المعتمد ابن عباد محمد بن عباد بن محمد بن اسماعيل اللخمي، ابو القاسم، المعتمد على الله: صاحب اشبيلية وقرطبة وما حولها، واحد افراد الدهر شجاعة وحزما وضبطا للامور. ولد في باجة (بالاندلس) وولي اشبيلية بعد وفاة ابيه (سنة 461هـ) وامتاك قرطبة وكثيرا من المملكة الاندلسية، واتسع سلطانه إلى ان بلغ مدينة مرسية (وكانت تعرف بتدمير) واصبح محط الرحال، يقصده العلماء والشعراء والامراء، وما كان يجتمع في بابه من اعيان الادب. وكان فصيحا شاعرا وكاتبا مترسلا، بديع التوقيع، له (ديوان شعر -ط). ولم يزل في صفاء ودعه إلى سنة 478هـ. وفيها استوللا ملك الروم (الا1ذفونش) الفونس السادس على (طليطلة) وكان ملوك الطوائف، وكبيرهم المعتمد ابن عباد، يؤدون للاذفونش ضريبة المعتمد، وارسل اليه يهدده ويدعوه إلى النزول له عما في يده من الحصون. فكتب المعتمد إلى يوسف بن تاشفين (صاحب مراكش) يستنجده، والي ملوك الاندلس يستثير عزائمهم. ونشبت (سنة 479هـ) المعركة المعروفة بوقعة (الزلاقة) فانهزم الاذفونش (الفونس) بعد ان ابيد اكثر عساكره. قال ابن خلكان: وثبت المعتمد في ذلك اليوم ثباتا عظيما واصابه عدة جراحت في وجهه وبدنه وشهد له بالشجاعة. وعاد ابن تاشفين بعد ذك إلى مراكش، وقد اعجب بما رأي في بلاد الاندلس من حضارة وعمران. وزارها بعد عام، فاحسن المعتمد استقباله. وعاد. وثارت فتنةو في قرطبة (سنة 483) قتل فيها ابن للمعتمد، وفتنة ثانية في اشبيليبة اطفأ المعتمد نارها، فخمدت. ثم اتقدت، وظهر من روائها جيش يقوده (سير بن ابي بكر الاندلسي) من قواد جيش (ابن تاشفين) وحوصر المعتمد في اشبيلية، قال ابن خلكان: (وظهر من مصابرة المعتمد وشدة باسه وتراميه على الموت بنفسه ما لم يسمع بمثله) واستولى الفزع على أهل اشبيلية وتفرقت جموع المعتمد، وقتل والداه (المأمون) و (الراضي) وفت في عضده، فادكته الخيل، فدخل القصر، مستسلما للاسر (سنة484) وحمل مقيدا، مع اهله، على سفيتة. ودخل على ابن تاشفين، في مراكشـ فامر بارساله ومن معه إلى اغمات Agmat وهي بلدة صغيرة وراء مراكش. وللشعراء في اعتقاله وزوال ملكه قصائد كثيرة. وبقي في اغمات إلى ان مات. وهو آخر ملوك الدولة العبادية.
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 6- ص: 181
المعتمد بن عباد محمد بن عباد بن إسماعيل أبو القسم المعتمد ابن المعتضد ملكا الأندلس، ولد محمد بمدينة باجة سنة إحدى وثلثين أربع ماية، وولى الملك سنة إحدى وستين بإشبيلية فقام به أحسن قيام واهتم به أتم اهتمام، عدل في الرعية وأنصفهم وانتجعه الفضلاء ومدحه الشعراء، أولاده يزيد يلقب الراضي وهو فاضل له شعر وعبد الله والفتح وكلهم فضلاء شعراء قتل يزيد بين يديه يوم الوقعة، ومن وزرايه ابن زيدون وابن عمار، وللمعتمد شعر جيد في الذروة، منه:
أكثر هجرك غير أنك ربما | عطفتك أحيانا علي أمور |
فكأنما زمن التهاجر بيننا | ليل وساعات الوصال بدور |
أسفر ضوء الصبح عن وجهه | فقام خال الخد فيه بلال |
كأنما الخال على خده | ساعة هجر في زمان الوصال |
ولما وقفنا للوداع غدية | وقد خفقت في ساحة القصر رايات |
بكينا دما حتى كأن عيوننا | بجري الدموع الحمر منها جراحات |
قالت لقد هنا هنا | مولاي أين جاهنا |
قلت لها إلى هنا | صيرنا إلهنا |
وعاد كونك في دكان قارعة | من بعدما كنت في قصر حكى إرما |
صرفت في آلة الصياغ أنملة | لم تدر إلا الندى والسيف والقلما |
يد عهدتك للتقبيل تبسطها | فأستقل الثريا أن تكون فما |
يا صايغا كانت العليا تصاغ له | حليا وكان عليه الحلي منتظما |
للنفخ في الصور هول ما حكاه سوى | هول رأيتك فيه تنفخ الفحما |
وددت إذ نظرت عيني إليك به | لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى |
لح في العلى كوكبا إن لم تلح قمرا | وقم بها ربوة إن لم تقم علما |
والله لو أنصفتك الشهب لا نكسفت | ولو وفى ذلك دمع الغيث لانسجما |
وعسى الليالي أن تمن بنظمنا | عقدا كما كنا عليه وأجملا |
ولربما نثر الجمان تعمدا | ليعود أحسن في النظام وأكملا |
تبدلت من ظل عز البنود | بذل الحديد وثقل القيود |
وكان حديدي سنانا زليقا | وعضبا رقيقا صقيل الحديد |
وقد صار ذاك وذا أدهما | يعض بساقي عض الأسود |
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا | فساءك العيد في أغمات مأسورا |
ترى بناتك في الأطمار جايعة | يغزلن للناس ما يملكن قطميرا |
يطأن في الطين والأقدام حافية | كأنها لم تطأ مسكا وكافورا |
قيدي أما تعلمني مسلما | أبيت أن تشفق أو ترحما |
دمي شراب لك واللحم قد | أكلته لا تهشم الأعظما |
إرحم طفيلا طايشا لبه | لم يخش أن يأتيك مسترحما |
وارحم أخيات له مثله | جرعتهن السم والعلقما |
لكل شيء من الأشياء ميقات | وللمنى من مناياهن غايات |
أنفض يديك من الدنيا وزخرفها | فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا |
وقل لعالمها العلوي قد كتمت | سريرة العلم الأرضي أغمات |
تنشق رياحين السلام فإنما | أفض بها مسكا عليك مختما |
أفكر في عصر مضى لك مشرقا | فيرجع ضوء الصبح عندي مظلما |
وأعجب من أفق المجرة إذ رأى | كسوفك شمسا كيف أطلع أنجما |
قناة سعت للطعن حتى تقصدت | وسيف أطال الضرب حتى تثلما |
حبيب إلى قلبي حبيب وقوله: | عسى وطن يدنو بهم ولعلما |
حكيت وقد فارقت ملكك مالكا | ومن ولهي أحكي عليك متمما |
تضيق علي الأرض حتى كأنما | خلقت وإياها سوارا ومعصما |
ندبتك حتى لم يخل لي الأسى | دموعا بها أبكي عليك ولا دما |
بكاك الحيا والريح شقت جيوبها | عليك وناح الرعد باسمك معلما |
ومزق ثوب البرق واكتسب الدجى | حدادا وقامت أنجم الجو مأتما |
قضى الله أن خطوك عن ظهر أشقر | أشم وأن أمطوك أشأم أدهما |
قيودك ذابت فانطلقت لقد غدت | قيودك منهم بالمكارم أرحما |
عجبت لأن لان الحديد وقد قسوا | لقد كان منهم بالسريرة أعلما |
ينجيك من نجى من الجب يوسفا | ويؤومك من آوى المسيح بن مريما |
تبكي السماء بمزن رايح غادي | على البهاليل من أبناء عباد |
عريسة دخلتها النايبات على | أساود منهم فيها وآساد |
وكعبة كانت الآمال تخدمها | فاليوم لا عاكف فيها ولا باد |
يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخذ | في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد |
ويا مؤمل واديهم ليسكنه | خف القطين وجف الزرع بالوادي |
ملك الملوك أسامع فأنادي | أم قد عدتك عن السماع عوادي |
لما نقلت عن القصور ولم تكن | فيها كما قد كنت في الأعياد |
قبلت في هذا الثرى لك خاضعا | وجعلت قبرك موضع الإنشاد |
مات عباد ولكن | بقي النجل الكريم |
فكأن الحي ميت | غير أن الضاد ميم |
ثناؤك ليس تسبقه الرياح | يطير ومن نداك له جناح |
لقد حسنت بك الدنيا وشبت | فأضحت وهي ناعمة رداح |
ثناؤك في طلاها حلي در | وفي أعطافها منه وشاح |
تطيب بذكرك الأفواه حتى | كأن رضابها مسك وراح |
يا دوحة بظلالها أتفيأ | بلا معقلا آوي إليه وألجأ |
رمدت جفوني مذ حللت هنا ولو | كحلت برؤيتكم لكانت تبرأ |
فخبئت عنك وإنما أنا جوهر | في طي أصداف الحوادث أخبأ |
لم أخترع فيك المديح وإنما | من بحرك الفياض هذا اللؤلؤ |
أما بنو عبد الحميد فإنهم | زهر وأنت هلالها المتلأليء |
فخر الزمان بنا لأنك حاتم | في جوده ولأنني المتنبيء |
من ولي في أمة أمرا ولم يعدل | يعزل إلا لحاظ الرشإ الأكحل |
جرت في حكمك | في قتلي يا مسرف |
فانصف فواجب | أن ينصف المنصف |
وارأف فإن هذا | الشوق لا يرأف |
علل قلبي بذاك البارد السلسل | ينجلي ما بفؤادي من جوى مشعل |
إنما يبرد كي | يوقد نار الفتن |
كيف لي تخلص من سهمك المرسل=فصل واستبقني حيا | ولا تقتل |
يا سنا الشمس | ويا أسنى من الكوكب |
يا منى النفس | ويا سولي ويا مطلبي |
هأنا حل | بأعدايك ما حل بي |
عذلي من ألم الهجران في معزل=والخلي في الحب | لا يسأل عمن بلي |
أنت قد صيرت | بالحسن من الرشد غي |
لم أجد | في طرفي حبيك دينا علي |
فاتئد | وإن تشا قتلي شيئا فشي |
أجمل ووالني منك ندى المفضل=فهي لي | من حسنات الزمن المقبل |
ما اغتذى | طرفي إلا بسنا ناظريك |
وكذا في الحب | ما بي ليس يخفى عليك |
ولذا أنشد | والقلب رهين لديك |
يا علي سلطت جفنيك على مقتلي=فابق لي | قلبي وجد بالفضل يا موئلي |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 3- ص: 0
ابن عباد المعتمد على الله اسمه محمد بن عباد.
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 16- ص: 0
المعتمد بن عباد صاحب الأندلس، المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن الملك المعتضد بالله أبي عمرو، عباد بن الظافر بالله أبي القاسم، قاضي إشبيلية، ثم ملكها، محمد بن إسماعيل بن قريش اللخمي.
قيل: هو من ذرية النعمان بن المنذر صاحب الحيرة.
حكم المعتمد على المدينتين قرطبة وإشبيلية، وأصلهم من الشام من بلد العريش، فدخل أبو الوليد إسماعيل بن قريش إلى الأندلس، ثم برع القاضي في الفقه، وولي القضاء، ثم تملك مدة، وقام من بعده ابنه المعتضد، فساس المملكة بإشبيلية، وبايعوه بالملك في سنة ثلاث وثلاثين وأربع مائة.
وكان شهما، صارما، داهية، ذبح جماعة من أعوان أبيه، وصادرهم، وعلا شأنه، ودانت له الأمم.
غرز خشبا في قصره، وعممها برؤوس كبار وملوك، وكانوا يشبهونه بالمنصور العباسي، ورام ابنه إسماعيل اغتياله، فأخذه، وضرب عنقه، وعهد إلى ابنه المعتمد.
قيل: سمه طاغية الفرنج في ثوب فاخر، أهداه له.
ومن جبروته وعتوه أنه أخذ مالا لأعمى، فهج وجاور بمكة، فبلغ المعتضد أنه يدعو عليه، فندب رجلا أعطاه جملة دنانير مطلية بسم، فسار إلى مكة، وأوصله الذهب، فقال: يظلمني بإشبيلية، ويصلني هنا؟! ثم وضع منها دينارا في فمه كعادة الأضراء، فمات من الغد.
وهرب منه مؤذن إلى طليطلة، فبقي يدعو عليه في السحر، فنفذ من جاءه برأسه.
وقد سكر ليلة، وخرج في الليل معه غلام، وسار مخمورا، حتى وافى قرمونه، وصاحبها إسحاق البرزال، وبينهما حروب، وكان يشرب أيضا في جماعة، فاستأذن المعتضد، ودخل، فزاد تعجبهم، فسلم وأكل، وأل من سكره، وسقط في يده، لكنه تجلد، ثم قال: أريد أن أنام، ففرشوا له، فتناوم، فقال بعضهم: هذا كبش سمين، والله لو أنفقتم ملك الأندلس عليه ما قدرتم، فقال معاذ بن أبي قرة: كلا، رجل قصدنا، ونزل بنا مستأمنا، لا تتحدث عنا القبائل أنا قتلنا ضيفنا، ثم انتبه وقام، فقبلوا رأسه، وقال للحاجب: أين نحن؟ قال: بين أهلك وإخوانك. قال: هاتوا دواة، فكتب لكل منهم بخلعة ومال وأفراس وخدم، وأخذ معه غلمانهم لقبض ذلك، وركب، فمشوا في خدمته. لكن أساء كل الإساءة؛ طلبهم بعد أشهر لوليمة، فأتاه ستون منهم، فأكرمهم، وأنزلهم حماما، وطينه عليهم سوى معاذ، وقال لمعاذ: لم ترع، حضرت آجالهم، ولولاك، لقتلوني، فإن أردت أن أقاسمك ملكي، فعلت، قال: بل أقيم عندك، وإلا بأي وجه أرجع، وقد قتلت سادات بني برزال، فصيره من كبار قواده، وكان من كبار قواد المعتمد.
وحكى عبد الواحد بن علي في ’’تاريخه’’ أن المعتضد ادعى أنه وقع إليه المؤيد بالله هشام بن الحكم المرواني، فخطب له مدة بالخلافة، وحمله على تدبير هذه الحيلة اضطراب أهل إشبيلية عليه؛ أنفوا من بقائهم بلا خليفة، وبلغه أنهم يتطلبون أمويا، فقال: فالمؤيد عندي، وشهد له جماعة بذلك، وأنه كالحاجب له، وأمر بالدعاء له في الجمع، ودام إلى أن نعاه للناس سنة خمس وخمسين وأربع مائة، وادعى أنه عهد إليه بالخلافة.
وهذا هذيان، والمؤيد هلك سنة نيف وأربع مائة، ولو كان بقي إلى هذا الوقت، لكان ابن مائة سنة وسنة.
هلك المعتضد سنة أربع وستين، وأربع مائة.
وخلفه المعتمد صاحب الترجمة، فكان فارسا شجاعا، عالما أديبا، ذكيا شاعرا، محسنا جوادا ممدحا، كبير الشأن، خيرا من أبيه. كان أندى الملوك راحة، وأرحبهم ساحة، كان بابه محط الرحال، وكعبة الآمال.
قال أبو بكر محمد بن اللبانة الشاعر: ملك المعتمد من مسورات البلاد مائتي مسور، وولد له مائة وثلاثة وسبعون ولدا، وكان لمطبخه في اليوم ثمانية قناطير لحم، وكتابه ثمانية عشر.
قال ابن خلكان: كان الأذفونش قد قوي أمره، وكانت الملوك بالأندلس يصالحونه، ويحملون إليه ضرائب، وأخذ طليطلة في سنة ثمان وسبعين بعد حصار شديد، من القادر بن ذي النون، فكان ذلك أول وهن دخل من الفرنج على المسلمين، وكان المعتمد يؤدي إليه، فلما تمكن، لم يقبل الضريبة، وتهدده، وطلب منه أن يسلم حصونا، فضرب الرسول، وقتل من معه، فتحرك اللعين، واجتمع العلماء، واتفقوا على أن يكاتبوا الأمير أبا يعقوب بن تاشفين صاحب مراكش لينجدهم، فعبر ابن تاشفين بجيوشه إلى الجزيرة، ثم اجتمع بالمعتمد، وأقبلت المطوعة من النواحي، وركب الأذفونش في أربعين ألف فارس، وكتب إلى ابن تاشفين يتهدده، فكتب في ظهر كتابه: الذي يكون ستراه. ثم التقى الجمعان، واصطدم الجبلان بالزلاقة من أرض بطليوس، فانهزم الكلب، واستؤصل جمعه، وقل من نجا، في رمضان سنة تسع وسبعين، وجرح المعتمد في بدنه ووجهه، وشهد له بالشجاعة والإقدام، وغنم المسلمون ما لا يوصف. وغدا ابن تاشفين.
ثم عبر في العام الآتي، وتلقاه المعتمد، وحاصرا حصنا للفرنج، وترجل ابن تاشفين، فمر بغرناطة، فأخرج إليه صاحبها ابن بلكين تقادم وهدايا، وتلقاه، فغدر به، واستولى على قصره، ورجع إلى مراكش، وقد بهره حسن الأندلس وبساتينها، وحسن له أمراؤه أخذها، ووحشوا قلبه على المعتمد.
قال عبد الواحد بن علي: غلب المعتمد على قرطبة في سنة ’’471’’، فأخرج منها ابن عكاشة، إلى أن قال: وجال ابن تاشفين في الأندلس يتفرج، مضمرا أشياء، معظما للمعتمد، ويقول: نحن أضيافه وتحت أمره، ثم قرر ابن تاشفين خلقا من المرابطين يقيمون بالأندلس، وأحب الأندلسيون ابن تاشفين، ودعوا له، وجعل عندهم بلجين قرابته، وقرر معه أمورا، فهاجت الفتنة بالأندلس في سنة ثلاث وثمانين، وزحف المرابطون، فحاصروا حصونا للمعتمد، وأخذوا بعضها، وقتلوا ولده المأمون في سنة أربع، فاستحكمت الإحنة،
وغلت مراجل الفتنة، ثم حاصروا إشبيلية أشد حصار، وظهر من بأس المعتمد وتراميه على الاستشهاد ما لم يسمع بمثله. وفي رجب سنة أربع، هجم المرابطون على البلد، وشنوا الغارات، وخرج الناس عرايا، وأسروا المعتمد.
قال عبد الواحد: برز المعتمد من قصره في غلالة بلا درع ولا درقة، وبيده سيفه، فرماه فارس بحربة أصاب الغلالة، وضرب الفارس فتله، فولت المرابطون. ثم وقت العصر، كرت البربر، وظهروا على البلد من واديه، ورموا فيه النار، فانقطع العمل، واتسع الخرق على الراقع بقدوم سير ابن أخي السلطان، ولم يترك البربر لأهل البلد شيئا، ونهبت قصور المعتمد، وأكره على أن كتب إلى ولديه أن يسلما الحصنين، وإلا قتلت، فدمي رهن على ذلك، وهما المعتد، والراضي، وكانا في رندة ومارتلة، فنزلا بأمان ومواثيق كاذبة، فقتلوا المعتد، وقتلوا الراضي غيلة، ومضوا بالمعتمد وآله إلى طنجة بعد أن أفقروهم، ثم سجن بأغمات عامين وزيادة، في قلة وذل، فقال:
تبدلت من ظل عز البنود | بذل الحديد وثقل القيود |
وكان حديدي سنانا ذليقا | وعضبا رقيقا صقيل الحديد |
وقد صار ذاك وذا أدهما | يعض بساقي عض الأسود |
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا | فساءك العيد في أغمات مأسورا |
ترى بناتك في الأطمار جائعة | يغزلن للناس ما يملكن قطميرا |
برزن نحوك للتسليم خاشعة | أبصارهن حسيرات مكاسيرا |
يطأن في الطين والأقدام حافية | كأنها لم تطأ مسكا وكافورا |
قد رمت يوم نزالهم | أن لا تحصنني الدروع |
وبرزت ليس سوى القمي | ص عن الحشا شيء دفوع |
أجلي تأخر لم يكن | بهواي ذلي والخشوع |
ما سرت قط إلى القتا | ل وكان في أملي رجوع |
تنشق رياحين السلام فإنما | أفض بها مسكا عليك مختما |
وقل لي مجازا إن عدمت حقيقة | بأنك في نعمى فقد كنت منعما |
أفكر في عصر مضى لك مشرقا | فيرجع ضوء الصبح عندي مظلما |
وأعجب من أفق المجرة إذ رأى | كسوفك شمسا كيف أطلع أنجما |
قناة سعت للطعن حتى تقصدت | وسيف أطال الضرب حتى تثلما |
بكى آل عباد ولا كمحمد | وأبنائه صوب الغمامة إذ هما |
صباحهم كنا به نحمد السرى | فلما عدمناهم سرينا على عمى |
وكنا رعينا العز حول حماهم | فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى |
وقد ألبست أيدي الليالي محلهم | مناسيج سدى الغيث فيها وألحما |
قصور خلت من ساكنيها فما بها | سوى الأدم يمشي حول واقفة الدمى |
كأن لم يكن فيها أنيس ولا التقى | بها الوفد جمعا والخميس عرمرما |
فكنت وقد فارقت ملكك مالكا | ومن ولهي أبكي عليك متمما |
تضيق علي الأرض حتى كأنني | خلقت وإياها سوارا ومعصما |
وإني على رسمي مقيم فإن أمت | سأجعل للباكين رسمي موسما |
بكاك الحيا والريح شقت جيوبها | عليك وناح الرعد باسمك معلما |
ومزق ثوب البرق واكتست الضحى | حدادا وقامت أنجم الليل مأتما |
ولا حل بدر التم بعدك دارة | ولا أظهرت شمس الظهيرة مبسما |
سينجيك من نجى من الجب يوسفا | ويؤويك من آوى المسيح ابن مريما |
دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 14- ص: 126
المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن عباد
ملك قمع العدا وجمع الناس والندا وطلع على الدنيا بدر هدى لم يتعطل يوما كفه ولا بنانه اونة يراعه واونة سنانه وكانت أيامه مواسم وثغور برة بواسم ولياليه كلها دررا وللزمان أحجالا وغررا لم يغفلها من سمات عوارف ولم يضحها من ظل إيناس وارف ولا عطلها من ماثرة بقي أثرها باديا ولقي معتفيه منها إلى الفضل هاديا وكانت حضرته مطمحا للهمم ومسرحا لآمال الأمم وموقفا لكل كمي ومقذفا لذي انف حمي لم تخل من وفد ولم يصح جوها من انسجام رفد فاجتمع تحت لوآيه من جماهير الكماة ومشاهير الحماة أعداد يغص بهم الفضا وأنجاد يزهى بهم النفوذ والمضا وطلع في سمائه كل نجم متقد وكل ذي فهم منتقد فأصبحت حضرته ميدانا لرهان الأذهان وغاية لرمي هدف البيان ومضمارا لإحراز خصل في كل معنى وفصل فلم يرتسم في زمامه إلا بطل نجد ولم يتسق في نظامه إلا ذكاء ومجد فأصبح عصره أجمل عصر وغدا مصره أكل مصر تسفح فيه ديم الكريم ويفصح فيه لسانا سيف وقلم ويفضح الرضى في وصفه ايام ذي سلم وكان قومه وبنوه لتلك الحلبة زينا ولتلك الجملة عينا عن ركبوا خلت الأرض فلكا بجمل نجوما وإن وهبوا رأيت الغمام سجوما وإن أقدموا أحجم عنترة العبسي وإن فخروا أقصر عرابة الأوسي ثم انحرفت الأيام فالوت بإشراقه وأذوت يانع ايراقه فلم يدفع الرمح ولا الحسام ولم تنفع تلك المنن الجسام فتملك بعد الملك وحط من فلكه إلى الفلك فأصبح خايضا تحدوه الرياح وناهضا يزجيه البكا والنياح، وقد ضجت عليه أياديه، وارتجت لاجوانب ناديه، وأضحت منازله قد بان عنها الأنس والحبور، وألوت بهجتها الصبا والدبور، فبكت العيون عليه دما، وعاد موجود الحيوة عدما، وصار أحرار الدهر فيه خدما، فسحقا لدنيا ما رعت حقوقه، ولا أبقت شروقه، فكم أحياها لبنيها، وأبداها رائقة لمجتليها، وهي الأيام لا تقي من تجنيها، ولا تبقي على مواليها، أدثرت آثار جلق، وأخمدت نار المحلق، وذللت عزة عاد بن شداد، وهدت القصر ذا الشرفات من سنداد، ونعت ببوس النعمان، وأكمنت غدرها له في طلب الأمان، وقد أثبت من نظمه العذب الجنى، الرائق السنا، الفائق اللفظ والمعنى، ما يمتزج بالنفوس والقلوب، ويتارج به مسرى الصبا والجنوب، وذكرت أثناءه من مآثره المخترعة ومفاخره، ومشاهده المستبدعة ومحاضره، ما يهون الدنيا وزخرفها، ويلين تقلبها وتصرفها، أخبرني ذو الوزارتين أبو بكر بن القصيرة أنه كان بغرفة القصر المكرم مقيما لرسوم المعتمد وحدوده، منشأ لمخاطباته وعهوده، في اليوم الذي خرج فيه ابن عمار إلى شلب معه مفتقدا لأعمالها، مسددا أغراض عمالها، إذ طلع إليه الوزير الأجل أبو بكر بن زيدون منشرح المحيا، متضح العليا، يتهلل بشرا، ويتخيل أنه المسك نشرا، وقال لما خرج ابن عمار إلى شلب ثار للمتعمد هيامه القديم وكلفه، وتجدد له معلقه بها ومالفه، فإنه عمرها في ظل صباه، وفرع بها هضاب السرور ورباه، وبرد عمر قشيب، وشبابه غض لم يرعه مشيب، ايام ولاه المعتضد بالله أمرها، وأدارت عليه الغرارة خمرها، فقال مرتجلا، وابن عمار بالانحفاز له: "طويل"
ألا حي أوطاني بشلب أبا بكر | وسلهن هل عهد الوصال كما أدري |
وسلم على قصر الشراجيب عن فتى | له أبدا شوق إلى ذلك القصر |
منازل آساد وبيض نواعم | فناهيك عن غيل وناهيك من حذر |
وكم ليلة قد بت أنعم جنحها | بمخصبة الأرداف مجذبة الخصر |
وبيض وسمر فاعلات بمهجتي | فعال الصفاح البيض والاسل المسر |
وليل بسد النهر لهوا قطعته | بذات سوار مثل منعطف البدر |
نصت بردها عن غصن بان منعم | نصيركما انشق الكمام عن الزهر |
وأخبرني ذخر الدولة ابن المعتضد أنه دخل عليه في ليلة قد ثنى السرور منامها، وامتطى الحبور غاربها وسنامها، وراع الأنس فوادها، وستر بياض الأماني سوادها، وغازل نسيم الروض زوارها وعوادها، ونور السرج قد قلص أذيالها، ومحا من لجين الأرض نبالها، والمجلس مكتس بالمعالي، وصوت المثاني والمثالث عال، والبدر قد كمل، والتحف بضوءه القصر واشتمل، وتزين بسناه وتجمل، فقال: "كامل"
ولقد شربت الراح يسطع نورها | والليل قد مد الظلام رداء |
حتى تبدى البدر في جوزائه | ملكا تناهى بهجة وبهاء |
لما أراد تنزها في غربه | جعل المظلة فوقه الجوزاء |
وتناهضت زهر النجوم يحفه | لألآؤها فاستكمل الآلآء |
وترى الكواكب كالمواكب حوله | رفعت ثرياها عليه لواء |
وحكيته في الأرض بين مواكب | وكواعب جمعت سنا وسناء |
إن نشرت تلك الدروع حنادسا | ملأت لنا هذي الكؤس ضياء |
وإذا تغنت هذه في مزهر | لم تال تلك على التريك غناء |
وأخبرني أبو بكر بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة أنه استدعاه ليلة إلى مجلس قد كساه الروض وشيه، وامتثل الدهر أمره فيه ونهيه، فسقاه الساقي وحياه، وسفر له الأنس عن مؤنق محياه، فقام للمعتمد مادحا، وعلى دوحة تلك النعماء صادحا، فاستجاد قوله، وأفاض عليه طوله، فصدر وقد امتلأت يداه، وغمره جوده ونداه، فلما حل بمنزلة وافاه رسوله بقطيع وكاس من بلار، وقد اترع بصرف العقار، ومعهما: "كامل"
جاءتك ليلا في ثياب نهار | من نورها وغلالة البلار |
كالمشتري قد لق من مريخه | غذ لفه في الماء جذوة نار |
لطف الجمود لذا وذا فتألفا | لم يلق ضد ضده بنفار |
يتحير الراءون في نعتيهما | أصفاء ماء أم صفاء دراري |
وأخبرني ابن إقبال الدولة ابن مجاهد أنه كان عنده في يوم قد نشر من غيمه رداء ند، واسكب من قطرة ماء ورد، وأبدى من برقة لسان نار، وأظهر من قوس قزحه حنايا آس حفت بنرجس وجلنار، والروض قد نفث رياه، وبث الشكر لسقياه، فكتب إلى الطبيب أبي محمد المصري: "خفيف"
أيها الصاحب الذي فارقت عي | ني ونفسي منه السنا والسناء |
نحن في المجلس الذي يهب الرا | حة والسمع والغنا والغناء |
نتعاطى التي تسمى من الل | ذة والرقة الهوى والهواء |
فأته تلف راحة ومحيا | قد أعدا لك الحيا والحياء |
فوافاه والفى مجلسه قد اتعلت أباريقه أجيادها، وأقامت به خيل السرور طرادها، وأعطته الأماني انطباعها وانقيادها، وأهدت الدنيا ليومه مواسمها وأعيادها، وخلعت عليه الشمس شعاعها، ونشرت فيه الحدائق إيناعها، فأديرت الراح، وتعوطيت الأقداح، وخامر النفوس الابتهاج والارتياح، وأظهر المتعهد في إيناسه، ما استرق به نفوس جلاسه، ثم دعا بكبير، فشربه كالشمس غربت في ثبير، وعندما تناولها قام المصري ينشد أبياتا تمثلها: "بسيط"
أشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا | بشاذ مهر ودع غمدان لليمن |
فأنت اولى بتاج الملك تلبسه | من هوذة بن علي وابن ذي يزن |
فطرب حتى زحف من مجلسه، وأسرف في تأنسه، وأمر فخلعت عليه ثياب لا تصلح إلا للخلفاء، وأدناه حتى أجلسه مجلس الأكفاء، وأمر له بدنانير عددا، وملأ بالمواهب منه يدا، وكان مجلس ذي الوزارتين أبي الوليد بن زيدون منحطا عنة مجلسه في القعود لإنفاذ أوامر أبيه المعتضد فكتب إلا للخلفاء، وأدناه حتى أجلسه مجلس الأكفاء، وأمر له بدنانير عددا، وملأ بالمواهب منه يدا، وكان مجلس ذي الوزارتين أبي الوليد بن زيدون منحطا عنة مجلسه في القعود لإنفاذ أوامر أبيه المعتضد فكتب إليه: "رمل"
أيها المنحط عني مجلسا | وله في النفس أعلا مجلس |
بفؤادي لك حب يقتضي | أن ترى تحمل فوق الأرؤس |
فكتب إليه ابن زيدون مراجعا: "رمل"
أسقيط الطل فوق النرجس | ام نسيم الروض تحت الحندس |
أم قريض جاءني من ملك | مالك بالبررق الأنفس |
يا جمال الموكب الغادي إذا | سار فيه يا بهاء المجلس |
شرفت بكر المعالي خطبه | بك فأنعم بسرور المعرس |
وارتشف معسول ثغر أشنب | تجتنيه من مجاج العس |
واغتبق بالسعد في دست المنى | يصبح الصنع دهاق الأكوس |
فاعتراض الدهر في ماشيته | مرتقى في صدره لم يهجس |
وله في ظلام رأه يوم العروبة من ثنيات الوغا طالعا، ولطلا الأبطال قارعا، وفي الدماء والغا، ولمستشبع كؤس المنايا سائغا، وهو ظبي قد فارق كناسه، وعاد أسدا صارت الفتى أخياسه، ومتكاثف قد مزقه إشراقه، وقلوب الدارعين قد شكتها أحداقه، فقال:
أبصرت طرفك بين مشتجر القنى | فبدا لطرفي انه فلك |
أو ليس وجهك فوقه قمرا | يجلى بنير نوره الحلك |
وله فيه: "متقارب"
ولما اقتحمت الوغا دارعا | وقنعت وجهك بالمغفر |
حسبنا محياك شمس الضحى | عليها سحاب من العنبر |
وتوجه اليد الوزير أبو الإصبع بن أرقم رسولا عن المعتصم ومعه الوزير أبو عبيد البكري والقاضي أبو بكر بن صاحب الأحباس فلما دنا من حضرته واقترب، وبات منها على قرب، معتقدا حلولها فجر أو ضحاه، معتمدا مشاهدة فطر ذلك اليوم أو اضحاه، بادر بالإعلام، وكتب إليه على عادة الإعلام، شعرا منه: "بسيط"
يا ملكا عظمته العرب والعجم | وواحدا وهو في أثوابه أمم |
إنا وردناك والأقطار مظلمة | والبدر يرجى إذا ما التخت الظلم |
فكتب إليه رحمه الله: بسيط
أهلا بكم صحبتكم نحوي الديم | إن كان لم يتبجح لي بكم حلم |
حثوا المطي ولو ليلا بمجهلة | فلن تصلوا ومن بشري لكم علم |
لأنتم القوم إن خطوا يجد قلم | وإن يقولوا يصيب فصل الخطاب فم |
لاعي إن رقموا كتبا ولا حصر | إذ ينتدون ولا جور إذا حكموا |
أقدم أبا الإصبع المودود تلق فتى | هش المودة لا يزري به سأم |
هذا فؤادي قد طار السرور به | إن كنت تنقلك الوخادة الرسم |
سأكتم الليل ما ألقاه من بعد | وأسئل الصبح عنكم حين يبتسم |
وأخبرني ذخر الدولة أنه استدعاه في ليلة قد ألبسها البدر رداءة، وأوقد فيها أضواءه، وهو على البحيرة الكبرى، والنجوم قد انعكست فيها تخالها زهرا، وقابلتها المجرة فسالت فيها نهرا، وقد ارجت نوافح الند، وماست معاطف الرند، وحسد النسيم الروض فوشى باسراره، وأفشى أحاديث آسه وعراره، ومشى مختالا بين لبات النور وأزراره، وهو وجم، ودمعه منسجم، وزفراته تترجم عن غرام، وتجمجم عن تعذر مرام، فلما نظر إليه استدناه وقربه، وشكا إليه من الهجران ما استغربه، وأنشد: متقارب
أيا نفس لا تجزعي واصبري | وإلا فإن الهوى متلف |
حبيب جفاك وقلب عصاك | ولاح لحاك ولا ينصف |
شجون منعن الجفون الكرى | وعوضها أدمعا تنزف |
فانصرف ولم يعلمه بقصته، ولا كشف له عن غصته، وأخبرني أنه دخل عليه في دار المزينة والزهر يحسد أشراق مجلسه، والدر يحكى اتساق تأنسه، وقد رددت الطير شدوها، وجددت طربها وشجوها، والغصون قد التحفت بسندسها، والأزهار تحيي بطيب تنفسها، والنسيم يلم بها فتضعه بين أجفانها، وتودعه أحاديث أذارها ونيسانها، وبين يديه فتى من فتيانه يتثنى تثني القضيب، ويحمل الكاس في راحة أبهى من الكف الخضيب، وقد توشح وكان الثريا وشاحه، وأنار فكان الصبح من محياه كان اتضاحه، فكلما ناوله الكاس خامره سورة، وتخيل أن الشمس تهديه نوره، فقال المعتمد: منسرح
لله ساق مهفهف غنج | قام ليسقي فجاء بالعجب |
أهدى لنا من لطيف حكمته | في جامد الماء ذائب الذهب |
ولما وصل لورقة استدعى ذا الوزارتين القائد ابا الحسن بن اليسع ليلته تلك في وقت لم يخف فيه زائر من مراقب، ولم يبد فيع غير نجم كثاقب، فوصل وما للأمن إلى فؤاده من وصول، وهو يتخيل أن الجو صوارم ونصول، بعد أن وصى بما خلف، وودع من تخلف، فلما مثل بين يديه أنسه، وأزال توجسه، وقال خرجت من اشبيلية وفي النفس غرام طويته بين ضلوعي، وكفكفت فيه غرب دموعي، بفتاة هي الشمس أو كالشمس أخالها، لا يحول قلبها ولا خلخالها، وقد قلت في يوم وداعها، عند تفطر كبدي وانصداعها: طويل
ولما التقينا للوداع غدية | وقد خفقت في ساحة القصر رايات |
بكينا دما حتى كان عيوننا | بجري الدموع الحمر منها جراحات |
وقد زارتني هذه الليلة في مضجعي، وأبرأتني من توجعي، ومكنتني من رضابها، وفتنتني بدلالها وخضابها، فقلت: طويل
أباح لطيفي طيفها الخد والنهدا | فعض به تفاحة واجتنى وردا |
ولو قدرت زارت على حال يقظة | ولكن حجاب البين ما بيننا مدا |
أما وجدت عنا الشجون معرجا | ولا وجدت منا خطوب النوى بدا |
سقى الله صوب القطر أم عبيدة | كما قد سقت قلبي على حرة بردا |
هي الظبي جيدا والغزالة مقلة | وروض الربا عرفا وغصن النقا قدا |
فكرر استجادته، وأكثر استعادته، فأسر له بخمسماية دينار لورقة من حينه، وأخبرني الوزير الفقيه أبو الحسن ابن سراج أنه حضر مع الوزراء، والكتاب بالزهراء، في يوم غفل عنه الدهر فلم يرمقه بطرف، ولم يطرقه بصرف، ارخت به المسرات عهدها، وأبرزت له الأماني خدها، وأرشفت فيه لماها، وأباحت للزائرين حماها، ومازالوا ينتقلون من قصر إلى قصر، ويبتذلون الغصون بجني وهصر، ويتوقلون في تلك الغرفات، ويتعاطون الكؤس بين تلك الشرفات، حتى استقروا بالروض من بعد ما قضوا من تلك الآثار اوطارا، وأوقروا بالاعتبار قطارا، فحلوا منه في درانيك ربيع مفوقة بالأزهار، مطرزة بالجداول والأنهار، والغصون تختال في أدواحها، وتنثني في أكف أرواحها، وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها، وانقراض أطرابها، والوهي بمشيدها لاعب، وعلى كل جدار غراب ناعب، وقد محت الحوادث ضياءها، وقلصت ظلالها وأفياءها، وطالما أشرقت بالخلائق وابتهجت، وفاحت من شذاهم وارجت، أيام نزلوا خلالها، وتفيئوا ظلالها، وعمروا حدائقها وجناتها، ونبهوا الآمال من سناتها، وراعوا الليوث في آجامها، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها، فأضحت ولها بالتداعي تلفع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلا نوي وأحجار، وقد هوت قبابها، وهرم شبابها، وقد يلين الحديد، ويبلى على طيه الجديد، فبينما هم يتعاطونها صغارا وكبارا، ويديرونها أنا واعتبارا، إذ برسول المعتمد قد وافاهم برقعة فيها: خفيف
حسد القصر فيكم الزهراء | ولعمري وعمركم ما أساء |
قد طلعتم بها شموسا صباحا | فاطلعوا عندنا بدورا مساء |
فصاروا إلى قصر البستان بباب العطارين فالفوا مجلسا قد حار فيه الوصف، واحتشد به اللهو والقصف، وتوقدت نجوم مدامه، وتاودت قدود خدامه، وأربى على الخورنق والسدير، وأبدى صفحة البدر من أزرار المدير، فأقاموا ليلتهم ما طرقهم نوم، ولا عراهم عن طيب اللذات سوم، وكانت قرطبة منتهى أمله، وكان روم أمرها أشهى عمله، ومازال يخطبها بمداخله أهليها، ومواصلة واليها، غذ لم يكن في منازلتها قائد، ولم يكن لها إلا حيل ومكائد، لاستمساكهم بدعوة خلفائها، وأنفتهم من طموس رسم الخلافة وعفائها، وحين اتفق له تملكها، وأطلعه فلكها، وحصل في قطب دارتها، ووصل إلى تدبير رياستها وإدارتها، قال: بسيط
من للملوك بشأو الأصيد البطل | هيهات جاءتكم مهدية الدول |
خطبت قرطبة الحسناء إذ منعت | من جاء بخطبها بالبيض والأسل |
وكم غدت عاطلا حتى عرضت لها | فأصبحت في سرى الحلي والحلل |
عرس الملوك لما في قصرها عرس | كل الملوك به في مأتم الوجل |
فراقبوا عن قريب لا أبا لكم | هجوم ليث بدرع الباس مشتمل |
ولما نظمت في سلكه، واتسمت بملكه، أعطى ابنه الظافر زمامها، وولاة نقضها وإبرامها، فأفاض فيها نداه، وزاد على أمك ومداه، وجملاها بكثرة حبائه، واشتغل بأعبائها عن فتائه، ولم يزل فيها أمرا وناهيا، غافلا عن المكر ساهيا، حسن ظن بأهلها اعتقد، واغترار بهم ما رواه ولا انتقد، وهيهات كم من ملك كفنوه في دمائه، ودفنوه بذمائه، وكم من عرش ثلوه، وعزيز أذلوه، إلى أن ثار فيها ابن عكاشة ليلا، وجر إليها حربا وويلا، فبرز الظافر منفردا من كماته، عاريا عن حماته، وسيفه في يمينه، وهاديه في الظلماء نور جبينه، فإنه كان غلاما كما بلله الشباب بإندائه، والحفه الحسن بردائه، فدافعهم أكثر ليله، وقد منع منه تلاحق رجله وخيله، حتى أمكنتهم منه عثرة لم يقل لها لعا، ولا استقل منها ولا سعى، فترك ملتحفا بالظلماء، معفرا في وسط الحماء، تحرسه الكواكب، بعد الكواكب، وبسترة الحندس، بعد السندس، فمر بمصرعه سحرا أحد أيمة الجامع المغلسين وقد ذهب ما كان عليه ومضى، وهو أعرى من الحسام المنتضى، فخلع رداءه عن منكبيه ونضاه، وستره به سترا أقنع المجد وأرضاه، وأصبح لا يعلم رب تلك الصنيعة، ولا يعرف فشكر له يده الرفيعة، فكان المتعهد إذا تذكر صرعته، وسعر الجوى لوعته، رفع بالعويل نداءه، وأنشد، ولم أدر من ألقى عليه رداءة، ولما كان من الغد حزراسه ورفع على سن رمح وهو يشرق كنار على علم، ويرشق نفس كل ناظر بألم، فلما رمقته الأبصار، وتحققته الحماة والأنصار، رموا أسلحتهم، وسووا للفرار أجنحتهم، فمنهم من أختار فراره وجلاه، ومنهم من اتت به إلى حينه رجلاه، وشغل المعتمد عن رثائه، بطلب ثاره، ونصب الحبائل لوقوع ابن عكاشة وعثاره، وعدل عن تابينه، إلى البحث عن مفرقه وجبينه، فلم تحفظ له فيه قافية، ولا كلمة للوعته شافية، إلا إشارته إليه، في تأبين أخويه، المأمون والراضي المقتولين في أول النائرة، والفتنة الثائرة، التي ينتهي بنا القول إلى سرد خبرها، ونص عبرها، فإنه قال: طويل
يقولون صبرا لا سبيل إلى الصبر | سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري |
نرى زهرها في مأتم كل ليلة | يخمشن لهفا وسطه صفحة البدر |
ينحن على نجمين أثكلن ذا وذا | ويا صبر ما للقلب في الصبر من عذر |
مدى الدهر فلبيك الغمام مصابه | بصنويه يعذر في البكاء مدى الدهر |
بعين سحاب وأكف قصر دمعها | على كل قبر حل فيه أخو القطر |
وبرق ذكي النار حتى كأنما | يسعر مما في فؤادي من الجمر |
هوى ااكوكبان الفتح ثم شقيقه | يزيد فهل بعد الكواكب من صبر |
افتح لقد فتحت لي باب رحمة | كما يزيد الله قد زاد في أجري |
هوى بكما المقدار عني ولم أمت | وأدعى وفيا قد نكصت إلى الغدر |
توليتما والسن بعد صغيرة | ولم تلبث الأيام أن صغرت قدري |
فلو عدتما لاخترتما العود في الثرى | إذا أنتما أبصرتماني في الأسر |
يعيد على سمعي الحديد نشيده | ثقيلا فتبكي العين بالحس والنقر |
معي الأخوات الهالكات عليكما | وأمكما الثكلى المضرمة الصدر |
فتبكي بدمع للقطر مثله، ويزجرها التقوى فتصغي إلى الزجر
أبا خالد أورثتني البث خالدا | أبا النصر مذ ودعت ودعني نصري |
وقبلكما ما أودع القلب حسرة | تجدد طول الدهر ثكل أبي عمرو |
وكان المعتصم بن صمادح قد اختص بأمير المسلمين رحمه الله أيام جوازه البحر إلى حماية الأندلس حين فغر العدو عليها فما، وأسال دموع أهلها دما، وملأ نفوسهم رعبا، وأخذ كل سفينة غصبا، ففل الله به غربه، وحكم فيه طعنه وضربه، فما سعدت نجومه، ولا قعدت عن شياطينه رجومه، في يوم عروبة لم يكن فيه جمع إلا في المدى، ولم تركع فيه إلا رؤس العدا، ولم يطل فيه إلا ذابل وحسام، ولم يصل فيه إلا بطل مقدام، وهو يوم شفى الإسلام بعد ما أشفى، واقتص من أيام الروم واستوفى، وكان للمعتمد رحمه الله فيه ظهور، وغناء مشهور، جلا متكاثف عجاجه، وجلا الروم عن غيطانه وفجاجه، بعد ما لقي حرة، وسقي أمره، وكلم العدويك، وثلم عدده، وتخاذل فيه رؤساء الأندلس فلم يعمل لهم فيه سنان، ولم يكحل جفونهم من قتامة عنان، والمعتمد يلقي اسنتهم بلباته، وتنثني الذوابل ولا ينثني من عناته، وفي ذلك يقول ابن عبادة: وافر
وقالوا كفه جرحت فقلنا | أعاديه تواقعها الجراح |
وما أثر الجراحة ما رأيتم | فتوهنها المناصل والرماح |
ولكن فاض سبيل الباس منها | ففيها في مجاريه انسياح |
وقد صحت وسمحت بالأماني | وفاض الجود منها والسماح |
رأى منه أبو يعقوب فيها | عقابا لا يهاض له جناح |
فقال له لك القدح المعلى | إذا ضربت بمشهدك القداح |
وفي ذلك يقول عبد الجليل ويشير إلى أمير المسلمين وحسن بلائه، وما أظهر المعتمد من إخلاصه وولائه، وأول القصيدة: وافر
أظن خطوبها قالت سلام | فلم يعبس لها منك ابتسام |
ومنها:
فثار إلى الطعان حليف صدق | تثور به الحفيظة والذمام |
ونما في حمير ونمتك لخم | وتلك وشائح فيها التحام |
تهجن لسيله نهجا فوافى | وفي أذيه الطامي عرام |
فهيل به كثيب الكفر هيلا | وكل رقيقة منها ركام |
وأصبح فوق ظهر الأرض أرضا | وكان وهادها منهم إكام |
عديد لا يشارفه حساب | ولا يحوي جماعته زمام |
تألفت الوحوش عليه شتى | فما نقص الشراب ولا الطعام |
فإن ينجو اللعين فلا كحر | ولكن مثل ما تنجو الليام |
ميا أدفنش يا مغرور هلا | تجنبت المشيخة يا غلام |
ستسالك النساء ولا الرجال | فحدث ما ورائك يا عصام |
راقبها بأرضك طالعات | كما تهدي صواعقها الغمام |
أقمت لذا الوغا سوقا فخذها | مناجرة وهون ما تسام |
فإن شئت اللجين فثم سام | وإن شئت النضار فثم حام |
جلالك فوق ما يعطيك وهم | وفعلك فوق ما يسمع الكلام |
وأنت النعمة البيضاء فاسلم | لنا وليطرد فيك التمام |
ومازال ابن صمادح يتصنع إليه بكل معنى يغرب، ويفسد ما بينه وبين المعتمد ويخرب، ويؤرش بينهما ويضرب، فلما أعلم بقبيح سعيه، وعلم حقيقة بغيه، كتب إليه: كامل
يا من تعرض لي يريد مساءتي | لا تعرضن فقد نصحت لمندم |
من غرة مني خلايق سهلة | فالستم تحت لبان مس الأرقم |
ومن منازعه الشريفة، ومقاطعه المنيفة، وشيمه الملكية، وهممه الفلكية، أن ابن زيدون الذي كان وزير أبيه الذي أظهر صولته، ودبر دولته، وأدجى ضحاها، وأدار بالمكاره رحاها، وأغراه بأعدائه، وزين له الإيقاع بعماله ووزرائه، فغدا شجا في صدورهم، ونكدا في سرورهم، فلما هيل التراب على المعتضد، وأفضى أمره إلى المعتمد، ثاروا إلى طلب ابن زيدون وجاشوا، وبروا في البغي له وراشوا، وأغروه بنكبته، وأروه الرشاد في هدم رتبته، وأرادوه بالي أرادهم، وكادوه كما كادهم، فرموا إلى المعتمد برقعة فيها: كامل
يا أيها الملك العلي الأعظم | اقطع وريدي كل باغ ينئم |
واحسم بسيفك داء كل منافق | يبدي الجميل وضد ذلك يكتم |
لا تحقرن من الكلام قليله | إن الكلام له سيوف تكلم |
والملك يحمي ملكه عن لفظة | تسري فتجلي عن دواة تعظم |
فضلا عن الكلم الذي قد أصبحت | غوغاؤنا جهرا به تتكلم |
فالله يعلم أن كل مؤمل | مثلي على حذر وخوف منهم |
فالدمع من أجفاننا متهلل | والنار في أحشائنا تتضرم |
ولقد علمت ولن نبصرك الهدى | فلأنت أهدى في الأمور واعلم |
إن الملوك تخاف من أبنائها | فتحل من مهجاتهم ما يحرم |
ولذاك قيل الملك أعقم لم يزل | فيه الولي يثير حربا تضرم |
فاحسم دواعي كل شر دونه | فالداء يسري أن غدا لا يحسم |
كم سقط زند قد نما حتى غدا | بركان نار كل شيء يحطم |
وكذلك السيل الجحاف فإنما | أولاه طل ثم وبل يسجم |
والمال يخرج أهله عن حدهم | فأفهم فإنك بالبواطن أفهم |
واذكر صنيع أبيك أول مرة | في كل متهم فإنك تعلم |
لم يبق منهم من توقع شره | فصفت له الدنيا ولذ المطعم |
فعلى م تنكل عن صنيع مثله | ولانت أمضى في الخطوب وأشهم |
وجنانك الثبت الذي لا ينثني | وحسامك العضب الذي لا يكهم |
والحال أوسع والعوالي جمة | والمجد أشمخ والصريمة ضيغم |
لا تتركن للناس موضع تهمة | واحزم فمثلك في العظائم يحزم |
قد قال شاعر كندة فيما مضى | بيتا على مر الليالي يعلم |
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى | حتى يراق على جوانبه الدم |
فاجعله قدوتك التي تعتادها | في كل من يبغي ورأيك أحكم |
واسلم على الأيام أنك زينها | وجمالها والدهر دونك ماتم |
لازلت بالنصر العزيز مهنئا | والدين عن محمود سعيك يبسم |
وغدت على الأعداء منك رزينة | لا تستقل بها وخطب صيلم |
ووقيت مكروه الحوادث واغتدت | طير السعود بإيككم تترنم |
فلما قرأها المعتمد عف عما أرادوه، وكف ألسنة الذين كادوه، بمراجعة حلت من بغيهم ما انعقد، وزأرت عليهم زئير الليث على النقد، دلت على تحققه بالرياسة، وتسنمه لذرى النفاسة، وتقليل لأيمة العدل المعرضين عن الوشاة، الرافضين للبغاة، العارفين بمعاني السعايات وأسبابها، النابذين لأصحابها وأربابها، فأجمل حلي الملوك التصامم عن سماع القدح في ولي، والتعاظم عن الوضع لعلي، والهجر لمن بغي، والزجر لمن نعب بمكروه أورغا، والمراجعة: كامل
كذبت مناكم صرحوا أو جمجموا | الدين أمتن والسجية أكرم |
خنتم ورمتم إن أخون وربما | حاولتم أن يستخف يلملم |
وأردتم تضييق صدر لم يضق | والسمر في ثغر النحور تحطم |
وزحفتم بمحالكم لمجرب | ما زال يثبت للمحال فيهزم |
أنى رجوتم غدر من جربتم | منه الوفاء وظلم من لا يظلم |
أناذلكم لا البغي يثمر غرسه | عندي ولا مبنى الصنيعة يهدم |
كفوا وإلا فارقبوا لي بطشة | يلقى السفيه بمثلها فيحلم |
فلما بلغ ابن زيدون ما راجعهم به، وتحقق حسن مذهبه، وعلم أن مخيلتهم قد أخفقت، وسعايتهم ما نفقت، وسهامهم تهزعت، ومكائدهم تبددت وتوزعت، قال يمدحه ويعرض بهم: كامل
الدهر أن اسأل فصيح أعجم | يعطي اعتباري ما جهلت فاعلم |
وإذا الفتى قدر الحوادث قدرها | ساوى لديه الشهد منها العلقم |
وإذا نظرت فلا اغترار يقتضي | كنه المال ولا توق يعصم |
كم قاعد يحظى تعجل حظه | من جاهد يصل الدروب فيحرم |
وأرى المساعي كالسيوف تبادرت | شاو المضاء فمنثن ومصمم |
ولكم تسامى بالرفيع نصابه | خطرا فناصبه الوضيع الآلام |
واشد فاجئه الدواهي محسن | يسعى فيلقه الجريمة مجرم |
تلقى الحسود أصم عن جرس الرقى | ولقد يصيح إلى الرقاة الأرقم |
قل للبغاة المنبضين قسيهم | سترون من تصميه تلك الأسهم |
أسررتم فرأى نجي غيوبكم | شيحان ملموم عليها ملهم |
وعبأتم للفسق ظفر سعاية | لم يعدكم إذ رد وهو مقلم |
ونبذتم التقوى وراء ظهوركم | فغدا نقيضكم التقي المسلم |
ما كان حلم محمد ليحيله | عن عهد دغل الضمير مذمم |
ملك تطلع للخواطر غرة | زهراء زين بها الزمان الأدهم |
يغشى النواظر من جهير روائه | خلق يرى ملء الصدور مطهم |
وسنا جبين يستبين شعاعه | يغني عن القمرين من يتوسم |
خلق تود الشمس لو صيغت له | تاجا ترصع جانبيه الأنجم |
فضحت محاسنه الرياض بكى الحيا | وهمى عليها فاغتدت تبتسم |
فالغدر يبعد والتواضع يدني | والبشر يشمس والندى يتغيم |
جذلان في يوم الوغا متطلق | وجها إليها والردى متجهم |
باس كما صال الهزبر إزاءه | جهودكما جاش الخضم الخضرم |
نفسي فداؤك أيها الملك الذي | كل الملوك له العلاء يسلم |
سدت الجميع فليس منهم منكر | إن صرت فذهم الذي لا يتأم |
لا غرو إن المجد في حكم الحجنى | من أن يضاف إليك صنو اعقم |
ما أن يرى كخصالك الزهر التي | منها على زهر الكواكب ميسم |
المحتد الزاكي السرى والسوود الس | امي الذوائب والفخار الأعظم |
والحلم يرسخ هضبه والعلم يز | خر بحره ولظى الذكا يتضرم |
دع ذكر صخر وابن صخر بعده | أنت الحليم وغيرك المتحلم |
لك عفو شهم لا يضيع حزامه | ولئن بطشت فبطش من لا يظلم |
إن الكمال شرحت معنى لفظه | ولكان وهو المشكل المستبهم |
الله قد أرضاه منك تخرج | ثقف وعقد في التقى مستحكم |
لما اعتمدت عليه كان بنصره | دابا مويدك الذي لا يسلم |
فمتى أودي فرض أنعمك التي | وبلت كما يبل السحاب المسجم |
أمطيتني متن السماك برتبة | علياء منكب عزها لا يزحم |
وتركت حسادي عليك وكلهم | شاكي حشا يدوي وأنف يرغم |
نصح العدا في زعمهم فوقمتهم | والغش في بعض النصائح مدغم |
وثناهم ثبت قناة أناته | خلقاء يصلب متنها غذ يعجم |
وزهاهم نظم الهراء فكفهم | نظم عقود السحر منه تنظم |
أشرعت منه إلى الغواة أسنة | نفذت وقد ينبو الطرير اللهذم |
فرق عوت فزأرت زأرة زاجر | راع الكليب بها السبتني الضيغم |
ياليت شعري هل يعود سفيههم | أم قد حماه النبح ذاك الأكعم |
لي منك فليذب الحسود تلظيا | لطف المكانة والمحل الأكرم |
وشفوف حظ ليس يفتؤ يجتلي | غض الشباب وكل غض يهرم |
لم تلف صاغيتي لديك مضاعة | كلا ولا حق اصطناعي الأقدم |
بل أوسعت حفظا وصدق رعاية | ذمم موثقة العرى لا تفصم |
فليخرقن الأرض شكر منجد | مني تناقله المحافل متهم |
عطر هو المسك السطيع يطيب في | شم العقول أريجه المتنسم |
فإذا غصون المكرمات تهدلت | كان الهديل ثناءها المترنم |
الفخر ثغر عن حياضك باسم | والمجد برد من وفائك معلم |
فاسلم مدى الدنيا جمالها | وتسوغ النعمى فإنك منعم |
ولما ثل عرش الخلافة وخوى نجمها، ووهى ركن الإمامة وطمس رسمها، وصار الملك دعوى، وعادت العافية بلوى، استنسر البغاث، وصحت الأضغاث، واستاسد الظبي في كناسه، وثار كل أحد في ناسه، وخلت المنابر من رقاتها، وفقدت الجمع مقيمي أوقاتها، وكان باديس بن حبوس بغرناطة عاثيا في فريقه، عادلا عن سنن العدل وطريقه، يجتري على الله غير مراقب، ويجري إلى ما شاء غير ملتفت للعواقب، قد حجب سنانه لسانه، وسبقت إساءته إحسانه، ناهيك من رجل لم يبت من ذنب على ندم، ولا شرب الماء إلا من قليب دم، احزم من كاد ومكر، وأجرم من راح وابتكر، ومازال متقدا في مناحيه، مفتقدا لنواحيه، لا يرام بريث ولا عجل، ولا يبيت له جار إلا على وجل، إلى أن وكل أمره إلى احد اليهود واستكفاه، وجرى في ميدان لهوه حتى استوفاه، وأمره أضيع من مصباح الصباح، وهمه في غبوق واصطباح، وبلاده مراد للفاتك، وستره في يد الهاتك، فسقط الخبر على المعتضد بالله ملقح الحرب، ومنتج الطعن والضرب، الذي صار الطير تحت أجنحة العقبان، وأخذ الفريسة من فم الثعبان، فسدد إلى مالقة سهمه وسنانه، ورد إليها طرفه وبنانه، وصمم إليها تصميم سابور إلى الحضر، وعزم عليها عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النضر، ووجه إليها جيشه المتزاحم الأفواج، المتلاطم الأمواج، وعليه سيفه المستل، وحتفه المحتل، ابنه المعتمد سهام الأعادي، وحمام الأسد العادي، فلما أطل عليها أعطته صفقتها، وأمطته صهوتها، إلا قصبتها فإنها امتنعت بطائفة من السودان المغاربة لم يرضوا سفاحها، ولا أمضوا نكاحها، وفي أثناء امتناعهم، وخلال مجادلتهم ودفاعهم، طيروا إلى باديس من ذلك خبرا أصحاه من نشوته، ولحاه على صبوته، فأخرج من حينه كتيبته التي كانت ترمي بالزند، ولا تنثني عن القنا القصد، وعليها ابن الناية قائد جنده، وموري زند، وقد كان أشار على المعتمد برابرة بتنفيس الممتنعين ولووه عن مساورتهم، وثنوه عن مراوحتهم ومباكرتهم، ومنعوه من نزالهم، وأطمعوه في استنزالهم، إنما كان ذلك أبقى على الأقارب، وأتقى على أوليك المغارب، فعدل عن انتهاز فرصتهم، وإبراء غصتهم، إلى الاستراحة من تعبة، والإناخة على لهوه ولعبه، وتفرق أصحابه في ارتياد الفتيات، وطراد اللذات، فما أمسى إلا وقد غشيه ليلها، وسال عليه سيلها، وأصحابه بين صريع رحيق، ومنادى من مكان سحيق، فحاب سعيه، وبال رأيه، ونجا براس طمرة ولجام، وآوى إلى أحد المعاقل أعرى من الحسام، فحقد المعتضد عليه بتنفيسه لأهل القصبة، وأصاخته إلى تلك العصبة، وضربه بالعصي، ونكله تنكيل القصي، فكتب إليه: بسيط مجزوء
مولاي اشكو إليك داء | أصبح قلبي به جريحا |
سخطك قد زادني سقاما | فابعث إلي الرضى مسيحا |
فعفا عنه وصفح، وعبق له عرف رضاه ونفخ، وقد كان قبل كتب إليه حين أمره بالمقام بالموضع الذي نحا إليه مسجونا يسليه، ويعرض له بالبربر ويستعطفه مما حصل فيه: بسيط
سكن فؤادك لا تذهب به الفكر | ماذا يعيد عليك البث والحذر |
فإن يكن قدر قد عاق عن وطر | فلا مرد لما يأتي به القدر |
وإن تكن خيبة في الدهر واحدة | فكم غزوت ومن أشياعك الظفر |
يا فارسا تحذر الأبطال صولته | صن حد عبدك فهو الصارم الذكر |
قد أخلقتني صروف أنت تعلمها | وغال مورد أمالي لها كدر |
فالنفس جازعة والعين دامعة | والصوت منخفض والطرف منكسر |
قد حلت لونا وما بالجسم من سقم | وشبت رأسا ولم يبلغني الكبر |
لم يأت عبدك ذنبا يستحق به | عتبا وهاهو قد ناداك يعتذر |
ما الذنب إلا على قوم ذوي دغل | وفي لهى عدلك المألوف إذ غدروا |
قوم نصيحتهم غش وحبهم | يغض ونفعهم أن صرفوا ضرر |
يميز البغض في الألفاظ أن نطقوا | ويعرف الحقد في الألحاظ أن نظروا |
ولما بدت الفتنة وسال سيلها، وانسحب على بهجة الهدنة ذيلها، نازل المرابطون قرطبة وفيها ابنه المأمون وكان أشهر ملوك أوانه خيرا، وأيمنهم طيرا، وما اشتغل بمعاطاة المدامة، ولا توغل للعصيان شعب ندامة، فأقاموا عليها شهورا، وأرخوا من محاصرتها والتضييق عليها ستورا، يساورونها مساورة الأراقم، ويباكرونها بداء من الحصار فأقم، والمأمون قد أوجس في نفسه خيفة، وتوقع منهم داهية مطيفة، فنقل ماله وأهله إلى المدور بعد أن حصنه، وملأه بالعدد وشحنه، وأقام بقصر قرطبة مضطربا، ولأول نبأة مصيخا ومرتقبا، إلا أن صبحوها يوما لعدة كانت بينهم وبين أهلها في تسم أسوارها، وتقحم أنجادها وأغوارها، فوقفوا هاربين، وتشوفوا راهبين، وأهلها يدعون بشعارهم، ويتبعون أهواء مردتهم ودعارهم، وكلهم يبدي تلومه وأحجامه، ويعتقك هولا لا يرى اقتحامه، إلى أن استهلوا استصعابه، وتوغلوا شعابه، وصمموا إلى القصر، وقد علموا قعود الجماعة عن الحماية له والنصر، فلما أحس بهم المأمون خرج بعدد قليل، وحد قليل، وقد رتبت له بطريقه رصائد، ونصبت له فيها مصائد، علق فيه زمامه، ورشق إليه منها حمامه، فانقضوا عليه انقضاض الجارح، وانصبوا إليه انصباب الطير إلى المسارح، فلم يكن له فيها أين يعرج، ولا وجد للخلاص بابا ينفرج، فقطع رأسه وحيز، وخيض به النهر وأجيز، ولما استقر بالمحلة رفع على سن رمح وطيف به في جوانبها، وأخيف به قلب مجانبها، وبقي جسده على الأرض مطروحا، كأنه لم يكن للملك روحا، ولا اختال في عراصه فحكى غصنا مروحا، وذلك بتقدير العليم ثم انتقلوا إلى رندة أحد معاقل الأندلس الممتنعة، وقواعدها السامية المرتفعة، تطرد منها على بعد ملتقاها، ودنو النجوم من ذراها، عيون لأنصبابها دوي كالرعد القاصف، والرياح العواصف، ثم تتكون واديا يلتوي بجوانبها التواء الشجاع، ويزيدها في التوعر والامتناع، وقد تجونت نواحيها وأقطارها، وتكونت فيها لباناتها وأوطارها، لا يعتذر لها مطلب، ولا يتصور فيها عدو إلا علقه ناب أو مخلب، فأناخوا منها على بعد، وأقاموا من الرجاء بها على غير وعد، وفيها ابنه الراضي لم يحفل بأناختهم بإزائه، ولا عدها من أرزائه، لامتناعه عن منازلتهم، وارتفاعه عن مطاولتهم، إلى أن انقضى في أمر إشبيلية ما انقضى، وأفضى أمر أبيه إلى ما أفضى، فحمل على مخاطبة ولله لينزل عن صياصيه، ويمكنهم من نواصيه، فنزل برا بأبيه، وإبقاء على أرماق ذويه، بعد أن عاقدهم مستوثقا، وأخذ عليهم عهدا من الله وموثقا، فلما وصل إليهم، وحصل في أيديهم، ومالوا به عن الحصن وجرعوه الردى، واقطعوه الثرى حين أودى، وفي ذلك يقول المعتمد يرثيهما وقد رأى قمرية بائحة بشجنها، نائحة بفننها على سكنها، وأمامها وكر فيه طائران يرددان نغما، ويغردان ترحة وترنما: طويل
بكت أن رأت الفين ضمهما وكر | مساء وقد أخنى على ألفها الدهر |
وناحت فباحت واستراحت بسرها | وما نطقت حرفا يبوح به سر |
فما لي لا أبكي أم القلب صخرة | وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر |
بكت واحدا لم يشجها غير فقه | وأبكي لآلاف عديدهم كثر |
بنى صغيرا أو خليل موافق | يمزق ذا فقر ويغرق ذا بحر |
ونجمان زين للزمان احتواهما | بقرطبة النكداء أو رندة القبر |
عذرت إذا أن ضن جفني بقطرة | وإن لؤمت نفسي فصاحبها الصبر |
فقل للنجوم الزهر تبكيهما معي | لمثلهما فلتحزن الأنجم الزهر |
ولما تم في الملك أمك، وأراد الله أن تخر عمك، وتنقرض أيامه، وتتقوض عن عراص الملك خيامه، نازلته جيوش أمير المسلمين ومحلاته، وظاهرته فساطيطه ومظلاته، بعدما نثرت حصونه وقلاعه، وسعرت بالنكاية جوارحه وأضلاعه، وأخذت عليه الفروج والمضائق، وثنت إليه الموانع والعوائق، وطرقته بالأضرار، وأمطرته كل ديمة مدرار، وهو ساه بروض ونسيم، لاه براح ومحببا وسيم، زاه بفتاة تنادمه، ناه عن هدم أنس هو هادمه، لا يصيخ إلى نبأة سمعه، ولا ينيخ إلا على لهو يفرق جموعه جمعه، قد ولى المدامة ملامه، وثنى إلى ركنها طوافه واستلامه، وتلك الجيوش تجوش خلاله، وتقلص ظلاله، محين اشتد حصاره، وعجزت عن المدافعة أنصاره، ودلس عليه ولاته، وكثرت أدواؤه وعلاته، فتح باب الفرج، وقد لفح شواظ الهرج، فدخلت عليه من المرابطين زمرة، واشتعلت لهم من التغلب جمرة، تأجج اضطرامها، وسهل بها إيقاد البقية وإضرامها، وعندما سقط الخبر عليه خرج حاسرا من مفاضته، جامحا كالمهر قبل رياضته، فلحق أوائلهم عند الباب المذكور وقد انتشروا في جنباته، وظهروا على البلد من أكثر جهاته، وسيفه في يده يتلمظ الطلا والهام، ويعد بانفراج ذلك الإبهام، فرماه أحد الداخلين برمح تخطاه، وجاوز مطاه، فبادره بضربه أذهبت نفسه، وأغربت شمسه، ولقي ثانيا فضربه وقصمه، وخاض حشا ذلك الداء فحمسه، فأجلوا عنه، وولوا فرارا منه، فأمر بالباب فسد، وبني منه ماهد، ثم انصرف وقد أراح نفسه وسفاها، وأبعد الله عنه الملامة ونفاها، وفي ذلك يقول عند ما خلع، وأودع من المكروه ما أودع: كامل مجزوء
أن يسلب القوم العدا | ملكي وتسلمني الجموع |
فالقلب بين ضلوعه | لم تسلم القلب الضلوع |
قد رمت يوم نزالهم | ألا تحصنني الدروع |
وبرزت ليس سوى القمي | ص على الحشى شيء دفوع |
أجلي تأخر لم يكن | بهواي ذلي والخضوع |
ما سرت قط إلى القتا | ل وكان من أملي الرجوع |
شيم الأولى أنا منهم | والأصل تتبعه الفروع |
وما زالت عقارب تلك الداخلة تدب، وريحها العاصفة تهب، وضلوعها تحنق وتحقد، وتضمر الغدر وتعتقد، حتى دخل البلد من واديه، وبدت من المكروه بواديه، وكر عليه الدهر بعوائد وعواديه، وهو مستمسك بعرى لذاته، منغمس فيها بذاته، ملقى بين جواريه، مغتر بودائع ملكه وعواريه، التي استرجعت منه في يومه، ونبهه فواتها من نومه، ولما انتشر الداخلون في البلد، وأوهنوا القوى والجلد، خرج والموت يتسعر في الحاظه، ويتصدر من ألفاظه، وحسامه يعد بمضائه، ويتوقد عند انتضائه، فلقيهم في رحبة القصر وقد ضاق بهم فضاؤها، وتضعضعت من رجتهم أعضاؤها، فحمل فيهم حملة صيرتهم فرقا، وملأتهم فرقا، ومازال يوالي عليهم الكر، حتى أوردهم النهر، وما بهم جواد، وأودعهم حشاه كأنهم له فؤاد، ثم انصرف وقد أيقن بانتهاب ماله، وذهاب ملكه وارتحاله، وعاد إلى قصره واستمسك به يومه وليته مانعا لحوزته، دافعا للذل عن عزته، وقد عزم على أفظع أمر، وقال يبدي لا بيد عمرو، ثم صرفه تقاه، عما كان نواه، فنزل من القصر بالقسر، إلى قبة الأسر، فقيد للحين، وحان له يوم شر ما ظن أنه يحين، ولما قيدت قدماه، وبعدت عنه رقة الكبل ورحماه، قال يخاطبه: طويل
إليك فلو كانت قيودك أشعرت | تصرم منها كل كف ومعصم |
مخافة من كل الرجال بسيبه | ومن سيفه في جنة أو جهنم |
ولما آلمه عضه، ولازمه كسره ورضه، وأوهاه ثقله، وأعياه نقله، قال: متقارب
تبدلت من عز ظل البنود | بذل الحديد وثقل القيود |
وكان حديدي سنانا ذليقا | وعضبا رقيقا صقيل الحديد |
فقد صار ذاك وذا أدهما | يعض بساقي عض الأسود |
ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت، وضمتهم جوانحها كأنهم أموات، بعد ما ضاق عنهم القصر، وراق منهم العصر، والناس قد حشروا بضفتي الوادي، وبكوا بدموع كالغوادي، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لايعدوهم، وفي ذلك يقول ابن اللبانة: بسيط
تبكي السماء بمزن رائح غاد | على البهاليل من أبناء عباد |
على الجبال التي هدت قواعدها | وكانت الأرض منهم ذات أوتاد |
عريسة دخلتها النائبات على | أساود لهم فيها وأساد |
وكعبة كانت الآمال تخدمها | فاليوم لا عاكف فيها ولا باد |
يا ضيق أفقر بيت المكرمات فخذ | في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد |
ويا مؤمل واديهم ليسكنه | خف القطين وجف الزرع بالوادي |
وأنت يا فارس الخيل التي جعلت | تختال في عدد منهم وأعداد |
ألق السلاح وخل المشرفي فقد | أصبحت في لهوات الضيغم العادي |
لما دنا الوقت لم تخلق له عدة | وكل شيء لميقات وميعاد |
أن يخلعوا فبنوا العباس قد خلعوا | وقد خلت قبل حمص أرض بغداد |
حملوا حريمهم حتى إذا غلبوا | سيقوا على نسق في حبل مقتاد |
وأنزلوا في متون الشهب واحتملوا | فريق دهم لتلك الخيل انداد |
وعيث في كل طوق من دروعهم | فصيغ منهن أغلال لأجياد |
نسيت إلا غداة النهر كونهم | في المنشآت كأموات بالحاد |
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا | من لؤلؤ طافيات فوق أزباد |
حط القناع فلم تستر مخدرة | ومزقت أوجه تمزيق أبراد |
حان الوداع فضجت كل صارخة | وصارخ من مفداة ومن فاد |
سارت سفائنهم والنوح يصحبها | كأنها إبل يحدو بها الحادي |
كم سال في الماء من دمع وكم حملت | تلك القطائع من قطعات أكباد |
ولما نقل من بلاده، وأعرى من طارفه وتلاده، وحمل في السفين، وأحمل في العدوة محل الدفين، تنبه منابره وأعواده، ولا يدنو منه زواره ولا عوادة، بقي آسفا تتصعد زفراته، وتطرد أطراد المذانب عبراته، لا يخلو بموانس، ولا يرى إلا عرينا بدلا من تلك المكانس، ولما لم يجد سلوا، ولم يؤمل دنوا، ولم يروجه مسرة مجلوا، تذكر منازله فشاقته، وتصور بهجتها فراقته، وتخيل استيحاش أوطانه، وأجهاش قصره إلى قطانه، وإظلام جوه من أقماره، وخلوة من حراسة وسمارة، فقال: بسيط
بكى المبارك في أثر ابن عباد | بكى على أثر غزلان وأساد |
بكت ثرياه لا غمت كواكبها | بمثل نوء الثريا الرائح الغادي |
بكى الوحيد بكى الزاهي وقبتة | والنهر والتاج كل ذلة باد |
ماء السماء على أبنائه درر | يا لجة دومي ذات أزباد |
وفي ذلك يقول ابن اللبانة: بسيط
استودع الله أرضاه عندما وضحت | بشائر الصبح فيها بدلت حلكا |
كان المؤيد بستانا بساحتها | يجني النعيم وفي عليائها فلكا |
في أمره لملوك الدهر معتبر | فليس يغتر ذو ملك بما ملكا |
نبكيه من جبل خرت قواعده | فكل من كان في بطحائه هلكا |
ما سد موضعه للرزق سد به | طوبى لمن كان يدري أية سلكا |
وكان الحصن الزاهر من أجمل المواضع لديه وأبهاها، وأحبها إليه وأشهاها، لإطلاله على النهر، وإشرافه على القصر، وجماله في العيون، واشتماله بالشجر والزيتون، وكان له به من الطرب، والعيش المزري بحلاوة الضرب، ما لم يكن بحلب لبني حمدان، ولا لسيف بن ذي يزن في رأس غمدان، وكان كثيرا ما يدير به راحه، ويجعل فيه انشراحه، فلما استد إليه الزمان بعدوانه، ووسد عليه أبواب سلوانه، لم يحن إلا إليه، ولم يتمن إلا الحلول لديه، فقال: طويل
غريب بأرض المغربين أسير | سيبكي عليه منبر وسرير |
وتندبه البيض الصوارم والقنا | وينهل دمع بينهن غزير |
مضى زمن والملك مستانس به | وأصبح منه اليوم وهو نفور |
برأي من الدهر المضلل فاسد | متى صلحت للصالحين دهور |
أذل بني ماء السماء زمانهم | وذل بني ماء السماء كبير |
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة | أمامي وخلفي روضة وغدير |
بمنبتة الزيتون مورثة للعلا | يغني حمام أو تدن طيور |
بزاهرها السامي الذرى جاده الحيا | تشير الثريا نحونا ونشير |
ويلحظنا الزاهي وسعد سعوده | غيورين والصب المحب غيور |
تراه عسيرا أو يسيرا مناله | إلا كل ما شاء الإله يسير |
وأول عيد أخذه باغمات وهو سارح، وما غير الشجون له مسارح، ولا زي إلا حالة الخمول، واستحالة المأمول، فدخل عليه من بينه، من يسلم عليه ويهنيه، وفيهم بناته وعليهن أطمار، كأنها كسوف وهن أقمار، يبكين عند التسايل، ويبدين الخشوع بعد التخايل، والضياع قد غير صورهن، وحير نظرهن، وأقدامهن حافية، وأثار نعيمهن عافية، فقال: بسيط
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا | فساءك العيد في أغمات مأسورا |
ترى بناتك في الأطمار جائعة | يغزلن للناس ما يملكن قطميرا |
برزن نحوك للتسليم خاشعة | أبصارهن حسيرات مكاسيرا |
يطأن في الطين والأقدام حافية | كأنها لم تطأ مسكا وكافورا |
لأخد إلا تشكى الجدب ظاهره | وليس إلا مع الأنفاس ممطورا |
أفطرت في العيد لا عادت إساءته | فكان فطرك للأكباد تفطيرا |
قد كان دهرك إن تأمره متمثلا | فردك الدهر منهيا ومأمورا |
من بات بعدك في ملك يسر به | فإنما بات بالأحلام مغرورا |
وأقام بالعدوة برهة لا يروع له سرب، وإن لم يكن آمنا، ولا يثور له كرب، وإن كان في ضلوعه كامنا، إلى أن ثار أحد بينه باركش معقلا كان مجاورا لإشبيلية مجاورة الأنامل للراح، ظاهرا على بسائط وبطاح، لا يمكن معه عيش، ولا يتمكن من منازلته جيش، فغدا بالمكاره على أهلها وراح، وضيق عليهن المتسع من جهاتها والبراح، فسار نحوه الأمير ابن أبي بكر رحمة الله عليه، قبل أن يرتد طرف استقامته إليه، فوجه وشره قد تشمر، وضره قد تنمر، وجمرة متسعر، وأمره متوعر، فنزل عدوته، وحل للحزم حبوته، وتدارك داءه قبل أعضاله، ونازله وما أعد آلات نضاله، وانحشرت إليه الجيوش من كل قطر، وأفرغ في مالسكه كل قطر، فبقي محصورا لا يشد له إلا سهم، ولا ينفذ عنه إلا نفس أو وهم، وامتسك شهورا حتى غرضه أحد الرماة فرماه، بسهم أصماه، فهوى في مطلعه، وخر قتيلا في موضعه، فدفن إلى جانب سريره، وأمن عاقبة تغييره، وبقي أهله ممتنعين مع طائفة من وزرائه حتى اشتد عليهم الحصر، وارتد عنهم النصر، وعمهم الجوع، وأغب أجفانهم الهجوع، فنزلت منهم طائفة متهافتة، ورقت بأنفاس خافتة، فتبعهم من بقي، ورغب
في التنعم من شقي، فوصلوا إلى قبضة الملمات، وحصلوا في غصة الممات، فرسمهم الحيف، وتقسمهم السيف، ولما زأر الشبل خيفت ثورة الأسد، ولم يرج صلاح الكل والبعض قد فسد، فاعتقل المعتمد خلال تلك الحال وأثناءها، وأحل ساحة الخطوب وفناءها، وحين أركبوه أساودا، وأورثوه حزنا بات له معاودا، قال: كامل
غنتك أغماتية الألحان | ثقلت على الأرواح والأبدان |
قد كان كالثعبان رمحك في الوغا | فغدا عليك القيد كالثعبان |
متعددا بحميك كل تعدد | متعطفا لا رحمة للعاني |
قلبي إلى الرحمن يشكو بثه | ما خاب من يشكو إلى الرحمن |
يا سائلا عن شأنه ومكانه | ما كان أغنى شانه عن شأني |
هاتيك قينته وذلك قصره | من بعد لأتى مقاصر وقيان |
ولما فقد من يجالسه، وبعد عنه من كان يوانسه، وتمادى كربه، ولم تسالمه حربه، قال: طويل
تؤمل للنفس الشجية فرحة | وتأبى الخطوب السود إلا تماديا |
لياليك في زاهيك أصفى صحبتها | كما صحبت قلبي الملوك اللياليا |
نعيم وبؤس ذا لذلك ناسخ | وبعدهما نسخ المنايا الأمانيا |
ولما امتدت في الثقاف مدته، واشتدت عليه قسوة الكبل وشدته، وأقلقته همومه، وأطبقته غمومه، وتوالت عليه الشجون، وطالت لياليه الجون، قال: بسيط
أنباء أسرك قد طبقن أفاقا | بل قد عممن جهات الأرض إقلاقا |
سارت من الغرب لا تطوى لها قدم | حتى أتت شرقها تنعاك إشراقا |
فأحرق الفجع أكبادا وأفئدة | وأغرق الدمع إماقا وأحداقا |
قد ضاق صدر المعالي غذ نعيت لها | وقيل إن عليك القيد قد ضاقا |
إني غلبت وكنت الدهر ذا غلب | للغالبين وللسباق سباقا |
قلت الخطوب أذلتني طوارقها | وكان عزمي لأعداء طراقا |
متى رأيت صروف الدهر تاركة | إذا انبرت لذوي الأخطار أرماقا |
وقال لي من أثق به لما ثار ابنه حيث ثار، وأثار من حقد أمير المسلمين عليه ما أثار، جزع جزعا مفرطا، وعلم أنه قد صار في أنشوطة الشر متورطا، وجعل يتشكى من فعله ويتظلم، ويتوجع منه ويتألم، ويقول عرض بي للمحن، ورضي لي أن أمتحن، ووالله ما أبكي إلا انكشاف من أتخلفه بعدي، ويتحيفه بعدي، ثم أطرق ورفع رأسه وقد تهللت أسرته، وظللته مسرته، ورأيته قد استجمع، ولشوف إلى السماء وتطلع، فعلمت أنه قد رجا عودة إلى سلطانه، وأوبة إلى أوطانه، فما كان إلا مقدار ما تنداح دائرة، أو تلتفت مقلة حائرة، حتى قال: متقارب
كذا يهلك السيف في جفنه | إذا هز كف طويل الحنين |
كذا يعطش الرمح لم أعتقله | ولم تروه من نجيع يمني |
كذا يمنع الطرف علك الشكي | م مرتقبا غرة في كمين |
كان الفوارس فيه ليوث | تراعى فرائسها في عرين |
إلا شرف يرحم المشر ف | ي مما به من سماة الوتين |
الأكرم ينعش السمهري | ويشفيه من كل داء دفين |
الأحنة لبن محنيه | شديد الحنين ضعيف الأنين |
يؤمل من صدرها ضمة | تبوئه صدر كفؤ معين |
وكانت طائفة من أهل فاس قد عاثوا فيها وفسقوا، وانتظموا في سلك الطغيان واتسقوا، ومنعوا جفون أهلها السنات، وأخذوا البنين من جحور أمهاتهم والبنات، وتلقبوا بالإمارة، واركبوا السواء نفوسهم الإمارة، حتى كادت تقفر على أيديهم، وتدثر رسومها بإفراط تعديهم، إلى أن تدارك أمير المسلمين رحمه الله أمرهم، وأطفأ جمرهم، وأوجعهم ضربا، وأقطعهم ما شاء حزنا وكربا، وسجنهم باغمات، وضمتهم جوانح الملمات، والمعتهد غذ ذاك، معتقل هناك، وكان فيهم طائفة شعرية، مذنبة أو برية، فرغبوا إلى سجانهم، أن يستريحوا إلى المعتمد من أشجانهم، فخلى ما بينهم وبينه، وغمض لهم في ذلك عينه، فكان المعتمد رحمه الله يتسلى بمجالستهم، ويجد أثر موانستهم، ويستريح إليهم بجواه، ويبوح لهم بسره ونجواه، إلى أن شفع فيهم وانطلقوا من وثاقهم، وانفرج لهم مبهم أغلاقهم، وبقي المعتمد في مجلسه يتشكى من ضيق الكبل، ويبكي بدمع كالوبل، فدخلوا عليه مودعين، ومن بثه متوجعين، فقال: طويل
أما لانسكاب الدمع في الخد راحة | لقد آن أن ينفي ويقنا به الخد |
هبوا دعوة يا آل فاس لمبتل | بما منه قد عافاكم الصمد الفرد |
تخلصتم من سجن أغمات والتوت | علي قيود لم يحن فكها بعد |
من الدهم أما خلقها فأساود | تلوى وأما الأيد والبطش فالأسد |
فهنئتم النعمى ودامت لكلكم | سعادته أن كان قد خانني سعد |
خرجتم جماعات وخلفت واحدا | ولله في أمري وأمركم الحمد |
ومر عليه في موضع اعتقاله سرب قطا لم يعلق لها جناح، ولا تعلق بها من الأيام جناح، ولا عاقها عن أفراخها الأشراك، ولا أعوزها البشام ولا الأراك، وهي تمرح في الجو، وتسرح في مواقع النو، فتنكد مما هو فيه من الوثاق، وما دون أحبته من الرقباء والأغلاق، وما يقاسيه من كبله، ويعانيه من وجده وخبله، وفكر في بناته وافتقارهن إلى نعيم عهدنه، وحبور حضرته وشهدنه، فقال: طويل
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي | سوارح لا سجن يعوق ولا كبل |
ولم تك والله المعيد حسادة | ولكن حنينا أن شكلي لها شكل |
فإسرح فلاشمل صديع ولا الحشا | وجيع ولا عينان يبكيهما ثكل |
وما ذاك مما يعتريه وإنما | وصفت الذي في جبلة الخلق من قبل |
هنيئا لها إن لم يفرق جميعها | ولا ذاق منها البعد عن أهله أهل |
وإن لم تبت مثلي تطير قلوبها | إذا اهتز باب السجن أو صلصل القفل |
لنفسي إلى القيا الحمام تشوف | سواي يحب العيش في ساقه كبل |
ألا عصم الله القطا في فراخها | فإن فراخي خانها الماء والظل |
وفي هذه الحال زاره الأديب أبو بكر بن اللبانة المتقدم الذكر وهو أحد شعراء دولته المرتضعين درها، المنتجعين درها، وكان المعتمد رحمه الله يميزه بالشفوف والإحسان، ويجوزه في فرسان هذا الشأن، فلما رآه وحلقات الكبل قد عضت بساقيه عض الأسود، والتوت عليه التواء الأساود السود، وهو لا يطيق أعمال قدم، ولا يريق دمعا إلا ممزوجا بدم، بعد ما عهده فوق منبر وسرير، ووسط جنة وحرير، تخفق عليه الألوية، وتشرق منه الأندية، وتكف الأمطار من راحته، وتشرف الأقدار بحلول ساحته، ويرتاع الدهر من أوامره ونواهيه، ويقصر النسر أن يقاربه أو يضاهيه، ندبه بكل مقال يلهب الأكباد، ويثير فيها لوعة الحارث بن عباد، أبدع من أناشيد معبد، وأصدع للكبد من مراثي أربد، أو بكاء ذي الرمة بالمربد، سلك فيها للاختفاء طريقا لاحبا، وغدا فيها لذيول الوفاء ساحبا، فمن ذلك قوله: بسيط
لكل شيء من الأشاء ميقات | وللمنى من منائيهن غايات |
والدهر في صبغة الحرباء منغمس | ألوان حلته فيها استحالات |
ونحن من لعب الشطرنج في يده | وربما فخرت بالبيدق الشاة |
انفض يديك من الدنيا وساكنها | فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا |
وقل لعلمها السفلي قد كتمت | سريرة العالم العلوي أغمات |
طوت مظلتها لا بل مذلتها | من لم تزل فوقه للعزرايات |
من كان بين الندى والباس أنصله | هندية وعطاياه هنيدات |
رماه من حيث لم تستره سابغة | دهر مصيباته نبل مصيببات |
وكان ملء عيان العين تبصره | وللأماني في مراءة مراءات |
أنكرت إلا التواءات القيود به | وكيف تنكر في الروضات حيات |
غلطت بين همائين عقدن له | وبينها فإذا الأنواع أشتات |
وقلت هن ذؤابات فكم عكست | من رأسه نحو رجليه الذؤابات |
حسبتها من قناة أو أعنته | إذا بها لثقاف المجد آلات |
دورة ليثا فخافوا منه عادية | عذرتهم فلعدو الليث عادات |
منه المهابات في الأرواح آخذة | وإن تكن أخذت منه المهابات |
لو كان يفرج عنه بعض أوانة | قامت بدعوته حتى الجمادات |
بحر محيط عهدناه تجيء له | كنقطة الدارة السبع المحيطات |
وبدر سبع وسبع تستميد به السب | ع الأقاليم والسبع السماوات |
به وإن كان أخفاه السرار سنا | قبل الصباح به تجلى الدجنات |
لهفي على آل عباد فإنهم | أهلة مالها في الأفق هالات |
تمسكت بعرى اللذات ذاتهم | يا بئس ما جنيت للذات لذات |
راح الحيا وغدا منهم بمنزلة | كانت لنا بكر فيها وروحات |
أرض كان على أقطارها سرجا | قد أوقدتهن في الأذهان أنبات |
وفوق شاطئ واديها رياض ربا | قد ظللتها من الأنشام دوحات |
كان واديها بلبتها | وغاية الحسن أسلاك ولبات |
نهر شربت بعبريه على صور | كانت لها في قبل الراح سورات |
وكنت أورق في إيكانه ورقا | تهوى ولي من قريض الشعر أصوات |
وكم جريت بشطي طعنتته إلى | محاسن للهوى فيهن وقفات |
وربما كنت أسمو للخليج به | وفي الخليج لأهل الراح راحات |
وبالغرسات لاجفت منابتها | من النعيم غروسات جنيات |
معاهد ليت أني قبل فرقتها | قدمت والتاركوها ليتهم ماتوا |
فجئت منها بإخوان ذوي ثقة | والأرض فيها من الإخوان آفات |
وافيت في آخر الصحراء طائفة | لغاتهم في كتاب الله لغات |
رغد من العيش مالي ارتقبه ولي | عند ابن أغلب أكناف بسيطات |
إن لم يكن عنده كوني فلا سعة | للرزق عندي ولا للأنس ساعات |
هو المراد ولكن دونه خلج | رخاوة عندها بيض معلات |
وإن تكن رجس من فوق مذهبه | فليس تغرب في وجهي الملمات |
هناك أوي من النعمى إلى كنف | فيه ظلال وأموه وجنات |
بين الحصار وبين المرتضى عمر | ذاك الحصار من المحذور منجاة |
هل يذكر المسجد المعمور شرجيه | أو للعهود على الذكرى قديمات |
عندي رسالات شوق عنده فعسى | مع الرياح توافيه رسالات |
ولم تزل كبده تتوقد بالزفرات، وخلله يتردد بين النكبات والعثرات، ونفسه تتقسم بالأشجان والحسرات، إلى أن شفته منيته، وجاءته بها أمنيته، فدفن باغمات، وأريح من تلك الأزمات، وعطلت المآثر من حلاها، وأفرزت المفاخر من علاها، ورفعت المفاخر من علاها، ورفعت مكارم الأخلاق، وكسدت نفائس الأعلاق، وصار أمره عبرة في عصره، وصاب أبدا عبرة في مصره، وبعد أيام وافاه أبو بكر بن عبد الصمد شاعره المتصل به، المتوصل إلى المنى بسببه، فلما كان يوم العيد وانتشر الناس ضحى، وظهر كل متوار وضحى، قام على قبره عند انفصالهم من مصلاهم، واختيالهم بزينتهم زحلاهم، وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه، وخر على تربه ولثمه: كامل
ملك الملوك أسامع فأنادي | أم قد عدتك عن السماع عواد |
لما خلت منك القصور ولم تكن | فيها كما قد كنت في الأعياد |
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعا | وتخذت قبرك موضع الإنشاد |
قد كنت أحسب أن تبدد أدمعي | نيران حزن أضرمت بفؤادي |
فغذا بدمعي كلما أجريته | زادت علي حرارة الأكباد |
فالعين في التسكاب والتهتان وال | أحشاء في الإحراق والإيقاد |
يا أيها القمر المنير أهكذا | يمحى ضياء النير الوقاد |
أفقدت عيني مذ فقدت أناره | لحجابها في ظلمه وسواد |
ما كان ظني قبل موتك أن أزر | قبرا يضم شوامخ الأطواد |
الهضبة الشماء تحت ضريحه | والبحر ذو التيار والأزباد |
عهدي بملك وهو طلق ضاحك | متهلل الصفحات للقصاد |
والمال ذو شمل مذاذ والندى | يهمي وشمل الملك غير مذاد |
أيام تخفق حولك الرايات فو | ق كتائب الرؤساء والأجناد |
والأمر أمرك والزمان مبشر | بممالك قد أذعنت وبلاد |
والخيل تمرح والفوارس تنحني | بين الصوارم والقنا المياد |
وهي قصيدة أطال أنشادها، وبنى بها اللواعج وشادها، فانحشر الناس إليه وأحفلوا، وبكوا لبكائه وأعولوا، وأقاموا أكثر نهارهم مطيفين به طواف الحجيج، مديمين البكاء والعجيج، ثم انصرفوا وقد نزفوا ماء عيونهم، وأقرحوا مأقيهم بفيض شؤنهم، وهذه نهاية كل عيش، وغاية كل ملك وجيش، والأيام لا تدع حيا، ولا تألوا كل نشر طيا، تطرق رزاياها كل سمع، وتفرق مناياها كل جمع، وتصمي كل ذي أمر ونهي، وترمي كل مشيد بوهي، ومن قبله طوت النمعان ابن الشقيقة، ولوت مجازها في تلك الحقيقة.
مكتبة المنار - الأردن-ط 1( 1989) , ج: 1- ص: 4
ابنه محمد بن عباد المعتمد على الله
ويلقب أيضا بالظافر وبالمؤيد أبو القاسم
بويع له بالإمارة بعد أبيه المعتضد إحدى وستين وأربعمائة
قال ابن حيان وذكر المعتضد عباد بن محمد هلكت له بنت أثيرة لديه أبدى لها حزنا شديدا امتثله أهل مملكته في إظهاره وحضر خواصهم شهود جنازتها بداخل قصره عشية الجمعة غرة جمادى الأولى يعني من سنة إحدى وستين وأربعمائة فاستنفروا في تعزيته فلما انفضوا شكا ألماً برأسه من زكام ثقيل انصب عليه فهده وأحضر له طبيبه وقد ازداد قلعة وأنكر نفسه فغص عليه بهجمة من دمه وأشار بتسريح شيء منه فرأى تأخير ذلك إلى غد يومه وأمسى ليلة السبت وقضاء الله قد حاق به بخنق مزعج أغصه بريقه ومنعه الكلام فقضى نحبه يوم السبت وعلا النوح من قصره بحينه فلم ينكتم موته حينا لشهود خليفته وقائد جيوشه وحامل كلمته المرشح لمكانه محمد بن عباد المتسمي الظافر المؤيد بالله فاستقرت دولته ليومها وألقت مراسيها وقام في جهاز والده ومواراته فدفنه بداخل قصره وفي تربة أبيه القاضي محمد بن إسماعيل وتولى الصلاة عليه في جماعة الأشهاد من أهل مملكته وذلك عشي يوم الأحد لثلاث خلون من جمادى الأخيرة، وأفضى الأمر إلى ولده وهو في ريعان شبابه وكمال جماله ابن تسع وعشرين سنة وشهرين وأيام زائدة مولده في العشر الأخر من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وقال أبو بكر محمد بن أبي الوليد بن زيدون مولده سنة إحدى وثلاثين وكذلك قال أبو بكر بن اللبانة
قال ابن حيان وكانت سن عباد سبعا وخمسين سنة وثلاثة شهور وتسعة أيام تأقيتاً من مولده يوم الثلاثاء لسبع بقين من صفر سنة سبع وأربعمائة إلى وفاته يوم السبت لليلتين خلتا من جمادى الأخيرة ومدة إمارته منها من يوم بيعته بوفاة والده يوم الاثنين غرة جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين ثمان وعشرون سنة ويومان
ويحكى عن المعتضد خبر غريب في تطيره عند انصرام أيامه وبين يدي هجوم حمامه وهو انعقاد نيته على استحضار مغن يجعل ما يبتدئ به فألا في أمره وقد استشعر انقراض ملكه وحلول هلكه فأرسل في الصقلي المغني وكان قد قدم عهده به فأجلسه وأنسه وأمره بالغناء فغنى
نطوي الليالي علما أن ستطوينا | فشعشعيها بماء المزن واسقينا |
مات عباد ولكن | بقي الفرع الكريم |
فكأن الميت حي | غير أن الضاد ميم |
هذا المؤذن قد بدا بأذانه | يرجو الرضا والعفو من رحمانه |
طوبى له من ناطق بحقيقة | إن كان عقد ضميره كلسانه |
مجن حكى صانعوه السماء | لتقصر عنه طوال الرماح |
وصاغوا مثال الثريا عليه | كواكب تقضى لنا بالنجاح |
وقد طوقوه بذوب النضار | كما جلل الأفق ضوء الصباح |
سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر | ماذا يعيد عليك البث والحذر |
وازجر جفونك لا ترض البكاء لها | واصبر فقد كنت عند الخطب تصطبر |
فإن يكن قدر قد عاق عن وطر | فلا مرد لما يأتي به القدر |
وإن تكن خيبة في الدهر واحدة | فكم غزوت ومن أشياعك الظفر |
إن كنت في حيرة عن جرم مجترم | فإن عذرك في ظلمائها قمر |
فوض إلى الله فيما أنت خائفة | وثق بمعتضد بالله يغتفر |
ولا يروعنك خطب إن عدا زمن | فالله يدفع والمنصور ينتصر |
واصبر فإنك من قوم أولى جلد | إذا أصابتهم مكروهة صبروا |
من مثل قومك من مثل الهمام أبي | عمرو أبيك له مجد ومفتخر |
سميدع يهب الآلاف مبتدئاً | ويستقل عطاياه ويحتقر |
له يد كل جبار يقبلها | لولا نداها لقلنا إنها الحجر |
يا ضيغماً يقتل الأبطال مفترساً | لا توهنني فإني الناب والظفر |
وفارساً تحذر الأقران صولته | صن حد عبدك فهو الصارم الذكر |
هو الذي لم تشم يمناك صفحته | إلا تأتي مراد وانقضى وطر |
قد أخلفتني ظروف أنت تعلمها | وغال مورد آمالي بها كدر |
فالنفس جازعة والعين دامعة | والصوت منخفض والطرف منكسر |
قد حلت لوناً وما بالجسم من سقم | وشبت رأسا ولم يبلغني الكبر |
ومت إلا ذماء في يمسكه | أني عهدتك تعفو حين تقتدر |
لم يأت عبدك ذنبا يستحق به | عتباً وها هو قد ناداك يعتذر |
ما الذنب إلا على قوم ذوي دغل | وفي لهم عفوك المعهود إذ غدروا |
قوم نصيحتهم غش وحبهم | بغض ونفعهم إن صرفوا ضرر |
تميز الغيظ في الألفاظ إن نطقوا | وتعرف الحقد في الألحاظ إن نظروا |
إن يحرق القلب نبز من مقالهم | فإنما ذاك من نار القلى شرر |
أجب نداء أخي قلب تملكه | أسى وذي مقلة أودي بها سهر |
لم أوت من زمني شيئا ألذ به | فلست أعرف ما كأس ولا وتر |
ولا تملكني دل ولا خفر | ولا تمرس بي غنج ولا حور |
رضاك راحة نفسي لا فجعت به | فهو العتاد الذي للدهر أدخر |
وهو المدام التي أسلو بها فإذا | عدمتها وقدت في قلبي الفكر |
أجل ولي راحة أخرى كلفت بها | نظم الكلى في القنا والهام تبتدر |
كم وقعة لك في الأعداء واضحة | تفنى الليالي ولا يفنى بها الخبر |
سارت بها العيس في الآفاق فانتشرت | فليس في كل حي غيرها سمر |
ما تركي الخمر عن زهد ولا ورع | فلم يفارق لعمري سني الصغر |
وإنما أنا ساع في رضاك فإن | أخفقت فيه فلا يفسح لي العمر |
إليك روضة فكري جاد منبتها | ندى يمينك لا ظل ولا مطر |
جعلت ذكرك في أرجائها زهراً | فكل أوقاتها للمجتنى سحر |
مولاي أشكو إليك داء | أصبح قلبي به جريحاً |
إن لم يرحه رضاك عني | فلست أدري له مريحاً |
سخطك قد زادني سقاماً | فابعث إلي الرضا مسيحاً |
واغفر ذنوبي ولا تضيق | عن حملها صدرك الفسيحا |
لو صور الله للمعالي | جسماً لأصبحت فيه روحا |
داري الغرام ورام أن يتكتما | وأبى لسان دموعه فتكلما |
رحلوا وأخفى وجده فأذاعه | ماء الشؤون مصرحاً ومجمجما |
سايرتهم والليل غفل ثوبه | حتى تراءى للنواظر معلما |
فوقفت ثم محيرا وتسلبت | منى يد الإصباح تلك الأنجما |
أكثرت هجري غير أنك ربما | عطفتك أحياناً علي أمور |
فكأنما زمن التهاجر بيننا | ليل وساعات الوصال بدور |
عفا الله عن سحر على كل حالة | ولا حوسبت عني بما أنا واجد |
أسحر ظلمت النفس واخترت فرقتي | فجمعت أحزاني وهن شوادر |
وكانت شجوني باقترابك نزحا | فهاهن لما أن نأيت شواهد |
فإن تستلذي برد ما بك بعدنا | فبعدك ما ندري متى ما الماء بارد |
قامت لتحجب قرص الشمس قامتها | عن ناظري حجبت عن ناظر الغير |
علما لعمرك منها أنها قمر | هل تحجب الشمس إلا غرة القمر |
ريعت من البرق وفي كفها | برق من القهوة لماع |
يا ليت شعري وهي شمس الضحى | كيف من الأنوار ترتاع |
تظن بنا أم الربيع سآمة | ألا غفر الرحمن ذنبا تواقعه |
أأهجر ظبياً في فؤادي كناسه | وبدر تمام في ضلوعي مطالعه |
وروضة حسن أجتنيها وبارداً | من الظلم لم تحظر علي شرائعه |
إذا عدمت كفي نوالا تفيضه | على معتفيها أو كمياً تقارعه |
أغائبة الشخص عن ناظري | وحاضرة في صميم الفؤاد |
عليك السلام بقدرالشجون | ودمع الشؤون وقدر السهاد |
تملكت مني صعب المرام | وصادفت من سهل القياد |
مرادي أعياك في كل حين | فياليت أني أعطى مرادي |
أقيمي على العهد في بيننا | ولا تستحيلي لطول البعاد |
دسست اسمك الحلو في طيه | وألفت فيك حروف اعتماد |
معي الأخوات الهالكات عليكما | وأمكما الثكلى المضرمة الصدر |
تبكي بدمع ليس للغيث مثله | وتزجرها التقوى فتصغي إلى الزجر |
تذللها الذكرى فتفزغ للبكا | وتصبر في الأحيان شحاً على الأجر |
أبا خالد أورثتني البث خالدا | أبا النصر مذ ودعت ودعني نصري |
وقبلكما ما أودع القلب حسرة | تجدد طول الدهر ثكل أبي عمرو |
ألا حي بالغرب حيا حلالا | أناخو جمالاً وحازوا جمالا |
تخيرتها من بنات الهجين | رميكية ما تساوي عقالاً |
ما يعلم المرء والدنيا تمر به | بأن صرف ليالي الدهر محذور |
بينا الفتى مترد في مسرته | وافي عليه من الأيام تغيير |
وفر من حوله تلك الجيوش كما | تفر عاينت الصقر العصافير |
وخر خسراً فلا الأيام دمن له | ولا بما وعد الأبرار محبور |
من بعد سبع كأحلام تمر وما | يرقى إلى الله تهليل وتكبير |
يحل سوء بقوم لا مرد له | وما ترد من الله المقادير |
رب ركب قد أناخوا عيسهم | في ذرى مجدهم حين بسق |
سكت الدهر زمانا عنهم | ثم أبكاهم دماً حين نطق |
من عزا المجد إلينا قد صدق | لم يلم من قال مهما قال حق |
مجدنا الشمس سناء وسنا | من يرم ستر سناها لم يطق |
أيها الناعي إلينا مجدنا | هل يضر المجد أن خطب طرق |
لا نرع للدمع في آماقنا | مزجته بدم أيدي الحرق |
حنق الدهر علينا فسطا | وكذا الدهر على الحر حنق |
وقديماً كلف الملك بنا | ورأى من شموساً فعشق |
قد مضى منا ملوك شهروا | شهرة الشمس تجلت في الأفق |
نحن أبناء بني ماء السما | نحونا تطمح ألحاظ الحدق |
وإذا ما اجتمع الدين لنا | فحقير ما من الدنيا افترق |
حججاً عشرا وعشرا بعدها | وثلاثين وعشرين نسق |
أشرقت عشرون من أنفسها | وثلاث نيرات تأتلق |
لما تماسكت الدموع | وتنبه القلب الصديع |
وتناكرت هممي لما | يستامها الخطب الفظيع |
قالوا الخضوع سياسة | فليبد منك لهم خضوع |
وألذ من طعم الخضوع | على فمي السم النقيع |
إن تستلب عني الدنا | ملكي وتسلمني الجموع |
فالقلب بين ضلوعه | لم تسلم القلب الضلوع |
لم أستلب شرف الطباع | أيسلب الشرف الرفيع |
قد رمت يوم نزالهم | ألا تحصنني الدروع |
وبرزت ليس سوى القميص | على الحشا شيء دفوع |
وبذلت نفسي كي تسيل | إذا يسيل بها النجيع |
أجلي تأخر لم يكن | بهواي ذلي والخشوع |
ما سرت قط إلى الكماة | وكان من أملي الرجوع |
شيم الأولى أنا منهم | والأصل تتبعه الفروع |
لك الحمد من بعد السيوف كبول | بساقي منها في السجون حجول |
وكنا إذا حانت لحرب فريضة | ونادت بأوقات الصلاة طبول |
شهدنا فكبرنا فظلت سيوفنا | تصلي بهامات العدا فتطيل |
سجود على إثر الركوع متابع | هناك وأرواح الكماة تسيل |
شعراء طنجة كلهم والمغرب | ذهبوا من الإغراب أبعد مذهب |
سألوا العسير من الأسير وإنه | بسؤالهم لأحق فاعجب واعجب |
لولا الحياء وعزة لخمية | طي الحشا ناغاهم في المطلب |
قد كان إن سئل الندى يجزل وإن | نادى الصريخ ببابه اركب يركب |
أرى الدنيا لا تواني | فأجمل في التصرف والطلاب |
ولا يغررك منها حسن برد | له علمان من ذهب الذهاب |
فأولها رجاء من سراب | وآخرها رداء من تراب |
دار المعارف، القاهرة - مصر-ط 2( 1985) , ج: 2- ص: 2