التصنيفات

الشرقي بن القطامي الكلبي: الشرقي والقطامي لقبان، وإنما ذكرناه في هذا الباب لشهرته بهذا الاسم، وهو الوليد بن الحصين بن حماد بن حبيب بن جابر بن فراس، وهو مالك بن عمرو بن امرئ القيس بن النعمان بن عامر بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن عفيف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
كان علامة نسابة أخباريا إلا أنه كان ضعيفا في روايته، وكان من أهل الكوفة، وكنية شرقي أبو المثنى، وكان أعور، وكان لا يشرب من النبيذ إلا قدحا واحدا.
حدث ابن دريد ما يرفعه إلى ابن الكلبي عن أبيه قال: كنت يوما عند الشرقي ابن القطامي، فقال: من يعرف منكم أسد بن عبد مناف بن شيبة بن عمرو بن المغيرة بن زيد، وهو من أشرف الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ما نعرفه. فقال: هو علي بن أبي طالب. كانت أمه سمته أسدا، وأبوه غائب لما ولدته، واسم أبي طالب عبد مناف، واسم عبد المطلب شيبة، واسم هاشم عمرو، واسم عبد مناف المغيرة، واسم قصي زيد.
قال الشرقي: دخلت على المنصور فقال لي: يا شرقي، علام يزار المرء؟
فقلت: يا أمير المؤمنين على خلال أربع: على معروف سلف أو مثله يؤتنف أو قديم شرف أو علم مطرف. قال غيره: فما وراء ذلك فولوع وكلف.
ومن مسند الشرقي ما رواه عن ابن عباس أن عبد الله بن رواحة الأنصاري أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أتيت جارية لي في بعض الليل وإن صاحبتي انتبهت، فأحست بذلك، فبكتتني، فجحدت ذلك. فقالت: إن كنت صادقا فاقرأ آيات من القرآن، فأنشأت أقول:

قال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رد يده على فيه، ثم قال: لعمري هذا من معاريض الكلام، فما قالت لك؟ قال: قالت لي: أما إذ قرأت القرآن فإني أتهم بصري وأصدق كتاب الله. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لقد وجدتها ذات فقه في الدين.
حدث المرزباني بإسناد عن الشرقي قال: أرسل لي أمير المؤمنين المنصور
فأتيته، فدخلت عليه وهو قاعد في مشرفة في داره التي فيها مجلس الخضراء، فسلمت عليه بالخلافة فأدناني وقربني حتى كدت أن تمس ركبتي ركبته. وسألني عن جميع أحوالي في بدني ومعاشي وعيالي، ثم بسطني وأنسني بالحديث ساعة، ثم قال: لو أتيت فتانا محمدا، يعني المهدي، فحدثته من طرائف ما عندك، وخبرته بشرف أهله في جاهليتهم وإسلامهم، وأيامهم وأنسابهم، ومن يقرب إليه من نسبه في قريش، وصهره من جميع العرب، وما يحتاج إليه من منازل أهله وأقاربه منه والأقرب فالأقرب منهم لم يضع ذلك لك عندي. فقلت: أفعل ذلك وأبالغ فيه واستجزل حظي في القربة من أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه في ذلك، ومن المهدي، أكرمه الله.
فحسن موقع قولي عنده، وسر به، وأمر لي بألفي دينار، وقال: اتخذها عقدة من معاش لك ولعقبك من بعدك، ولا تبسط يدك بالإسراف في إنفاقها، ولم يعلم أني أحوط لها منه، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، وأزيد على ذلك. قال: إذا أزيدك، وأعلمني كل وقت تصير فيه إلى محمد، وما يكون منك ومنه من إلقائك إليه وقبوله منك، ولا تخف علي من أمركما شيئا يبلغنيه غيرك، فقد وثقت بقولك واستنمت إلي كفايتك. فقلت: أفعل من ذلك ما يحسن لي به الموقع من قلب أمير المؤمنين.
وتبعني رسوله بالمال، فقبضته وغدوت على المهدي، فأعلمته بعثة أمير المؤمنين إلي، وما أمر به. فأمرني بالملازمة، ولم أر له في ذلك النشاط لما ألقيت إليه، وأقبلت عليه بالحديث والكلام، فلم أره يهش لذلك، ولا يحسن له الاستماع، فغمني ذلك، وتخوفت أن أعلمه أباه فأغمه، فلبثت منه على خطر عظيم، وأمسكت المال عندي مخافة أن يسترجعه إذا بلغه ذلك. فلم أحدث في شيء منه حدثا، وأقبلت آتيه، فلا يأذن لي إلا في الأيام، ثم يأمر أن لا أطيل في الجلوس، وأراه يميل إلى اللهو، وإلى الحديث المطرب الملهي، فعزمت على أن أسلك ذلك الطريق بقدر ما أقرب من قلبه، ثم أشرب ذلك ببعض ما أمرت به. فدخلت عليه يوما، فرأيته على الحالة التي كنت أراه عليها، وأجرى بعض من عنده حديثا من حديث بعض الملوك فنشط له وضحك. فقلت: أصلح الله الأمير، عندي ما هو أحسن من هذا وأطيب، فإن أذن الأمير حدثته، فاستوى على سريره جالسا ثم قال: هات ما عندك. فقلت:
إنه كان في الزمن الأول ملك من الملوك، وكان على بابه غسال يغسل ثياب حشمه
فيعيش بأحسن حال حتى مات ذلك الملك وتفرق حشمه فساءت حال الغسال وافتقر فقال لامرأته: ويحك قد ترين ما قد أصبنا به من موت الملك، وقد رأيت رأيا فما ترين؟ قالت: ما هو؟ قال: نرتحل فنطلب باب ملك مثله، فإنه يحتاج إلى مثلي، فعسى الله أن يصنع لي ولك؛ قالت: نعم ما رأيت فافعل. فعمد الغسال إلى ما عنده من متاع وخزائن فباعه، وخرج وهو وامرأته قد حمل قرازمه في كساء على ظهره، والقرازم التي تدق بها الثياب وتسمى الكودينات، حتى أتيا بلدة فيها جبار على باب مدينته صنم على علم، لا يدخل مدينته أحد إلا نهارا، فمن دخلها من الناس فسجد لذلك الصنم لم يعرض له، ومن لم يسجد له قتل ولطخ ذلك العلم بدمه بعد أن تقضى له ثلاث حوائج، ثم يقتل. فدخل الغسال وامرأته، فلم يسجدا للصنم، وللملك منظرة في قصره يشرف منها على الصنم فيرى من يسجد ومن لا يسجد، فلما رآهما الملك لم يسجدا، دعا بهما ليقتلا، وقال لهما: ما منعكما أن تسجدا للصنم، وقد رأيتما الناس يسجدون له؟ قالا: لم نعلم أنه من أمر الملك فيأمر الملك أن نسجد له بقية يومنا. قال: ليس إلى ذلك سبيل، ولا بد من قتلكما بعد أن أقضي لكل واحد منكما ثلاث حوائج فاسألاها، فبكيا وتضرعا وسجدا له، فأبى إلا قتلهما. فلما يئسا من الحياة ومن عفوه، قال الرجل: يأمر لي الملك بعشرة آلاف درهم فأتوه بها. ثم قال: هات الثانية. قال: دار يسكنها ولدي من بعدي، فدفعت إليه دار. ثم قال:
هات الثالثة، فوضع كساءه على ظهره كهيئة المثقل، ثم أخرج أعظم قرزوم معه فأمسكه بيده، ومسحه بكمه. فقال الملك: هات حاجتك، قال: أضرب رأس الملك بهذا ثلاثا. قال فضحك المهدي حتى انقلب عن سريره، ثم قال: إيه.
قلت: فبقي الملك مكبا مطرقا لا يدري ما يصنع، وعرض على الغسال من الأموال ما لا يحصى، فأبى وقال: ما ينفعني المال بعد موتي؟ فقال الملك لجلسائه: ما ترون؟ فقالوا: إما أن تقضي حاجته أو تبطل هذه السنة. فقال: ما إلى ابطالها سبيل. ودعا الملك بوسادة كبيرة، فوضعت على رأسه لتقيه من الضرب. فقال الغسال: ليس هذا شرطي أفتدعوني أتقي من القتل كما تتقي من ضربي؟ قالوا:
صدق، فبقي الملك ساعة يفكر ثم قال: نحوها، وقال له: اضرب، فضرب ضربة ألصقت رأس الملك بالأرض، وتصايح الناس والحشم، والملك مغشي عليه. قال:
فضحك المهدي أكثر من ضحكه الأول. ثم قال: إيه. قلت: والغسال قائم، وقرزومه بيده رافع له، وقد فلق رأس الملك والدم يسيل، وقد حضر العشاء وأفاق الملك والغسال بعينه، فلما رآه قائما بقرزومه تغاشى، فلم يزل كذلك، فلما طال به المكث، وحضر المساء، رفع رأسه إلى الغسال فقال له: ويلك أي ضرباتك هذه؟
قال: هذه الهوينا. قال: فازداد المهدي ضحكا، واستزادني في الحديث. قلت:
فقال الملك في نفسه: هذه أهون ضرباته، فإن عاودني بأشد منها قتلني. فرفع رأسه متحاملا، وقال: قد رأيته حين سجد، ولكني أردت أن استخرجه وأعلم طاعته، اذهب يا غسال فقد سوغتك ما وهبت لك، ولك عشرة آلاف درهم أخرى على أن لا تضربني الضربتين. فقال الغسال: لا والله لا أبطلها ما سجدت للصنم، فاما أن تبطله أو تقضي حاجتي. فقال الملك لجلسائه: ما ترون؟ قالوا: الرأي الوفاء. فلما علم الملك أن لا منجى له من الغسال، قال لجلسائه قد كان أبي تقدم إلي وقال: إن رابك من أمر الصنم ريب فاكسره. فأمر بكسره وإبطال السنة. قال: والغسال قائم بقرزومه. فقال له: اخرج عني، ما قيامك؟ قال: العشرة آلاف الأخرى. قال:
نعم، أعز الله الأمير. قال: كم كان أمر لك أمير المؤمنين سم عداه ولا تسم حقه.
قال: قلت بألفين، قال: فأمر لي بألف دينار، وقال لي لولا أني أكره أن أبلغ عطية أمير المؤمنين فأساويه ما قصرت بك عنها إن سألك أمير المؤمنين ليكون أعذر لي عنده. قال: وأمر لي بكسوة وحملان، ثم قال: لا تغبني يوما واحدا، قلت: أفعل أعز الله الأمير. فكنت إذا جئته بعد ذلك أكاد أن أحمل أنا ودابتي حتى ندخل، فقلت في نفسي: أنت هاهنا والله لأوسعنك من هذا، ولأوسعن معاشي معك. قال:
فما خرجت من عنده يوما إلا بصلة أو تحفة من طيب ولطف وغيرهما. فكنت في خلال ذلك أشوبه ببعض ما أمرت به فيهش له قلبه، وانتفعت به وبالمنصور.

  • دار الغرب الإسلامي - بيروت-ط 0( 1993) , ج: 3- ص: 1415