يرددان نغما، ويغردان ترحة وترنما: طويل

ولما تم في الملك أمك، وأراد الله أن تخر عمك، وتنقرض أيامه، وتتقوض عن عراص الملك خيامه، نازلته جيوش أمير المسلمين ومحلاته، وظاهرته فساطيطه ومظلاته، بعدما نثرت حصونه وقلاعه، وسعرت بالنكاية جوارحه وأضلاعه، وأخذت عليه الفروج والمضائق، وثنت إليه الموانع والعوائق، وطرقته بالأضرار، وأمطرته كل ديمة مدرار، وهو ساه بروض ونسيم، لاه براح ومحببا وسيم، زاه بفتاة تنادمه، ناه عن هدم أنس هو هادمه، لا يصيخ إلى نبأة سمعه، ولا ينيخ إلا على لهو يفرق جموعه جمعه، قد ولى المدامة ملامه، وثنى إلى ركنها طوافه واستلامه، وتلك الجيوش تجوش خلاله، وتقلص ظلاله، محين اشتد حصاره، وعجزت عن المدافعة أنصاره، ودلس عليه ولاته، وكثرت أدواؤه وعلاته، فتح باب الفرج، وقد لفح شواظ الهرج، فدخلت عليه من المرابطين زمرة، واشتعلت لهم من التغلب جمرة، تأجج اضطرامها، وسهل بها إيقاد البقية وإضرامها، وعندما سقط الخبر عليه خرج حاسرا من مفاضته، جامحا كالمهر قبل رياضته، فلحق أوائلهم عند الباب المذكور وقد انتشروا في جنباته، وظهروا على البلد من أكثر جهاته، وسيفه في يده يتلمظ الطلا والهام، ويعد بانفراج ذلك الإبهام، فرماه أحد الداخلين برمح تخطاه، وجاوز مطاه، فبادره بضربه أذهبت نفسه، وأغربت شمسه، ولقي ثانيا فضربه وقصمه، وخاض حشا ذلك الداء فحمسه، فأجلوا عنه، وولوا فرارا منه، فأمر بالباب فسد، وبني منه ماهد، ثم انصرف وقد أراح نفسه وسفاها، وأبعد الله عنه الملامة ونفاها، وفي ذلك يقول عند ما خلع، وأودع من المكروه ما أودع: كامل مجزوء

وما زالت عقارب تلك الداخلة تدب، وريحها العاصفة تهب، وضلوعها تحنق وتحقد، وتضمر الغدر وتعتقد، حتى دخل البلد من واديه، وبدت من المكروه بواديه، وكر عليه الدهر بعوائد وعواديه، وهو مستمسك بعرى لذاته، منغمس فيها بذاته، ملقى بين جواريه، مغتر بودائع ملكه وعواريه، التي استرجعت منه في يومه، ونبهه فواتها من نومه، ولما انتشر الداخلون في البلد، وأوهنوا القوى والجلد، خرج والموت يتسعر في الحاظه، ويتصدر من ألفاظه، وحسامه يعد بمضائه، ويتوقد عند انتضائه، فلقيهم في رحبة القصر وقد ضاق بهم فضاؤها، وتضعضعت من رجتهم أعضاؤها، فحمل فيهم حملة صيرتهم فرقا، وملأتهم فرقا، ومازال يوالي عليهم الكر، حتى أوردهم النهر، وما بهم جواد، وأودعهم حشاه كأنهم له فؤاد، ثم انصرف وقد أيقن بانتهاب ماله، وذهاب ملكه وارتحاله، وعاد إلى قصره واستمسك به يومه وليته مانعا لحوزته، دافعا للذل عن عزته، وقد عزم على أفظع أمر، وقال يبدي لا بيد عمرو، ثم صرفه تقاه، عما كان نواه، فنزل من القصر بالقسر، إلى قبة الأسر، فقيد للحين، وحان له يوم شر ما ظن أنه يحين، ولما قيدت قدماه، وبعدت عنه رقة الكبل ورحماه، قال يخاطبه: طويل

ولما آلمه عضه، ولازمه كسره ورضه، وأوهاه ثقله، وأعياه نقله، قال: متقارب

ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت، وضمتهم جوانحها كأنهم أموات، بعد ما ضاق عنهم القصر، وراق منهم العصر، والناس قد حشروا بضفتي الوادي، وبكوا بدموع كالغوادي، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لايعدوهم، وفي ذلك يقول ابن اللبانة: بسيط

ولما نقل من بلاده، وأعرى من طارفه وتلاده، وحمل في السفين، وأحمل في العدوة محل الدفين، تنبه منابره وأعواده، ولا يدنو منه زواره ولا عوادة، بقي آسفا تتصعد زفراته، وتطرد أطراد المذانب عبراته، لا يخلو بموانس، ولا يرى إلا عرينا بدلا من تلك المكانس، ولما لم يجد سلوا، ولم يؤمل دنوا، ولم يروجه مسرة مجلوا، تذكر منازله فشاقته، وتصور بهجتها فراقته، وتخيل استيحاش أوطانه، وأجهاش قصره إلى قطانه، وإظلام جوه من أقماره، وخلوة من حراسة وسمارة، فقال: بسيط

وفي ذلك يقول ابن اللبانة: بسيط

وكان الحصن الزاهر من أجمل المواضع لديه وأبهاها، وأحبها إليه وأشهاها، لإطلاله على النهر، وإشرافه على القصر، وجماله في العيون، واشتماله بالشجر والزيتون، وكان له به من الطرب، والعيش المزري بحلاوة الضرب، ما لم يكن بحلب لبني حمدان، ولا لسيف بن ذي يزن في رأس غمدان، وكان كثيرا ما يدير به راحه، ويجعل فيه انشراحه، فلما استد إليه الزمان بعدوانه، ووسد عليه أبواب سلوانه، لم يحن إلا إليه، ولم يتمن إلا الحلول لديه، فقال: طويل

وأول عيد أخذه باغمات وهو سارح، وما غير الشجون له مسارح، ولا زي إلا حالة الخمول، واستحالة المأمول، فدخل عليه من بينه، من يسلم عليه ويهنيه، وفيهم بناته وعليهن أطمار، كأنها كسوف وهن أقمار، يبكين عند التسايل، ويبدين الخشوع بعد التخايل، والضياع قد غير صورهن، وحير نظرهن، وأقدامهن حافية، وأثار نعيمهن عافية، فقال: بسيط

وأقام بالعدوة برهة لا يروع له سرب، وإن لم يكن آمنا، ولا يثور له كرب، وإن كان في ضلوعه كامنا، إلى أن ثار أحد بينه باركش معقلا كان مجاورا لإشبيلية مجاورة الأنامل للراح، ظاهرا على بسائط وبطاح، لا يمكن معه عيش، ولا يتمكن من منازلته جيش، فغدا بالمكاره على أهلها وراح، وضيق عليهن المتسع من جهاتها والبراح، فسار نحوه الأمير ابن أبي بكر رحمة الله عليه، قبل أن يرتد طرف استقامته إليه، فوجه وشره قد تشمر، وضره قد تنمر، وجمرة متسعر، وأمره متوعر، فنزل عدوته، وحل للحزم حبوته، وتدارك داءه قبل أعضاله، ونازله وما أعد آلات نضاله، وانحشرت إليه الجيوش من كل قطر، وأفرغ في مالسكه كل قطر، فبقي محصورا لا يشد له إلا سهم، ولا ينفذ عنه إلا نفس أو وهم، وامتسك شهورا حتى غرضه أحد الرماة فرماه، بسهم أصماه، فهوى في مطلعه، وخر قتيلا في موضعه، فدفن إلى جانب سريره، وأمن عاقبة تغييره، وبقي أهله ممتنعين مع طائفة من وزرائه حتى اشتد عليهم الحصر، وارتد عنهم النصر، وعمهم الجوع، وأغب أجفانهم الهجوع، فنزلت منهم طائفة متهافتة، ورقت بأنفاس خافتة، فتبعهم من بقي، ورغب

في التنعم من شقي، فوصلوا إلى قبضة الملمات، وحصلوا في غصة الممات، فرسمهم الحيف، وتقسمهم السيف، ولما زأر الشبل خيفت ثورة الأسد، ولم يرج صلاح الكل والبعض قد فسد، فاعتقل المعتمد خلال تلك الحال وأثناءها، وأحل ساحة الخطوب وفناءها، وحين أركبوه أساودا، وأورثوه حزنا بات له معاودا، قال: كامل

ولما فقد من يجالسه، وبعد عنه من كان يوانسه، وتمادى كربه، ولم تسالمه حربه، قال: طويل

ولما امتدت في الثقاف مدته، واشتدت عليه قسوة الكبل وشدته، وأقلقته همومه، وأطبقته غمومه، وتوالت عليه الشجون، وطالت لياليه الجون، قال: بسيط

وقال لي من أثق به لما ثار ابنه حيث ثار، وأثار من حقد أمير المسلمين عليه ما أثار، جزع جزعا مفرطا، وعلم أنه قد صار في أنشوطة الشر متورطا، وجعل يتشكى من فعله ويتظلم، ويتوجع منه ويتألم، ويقول عرض بي للمحن، ورضي لي أن أمتحن، ووالله ما أبكي إلا انكشاف من أتخلفه بعدي، ويتحيفه بعدي، ثم أطرق ورفع رأسه وقد تهللت أسرته، وظللته مسرته، ورأيته قد استجمع، ولشوف إلى السماء وتطلع، فعلمت أنه قد رجا عودة إلى سلطانه، وأوبة إلى أوطانه، فما كان إلا مقدار ما تنداح دائرة، أو تلتفت مقلة حائرة، حتى قال: متقارب

وكانت طائفة من أهل فاس قد عاثوا فيها وفسقوا، وانتظموا في سلك الطغيان واتسقوا، ومنعوا جفون أهلها السنات، وأخذوا البنين من جحور أمهاتهم والبنات، وتلقبوا بالإمارة، واركبوا السواء نفوسهم الإمارة، حتى كادت تقفر على أيديهم، وتدثر رسومها بإفراط تعديهم، إلى أن تدارك أمير المسلمين رحمه الله أمرهم، وأطفأ جمرهم، وأوجعهم ضربا، وأقطعهم ما شاء حزنا وكربا، وسجنهم باغمات، وضمتهم جوانح الملمات، والمعتهد غذ ذاك، معتقل هناك، وكان فيهم طائفة شعرية، مذنبة أو برية، فرغبوا إلى سجانهم، أن يستريحوا إلى المعتمد من أشجانهم، فخلى ما بينهم وبينه، وغمض لهم في ذلك عينه، فكان المعتمد رحمه الله يتسلى بمجالستهم، ويجد أثر موانستهم، ويستريح إليهم بجواه، ويبوح لهم بسره ونجواه، إلى أن شفع فيهم وانطلقوا من وثاقهم، وانفرج لهم مبهم أغلاقهم، وبقي المعتمد في مجلسه يتشكى من ضيق الكبل، ويبكي بدمع كالوبل، فدخلوا عليه مودعين، ومن بثه متوجعين، فقال: طويل

ومر عليه في موضع اعتقاله سرب قطا لم يعلق لها جناح، ولا تعلق بها من الأيام جناح، ولا عاقها عن أفراخها الأشراك، ولا أعوزها البشام ولا الأراك، وهي تمرح في الجو، وتسرح في مواقع النو، فتنكد مما هو فيه من الوثاق، وما دون أحبته من الرقباء والأغلاق، وما يقاسيه من كبله، ويعانيه من وجده وخبله، وفكر في بناته وافتقارهن إلى نعيم عهدنه، وحبور حضرته وشهدنه، فقال: طويل

وفي هذه الحال زاره الأديب أبو بكر بن اللبانة المتقدم الذكر وهو أحد شعراء دولته المرتضعين درها، المنتجعين درها، وكان المعتمد رحمه الله يميزه بالشفوف والإحسان، ويجوزه في فرسان هذا الشأن، فلما رآه وحلقات الكبل قد عضت بساقيه عض الأسود، والتوت عليه التواء الأساود السود، وهو لا يطيق أعمال قدم، ولا يريق دمعا إلا ممزوجا بدم، بعد ما عهده فوق منبر وسرير، ووسط جنة وحرير، تخفق عليه الألوية، وتشرق منه الأندية، وتكف الأمطار من راحته، وتشرف الأقدار بحلول ساحته، ويرتاع الدهر من أوامره ونواهيه، ويقصر النسر أن يقاربه أو يضاهيه، ندبه بكل مقال يلهب الأكباد، ويثير فيها لوعة الحارث بن عباد، أبدع من أناشيد معبد، وأصدع للكبد من مراثي أربد، أو بكاء ذي الرمة بالمربد، سلك فيها للاختفاء طريقا لاحبا، وغدا فيها لذيول الوفاء ساحبا، فمن ذلك قوله: بسيط

ولم تزل كبده تتوقد بالزفرات، وخلله يتردد بين النكبات والعثرات، ونفسه تتقسم بالأشجان والحسرات، إلى أن شفته منيته، وجاءته بها أمنيته، فدفن باغمات، وأريح من تلك الأزمات، وعطلت المآثر من حلاها، وأفرزت المفاخر من علاها، ورفعت المفاخر من علاها، ورفعت مكارم الأخلاق، وكسدت نفائس الأعلاق، وصار أمره عبرة في عصره، وصاب أبدا عبرة في مصره، وبعد أيام وافاه أبو بكر بن عبد الصمد شاعره المتصل به، المتوصل إلى المنى بسببه، فلما كان يوم العيد وانتشر الناس ضحى، وظهر كل متوار وضحى، قام على قبره عند انفصالهم من مصلاهم، واختيالهم بزينتهم زحلاهم، وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه، وخر على تربه ولثمه: كامل

وهي قصيدة أطال أنشادها، وبنى بها اللواعج وشادها، فانحشر الناس إليه وأحفلوا، وبكوا لبكائه وأعولوا، وأقاموا أكثر نهارهم مطيفين به طواف الحجيج، مديمين البكاء والعجيج، ثم انصرفوا وقد نزفوا ماء عيونهم، وأقرحوا مأقيهم بفيض شؤنهم، وهذه نهاية كل عيش، وغاية كل ملك وجيش، والأيام لا تدع حيا، ولا تألوا كل نشر طيا، تطرق رزاياها كل سمع، وتفرق مناياها كل جمع، وتصمي كل ذي أمر ونهي، وترمي كل مشيد بوهي، ومن قبله طوت النمعان ابن الشقيقة، ولوت مجازها في تلك الحقيقة.

  • مكتبة المنار - الأردن-ط 1( 1989) , ج: 1- ص: 4

ابنه محمد بن عباد المعتمد على الله
ويلقب أيضا بالظافر وبالمؤيد أبو القاسم
بويع له بالإمارة بعد أبيه المعتضد إحدى وستين وأربعمائة
قال ابن حيان وذكر المعتضد عباد بن محمد هلكت له بنت أثيرة لديه أبدى لها حزنا شديدا امتثله أهل مملكته في إظهاره وحضر خواصهم شهود جنازتها بداخل قصره عشية الجمعة غرة جمادى الأولى يعني من سنة إحدى وستين وأربعمائة فاستنفروا في تعزيته فلما انفضوا شكا ألماً برأسه من زكام ثقيل انصب عليه فهده وأحضر له طبيبه وقد ازداد قلعة وأنكر نفسه فغص عليه بهجمة من دمه وأشار بتسريح شيء منه فرأى تأخير ذلك إلى غد يومه وأمسى ليلة السبت وقضاء الله قد حاق به بخنق مزعج أغصه بريقه ومنعه الكلام فقضى نحبه يوم السبت وعلا النوح من قصره بحينه فلم ينكتم موته حينا لشهود خليفته وقائد جيوشه وحامل كلمته المرشح لمكانه محمد بن عباد المتسمي الظافر المؤيد بالله فاستقرت دولته ليومها وألقت مراسيها وقام في جهاز والده ومواراته فدفنه بداخل قصره وفي تربة أبيه القاضي محمد بن إسماعيل وتولى الصلاة عليه في جماعة الأشهاد من أهل مملكته وذلك عشي يوم الأحد لثلاث خلون من جمادى الأخيرة، وأفضى الأمر إلى ولده وهو في ريعان شبابه وكمال جماله ابن تسع وعشرين سنة وشهرين وأيام زائدة مولده في العشر الأخر من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وقال أبو بكر محمد بن أبي الوليد بن زيدون مولده سنة إحدى وثلاثين وكذلك قال أبو بكر بن اللبانة
قال ابن حيان وكانت سن عباد سبعا وخمسين سنة وثلاثة شهور وتسعة أيام تأقيتاً من مولده يوم الثلاثاء لسبع بقين من صفر سنة سبع وأربعمائة إلى وفاته يوم السبت لليلتين خلتا من جمادى الأخيرة ومدة إمارته منها من يوم بيعته بوفاة والده يوم الاثنين غرة جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين ثمان وعشرون سنة ويومان
ويحكى عن المعتضد خبر غريب في تطيره عند انصرام أيامه وبين يدي هجوم حمامه وهو انعقاد نيته على استحضار مغن يجعل ما يبتدئ به فألا في أمره وقد استشعر انقراض ملكه وحلول هلكه فأرسل في الصقلي المغني وكان قد قدم عهده به فأجلسه وأنسه وأمره بالغناء فغنى

غنى من ذلك خمسة أبيات ولخمسة أيام مات
وفي وفاة المعتضد عباد وقيام ابنه المعتمد محمد يقول أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري الكفيف
وكان المعتمد من الملوك الفضلاء والشجعان العقلاء والأجواد الأسخياء المأمونين عفيف السيف والذيل مخالفا لأبيه في القهر والسفك والأخذ بأدنى سعاية رد جماعة ممن نفى أبوه وسكن وما نفر وأحسن السيرة وملك فأسجح إلا أنه كان مولعا بالخمر منغمساً في اللذات عاكفاً على البطالة مخلداً إلى الراحة فكان ذلك سبب عطبه وأصل هلاكه، ومما يؤثر من فضائله ويعد في زهر مناقبه استعانته على الروم بملك المغرب حينئذٍ وهو يوسف بن تاشفين وسعيه في استقدامه وجده في ملاقاة الطاغية ملك النصارى والإيقاع به بالموضع المعروف بالزلاقة في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة وبدخول اللمتونيين إذ ذاك الأندلس تسببوا إلى خلعه مع معرفته بحسدهم له وانعكاس نصرهم إياه خذلاناً وقهراً وتنبيه وزرائه على ما كان منهم قبل استجاشتهم والاستنصار بهم فآثر الدين على الدنيا وأنف للإسلام من الاصطلام وتم فيه قضاء الله فخلعوه بعد حصاره مدة يوم الأحد لإحدى وعشرين ليلة خلت من رجب سنة أربع وثمانين واحتملوه وأهله إلى المغرب وأسكنوه أغمات وبها مات والمقدور كائن وكانت وفاته في شهرربيع الأول سنة ثمان وثمانين على حال يوحش سماعها فضلا عن مشاهدتها وهذا بعد أن خلع عن ثمانمائة امرأة أمهات الأولاد وجواري متعة وإماء تصرف ورزق من الناس حباً ورحمة فهم يبكونه إلى اليوم
وكان له في الأدب باع وسباع ينظم وينثر وفي أيامه نفقت سوق الأدباء فتسابقوا إليه وتهافتوا عليه وشعره مدون موجود بأيدي الناس ولم يك في ملوك الأندلس قبله أشعر منه ولا أوسع مادة وهو القائل في صباه بديهة وقد سمع الأذان لبعض الصلوات
وله يصف ترسا لازوردي اللون مطوقاً بالذهب في وسطه مسامير مذهبة ويقال إن أباه المعتضد أمره بوصفه فقال بديها
وله يستعطف أباه المعتضد لما فرط في أمر مالقة وخذله أصحابه فأخرج منها ولجأ إلى رندة فأقام بها مدة تحت موجدة أبيه
وذكر أبو بكر محمد بن عيسى بن محمد اللخمي الداني المعروف بابن اللبانة أن رجلا من أهل إشبيلية كان يحفظ هذا الشعر في ذلك الأمد ثم خرج منها لنية منه إلى أقصى حي في العرب فأوى إلى خيمة من خيماتهم ولاذ بذمة راع من رعاتهم فلما توسط القمر في بعض الليالي وهجع السامر تذكر الدولة العبادية ورونقها فطفق ينشد القصيدة بأحسن صوت وأشجاه فما أكملها حتى رفع رواق الخيمة التي أوى إليها عن رجل وسيم ضخم تدل سيما فضله على أنه سيد أهله قال يا حضري حياك الله لمن هذا الكلام الذي أعذوذب مورده واخضوضل منبته وتحلت بقلادة الحلاوة بكره وهدر بشقشقة الجزالة بكره فقال هو لملك من ملوك الأندلس يعرف بابن عباد فقال العربي أظن هذا الملك لم يكن له من الملك إلا حظ يسير ونصيب حقير ممثل هذا الشعر لا يقوله من شغل بشيء دونه فعرفه الرجل بعظم رئاسته ووصف له بعض جلالته فتعجب العربي من ذلك ثم قال وممن الملك إن كنت تعلم فقال الرجل هو في الصميم من لخم والذؤابة من يعرب فصرخ العربي صرخة أيقظ الحي بها من هجعته ثم قال هلموا هلموا فتبادر القوم إليه ينثالون عليه فقال معشر قومي اسمعوا ما سمعته وعوا ما وعيته فإنه لفخر طلبكم وشرف تلاصق بكم يا حضري أنشد كلمة ابن عمنا فأنشدهم القصيدة وعرفهم العربي بما عرفه الرجل به من نسب المعتمد فخامرتهم السراء وداخلتهم العزة وركبوا من طربهم متون الخيل وجعلوا يتلاعبون عليها باقي الليل فلما رسل الليل نسيمه وشق الصباح أوكاد أديمة عمد زعيم القوم إلى عشرين من الإبل فدفعها إلى الرجل وفعل الجميع مثل ما فعل فما كان رأد الضحى إلا وعنده هنيدة من الإبل ثم خلطوه بأنفسهم وجعلوه مقر سرورهم وتأنسهم
وللمعتمد أيضا يستعطف أباه المعتضد
وله في النسيب
وله
وله
وله
وناولته إحدى جواريه كأس بلور مترعة خمراً ولمع البرق فارتاعت فقال
وله ويغني به
وله فيها وضمن أوائل الأبيات حروف اسمها
وإليها يشير بقوله في رثاء ابنيه المأمون والراضي بعد خلعه
يعني ابنه سراج الدولة أبا عمرو عباد بن محمد قتيل ابن عكاشة بقرطبة وأبو خالد هو ابنه يزيد الملقب بالراضي وهو الذي قتله قرور اللمتوني غدراً برندة وأبو نصر هو ابنه الفتح الملقب بالمأمون وقتل أيضا بقرطبة في آخر دولتهم وإخوتهم أبو الحسين عبيد الله الملقب بالرشيد حمل مع أبيه إلى العدوة وأبو بكر عبد الله الملقب بالمعتد وأبو سليمان الربيع تاج الدولة وأبو هاشم المعلى زين الدولة وكلهم لجاريته هذه الحظية عنده الغالبة عليه اعتماد وهي أم الربيع وتعرف بالسيدة الكبرى وتلقب بالرميكية نسبة لمولاها رميك ابن حجاج ومنه ابتاعها المعتمد في أيام أبيه المعتضد وكان مفرط الميل إليها حتى تلقب بالمعتمد لينتظم اسمه حروف اسمها وهي التي أغرت سيدها بقتل أبي بكر ابن عمار لذكره إياها في هجائه المعتمد الذي أوله
يقول فيه
وهو شعر أقذع فيه وقد قيل إنه منحول إليه ومقول عل لسانه فالله أعلم
وتوفيت أم الربيع هذه بأغمات قبل المعتمد سيدها لم ترقأ لها عبرة ولا فارقتها حسرة حتى قضت أسفا وهلكت حزنا رحمها الله
ومحاسن المعتمد في أشعاره كثيرة وخصوصا مراثيه لأبنائه وثفجعه لزوال سلطانه وحكى أن بعض بني عباد أنشد في النوم قبل حلول الفاقرة بهم هذه الأبيات
وكذلك حكى أيضا عن آخر أنه رأى في منامه كأن رجلا صعد منبر جامع قرطبة واستقبل الناس ينشدهم
فلما سمع المعتمد ذلك أيقن أنه نعى لملكه وإعلام بما انتثر في سلكه فقال
ومنها في ذكر مدة إمارتهم
وكان ملك بني عباد ثلاثاً وسبعين سنة للمعتمد منها ثلاث وعشرون
وله
وله
وعلى هذه الحال من الاعتقال كان الشعراء ينتجعونه ويمتدحونه فيصل بما لديه من يفد عليه أو يوجه بشعره إليه وتعرض له أبو الحسن الحصري في طريقه إلى أغمات بعد القبض عليه بشعر يمدحه فيه فوجه إليه بستة وثلاثين مثقالا لم يكن عنده سواها وأدرج قطعة شعر طيها معتذراً من قلتها وتسامع الشعراء بذلك فقصدوه من كل ناحية فقال
وله في الزهد
أبناء المعتمد رحمه الله

  • دار المعارف، القاهرة - مصر-ط 2( 1985) , ج: 2- ص: 2