التصنيفات

سليمان بن أبي طالب عبد الله بن الفتى الحلواني النهرواني أبو عبد الله، والد الحسن بن سليمان الفقيه المدرس بالنظامية. له حظ من العربية وافر وآداب تامة. مات بأصبهان سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، وأكثر أئمة أصبهان وفضلائها قرأوا عليه الأدب. سمع ببغداد أبا الطيب طاهر بن عبد الله الطبري وغيره.
وأما الفتى أوله فاء مفتوحة بعدها تاء معجمة فهو أبو عبد الله سليمان بن عبد الله يعرف بابن الفتى من أهل النهروان. دخل بغداد سنة ثلاثين وأربعمائة فتشاغل بالأدب فقرأ على أبي الخطاب الجبلي والثمانيني وغيرهما، فمن شعره:

وأنشد الأديب ابن الفتى لنفسه:
وأنشد ابن الفتى لغيره:
وكان ابنه الحسن بن سليمان بن عبد الله بن الفتى فقيها عالما، سكن بغداد، وفوض إليه التدريس بالمدرسة النظامية. وكان عالما فاضلا يعظ في الأحايين. له معرفة تامة بالنحو واللغة، وينشئ الخطب والشعر. مات في شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة، ودفن بجنب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي بباب أبرز.
وكان لابن الفتى هذا ابن آخر يقال له أبو الحسن علي، كان أديبا فاضلا، وبالأديب كان يخاطب، وكان وجيها بالري إما وزيرا لبعض أمراء السلجوقية أو شبيها بالوزير، مدحه أبو يعلى ابن الهبارية عند وروده إلى الري فلم يحمده فكتب إلى بعض أصدقائه وساءله في ذمه فأبى.
وأما الرسالة التي كتبها إلى ابن أبي الفتى فهي: للأسماع- أطال الله بقاء الشيخ الأديب، العالم اللبيب، الكامل الأريب، الفاضل الحسيب، غرة الدهر البهيم، وواسطة العقد النظيم، وجامع عناديد الشرف وأشتاته، ومحيي رسم الأدب ورفاته:
منها: وقد كنت أيام تشريفه بأصبهان، بمقدمه السعيد ومقامه المديد، أجتهد
في لقائه كل الاجتهاد، وأعتد بخدمته غاية الاعتداد، ولم أجد طريقا إلى ذلك إلا بحسن سفارة السيد الوالد، الإمام الماجد، بقية المشايخ والصدور، ومالك أزمة المنظوم والمنثور، علم العلم والأدب، وطود الحلم والحسب، أبي الأدباء، وموئل الغرباء، الذي دق فكره، وجل قدره:
فيعتذر أنه حرسه الله مشغول بأمور مهمة، وحوادث ملمة، ولما نزلنا الري أيقنت بالري من رؤيته، والتعاطي من بديهته العد ورويته، ووثقت بالظفر بخدمته، فكنت الوامق الخجل لأنني ترددت إلى أن ملني بواب دار الوزارة، وشكاني دهليز دار الإمارة، والحجاب كثيف، والحاجب عنيف:
قلت: فهذا من هذه الرسالة يدل على أنه كان أديبا ذا مكانة من السلطان، وتمكن من علو القدر والشان.
فلما لم يحمد ما كان منه، كتب إلى الفقيه أبي بكر محمد بن الشافعي المعروف بالعيثوري: لو وجدت إلى لقاء الشيخ الفقيه، أطال الله بقاءه ما اهتز غصن كعطفه، وجاد سحاب ككفه، وتبلج صبح كبشره، وتأرج روض كذكره، وزخر بحر كعلمه، وشمخ طود كحلمه، ونفذ قدر كعزمه؛ بل أطال الله بقاءه ما قام أير واسبطر، واختلج بظر فاقشعر، وتجهم عيش أديب فاكفهر، واطرد القياس ببؤس الفاضل واستمر؛ بل أطال الله بقاءه لتبادل الصبيان في المكاتب والمعالم، وتساحق النسوان في المقابر والمآتم. بل أطال الله بقاءه ما قدحت زنود الأفراح بالأقداح، وعدل طريق إلى الفقاح عن الأحراح، واتهم كاتب بحامل دواته، وغلام بمولاه أو بمولاته؛ بل أطال الله بقاءه ما خاب أمل عند لئيم ساقط، وحبط عمل في سوق زنيم هابط؛ بل أطال بقاءه ما بذل لئيم فقحته، وكشخان زوجته، وصفعان هامته؛ وأري البخل كيسا وفطنة، ونسب السخاء خرقا وهجنة، وفديت الدراهم بالمحارم، والمائدة بالوالدة، والفلس بالعرس، سبيلا لأخفيت القدم، وأعفيت القلم، ولكنت مليا بمحامده في كعبة فضائله حاجا إلى بابه، عاجلا بالاستئذان على حجابه، فسقى الله .... وكان الشريف البصري، وكان يجمع شملنا، ويصل حبلنا، ويضم أشتاتنا، ويعم بالاجتماع أوقاتنا، فنرتبع من مجلس الشيخ الفقيه في روض أريض، ونشفي بلقائه داء كل قلب مريض، ونتجارى في حلبات الفضل، فنتجاذب أطراف الجد من الحديث والهزل. وبعدا لهذه الأيام التي منعتنا مشاهدته، وحرمتنا مجاورته ومحاورته، وحجبته عنا، وأخذت له بانقطاعنا عنه فوق حقه منا.
وعلم الله أنني وصلت غرة ذي الحجة إلى مدينة الري التي أقفر من المروءة جنابها، وصفرت من الفتوة وطابها، وترأس أذنابها، وتذأب كلابها، ونسخ شرع الافضال في ربوعها، ومسخ كل من عرفناه من تابع أهلها ومتبوعها، وكان أول ما بدأت به السؤال عن أخباره، أجراها الله على إيثاره، والشيخ الإمام الحافظ بذلك شاهد، وليس في إقامة هذه الشهادة بواحد، فعرفني من سلامته ما سكنت إليه نفسي، وشكرت الله عليه، ثم عدت إليها بعد الرحيل، ونزلت منها بربع محيل، فبلغني ما ساءني وأقلقني، وأزعجني وأرقني، وجدد سوء ظني بالزمان الجاهل، وأكد قبيح رأيي في الدهر الخامل، إلا بما يسوء الأحرار، ويسر الأغمار، وما استبدعته من ذميم عادته، ولئيم جبلته، وقديم خرقه، وعظيم هوجه:
وما تلك الحلية إلا من جملة الناس، ورب عار أحسن من كاس، وإذا تبلجت الأرض فالروض يعود، وما دامت السماء فالشهب تطلع على الرسم المعهود. وسلب الحجل خير من قطع الرجل، وما هو إلا نصل جرد من غمده، وجيد عطل من عقده، وغصن عري من ورقه، وورده على غير جريمة، ولا إتيان عظيمة ولا غشيان كريمة:
فذاك الذي منعني من الحضور، ومواصلة الرواح بالبكور. ولما قيل قد فتح الباب، ورفع الحجاب، واجتمع الإخوان والأصحاب، وقعت هذه الواقعة التي أرغب إلى الله في صرفها، وقشع سحب غمامها وكشفها، وأزف انصرافي، وقصر الليل علي تحت زفافي، فحررت هذه السطور مع كثرة الموانع، وغلبة الصوارف والدوافع، والله تعالى يديم له النعمة الصافية، والمنحة الوافية، ويكفيه المحذور، ويسخر له الأمور، ويجري المقدار على إرادته، ويحيل لأجله الفلك الأحمق عن عادته. وبعد ذلك فبلغني حرس الله نعمته أنه أنكر قديم مودتي، وسأل عني بعد طول صحبتي، سؤال متعرف لأمري و حبرته من شعري، وذلك عند إطرائه شيخ الظراف، وإمام اللطاف ابن حجاج. وأين الجدول من البحر، والكوكب من الفجر، والبعرة من الدرة، والعرة من الغرة، والعانة من الطرة، والسرم من السرة، والسحنة من القرة، والحلوة من المرة، والأمة من الحرة:
كابن عباد وابن العميد، والمهلبي والمجيد، وبني حمدان في إمارتهم، وآل المقتدر أيام خلافتهم، وعضد الدولة وعزها، وبني ركنها ومعزها، وغير هؤلاء من كبار القواد وأعيان الأمر الذين لو تعاطوا مساجلته لفضلوه، أو ادعوا مناضلته لنضلوه، أو جاروه في حلبة الجد والهزل في العلم والفضل لشآه راجلهم ولسبقه، ونتف سباله وحلقه:
وكفاني محرسا، وحسبي مقحما ومؤنسا، أنني دخلت فكان ممدوحي ومقصودي من أهلها، ومعتمدي من أغيانها:
فأولاني آلا، وأعاد ألفى دالا، وقراني عرضه المبذول، وكذبه المملول:
ثم ذكر قوما لا حاجة لنا بذكرهم ولا أعرفهم. ثم رجعنا إلى حديث الكلبي بغير ياء، والاشتغال بذكره أولى، وتقطيع عرضه أحلى وأحرى. ومن أين للمسلمين عرض فيمزق، أو مجد فيهدم، أو حسب فيوصم، ولكن ذم الزمان الذي قدم مثله وسوده، وأباح جهله وروجه:
ولقد عرفنا أباه، سلمه الله، بريا من هذه البظرمة، عريا من هذه العجرفة، سليم الصدر، نقي الجيب، لين الجانب، حلو الحركة، دمث التفصيل، لا يتعدى طوره، ولا يتجاوز حده:
ولولا أن الري مسخت وأهلها، ونسخت وأعيانها، {وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤ بغضب من الله} وقيل لهم {كونوا قردة خاسئين} لما تصدر المعلم في دسوتها، ولا ترأس في ملكها وملكوتها، وجمع بين ناسوت الرياسة ولا هوتها، ولا تحكم في أهلها، ولا تكلم في مجالسها، ولكان بحيث أنزل الله المعلمين، وجعل المؤدبين، أو أنه يرجع إلى مسكة من عقل، أو يعتصم بيسير من لب وحزم، أو يتعلق بقليل من تمييز، أو يعود إلى نزر من تحصيل، يعرف محله، ويلتزم حده، ولم يتعد طوره:
هذا، على أنه نشأ في الفقر والفاقة، وربي في البؤس والإضاقة، وولد في الهجرة، وقطعت سرته في المصاطب، وكدي عليه في المساجد، فإن شيخنا أباه- أبقاه الله- امتحن بالغربة في الرساتيق، وباع الشعر بالقراريط لا الدوانيق. وكانت معه والدة هذا الرقيع من شقاع وشلاق، وحراب وسرماط، ولعلها حملت به في ليلة غير مزءودة طوعا، وعقد نطاقها محلول، والسقاع لشهوتها مبلول، في محراب مسجد أو إسطبل قرية، أو خرق شحاذين، أو مسطبة مقيفين. وقد حكى لي الرئيس أبو الحسين علي بن الحسين بن الراحل، وكان صادق اللهجة صحيح الرواية متحريا فيما يورده، مستحرزا فيما يذكره ويسنده، وهو ترب شيخنا أبي عبد الله سلمان والد هذا الأحمق الرقيع، وأبي هذا الخسيس الوضيع: كنا جميعا في خدمة الأمير حسام الدولة ابن أبي الشوال فذكر أن عبد الله الفتى النهرواني والد الشيخ سلمان كان شيخا اصطيلا يتطايب بين يدي حسام الدولة ويتمصفع مع أدب كان فيه وفضل، وجد من معرفة وهزل، وظرف مقول، ولطف مقبول، وكان موصوفا بطول الأير، وكان يدس عليه بعض الفراشين إذا سكر فيشد في إحليله خيطا، ويقوده في الدار قودة شوطا، فينشد وهو عريان سكران يضرب جنبيه بإبطيه:
ثم ينخر ويضرط ويقول:
إن رأيت لها شبها فلا تدعني أبا جعل.
تبظرم هذا الفتى الزائد، على لؤم عنصره شاهد، ومن أمه أليست تلك الضروط، ووالدة ذلك الوالد، فكيف يتيه وأنى له؟! مهلا مهلا أيها الفتى، علام وحتى متى، تعقد أنفك تيها، ولا ترى لك في الرياسة شبيها، وتجري في ميدان حمقك، وتتبع شيطان خرقك؟ كأنك لم تدر أن المعلمين أخس خلق الله أقدارا، وأوضعهم فخارا، وأقلهم عقولا، وألأمهم فروعا وأصولا، وأن الإجماع منعقد، والقول متفق، والاتفاق واقع، على أن المعلمين- وإن رجعوا إلى أدب وعلوم، ومعرفة المنثور والمنظوم- لا عقول لهم ولا حلوم، ولا يذكرون في عير، ولا يعدون في نفير:
هذا، أطال الله بقاء الشيخ الفقيه الأديب حالي، وصورة آمالي، فكيف ينطق لساني بمقال مرضي، أو يسمح خاطري بمعنى زكي:
فهذا، أطال الله بقاءه في نعمة كرويته صافية، ورتبة كهمته حالية، ودولة كأيره قائمة، وسعادة كظرفه لازمة دائمة، فرق ما بيني وبين الشعراء السابقين، والأدباء السالفين، وقد رضيت حكما مع شرة التحكيم على بني هاشم بدفع كل ظالم:

  • دار الغرب الإسلامي - بيروت-ط 0( 1993) , ج: 3- ص: 1390