أحمد بن الطيب السرخسي- يعرف بابن الفرانقي أحد العلماء الفهماء المحصلين، الفصحاء البلغاء المتقنين، له في علم الأثر الباع الوساع، وفي علوم الحكماء الذهن الثاقب الوقاد وبسطة الذراع، وهو تلميذ الكندي، وله في كل فن تصانيف ومجاميع وتواليف. كان أحد ندماء أبي العباس المعتضد بالله والمختصين به، فأنكر منه بعض شأنه، فأذاقه حمامه صبرا وجعله نكالا، ولم يرع له ذمة ولا إلا.
وقال في «تاريخ دمشق» ذكره أبو الحسن محمد بن أحمد بن القواس قال: ولي احمد بن الطيب الحسبة يوم الاثنين والمواريث يوم الثلاثاء وسوق الرقيق يوم الأربعاء لسبع خلون من رجب سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وفي يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين غضب المعتضد على أحمد بن الطيب، وفي يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الأولى ضرب ابن الطيب مائة سوط وحول إلى المطبق، وفي صفر سنة ست وثمانين ومائتين مات ابن الطيب السرخسي.
حدث أبو القاسم عن عبد الله بن عمر الحارثي قال حدثني أبي قال حدثني أبو محمد عبد الله بن حمدون نديم المعتضد قال: كان المعتضد في بعض متصيداته مجتازا بعسكره وأنا معه، فصاح ناطور في قراح قثاء، فاستدعاه وسأله عن سبب صياحه، فقال: أخذ بعض الجيش من المقثأ شيئا، فقال: اطلبوهم، فجاءوا بثلاثة أنفس، فقال: هؤلاء الذين أخذوا القثاء؟ فقال الناطور: نعم، فقيدهم في الحال وأمر بحبسهم، فلما كان من الغد أنفذهم إلى القراح وضرب أعناقهم فيه وسار، فأنكر الناس ذلك وتحدثوا به ونخبت قلوبهم منه، ومضت على ذلك مدة طويلة، فجلست أحادثه ليلة فقال لي: يا عبد الله هل يعتب الناس علي شيئا عرفني حتى أزيله، فقلت: كلا يا أمير المؤمنين، فقال: أقسمت عليك بحياتي إلا صدقتني، قلت: يا أمير المؤمنين وأنا آمن؟ قال: نعم، قلت: إسراعك إلى سفك الدماء، فقال: والله ما هرقت دما قط منذ وليت هذا الأمر إلا بحقه، قال: فأمسكت إمساك من ينكر عليه الكلام، فقال: بحياتي لما قلت، فقلت: يقولون إنك قتلت أحمد بن الطيب، وكان خادمك، ولم تكن له جناية ظاهرة، فقال: ويحك إنه دعاني إلى الإلحاد فقلت له: يا هذا أنا ابن عم صاحب هذه الشريعة، وأنا الآن منتصب منصبه، فألحد حتى أكون من؟ وكان قد قال لي: إن الخلفاء لا تغضب، وإذا غضبت لم ترض، فلم يصح إطلاقه. فسكت سكوت من يريد الكلام، فقال: في وجهك كلام، فقلت: الناس ينقمون عليك أمر الثلاثة الأنفس الذين قتلتهم في قراح القثاء، فقال: والله ما كان أولئك المقتولون هم الذين أخذوا القثاء، وإنما كانوا لصوصا حملوا من موضع كذا وكذا، ووافق ذلك أمر أصحاب القثاء، فأردت أن أهول على الجيش بأن من عاث من عسكري وأفسد بهذا القدر كانت هذه عقوبتي له ليكفوا عما فوقه، ولو أردت قتلهم لقتلتهم في الحال والوقت، وإنما حبستهم وأمرت باخراج اللصوص من غد مغطين الوجوه ليقال إنهم أصحاب القثاء، فقلت: فكيف تعلم العامة؟ قال: باخراجي القوم الذين أخذوا القثاء أحياء، وإطلاقي لهم في هذه الساعة، ثم قال: هاتم القوم، فجاءوا بهم وقد تغيرت حالهم، فقال لهم: ما قصتكم؟ فاقتصوا عليه قصة القثاء فاستتابهم عن فعل مثل ذلك وأطلقهم فانتشرت الحكاية فزالت التهمة .
وقيل إن السبب في قتل أحمد بن الطيب دعاؤه للمعتضد إلى مذهب الفلاسفة والخروج عن الاسلام فاستحل قتله، فلما أجمع على قتله أنفذ إليه: أنت كنت عرفتنا عن الحكماء أنهم قالوا: لا يجب للملوك أن يغضبوا، فإذا غضبوا لا يجب لهم أن يرضوا، ولولا هذا لأطلقتك لسالف ذمتك وخدمتك، ولكن اختر أي قتلة تحب أن أقتلك. قال: فاختار أن يطعم اللحم المكبب ويسقى الشراب العتيق حتى يسكر ثم يفصد من يديه ويترك دمه يجري إلى أن يموت. فأمر المعتضد بذلك ففعل به، وظن أحمد أن دمه إذا انقطع مات في الحال بغير ألم، فانعكس ظنه. قال: وذلك أنه لما فصد نزف جميع دمه ثم بقيت معه من الحياة بقية فلم يمت وغلبت عليه الصفراء، فصار كالمجنون ينطح برأسه الحيطان ويصيح ويضج لفرط الآلام، ويعدو في مجلسه ساعات كثيرة إلى أن مات. فبلغ المعتضد ذلك فقال: هذا اختياره لنفسه، وأيش في الفساد بأكثر مما اختاره لنفسه من الرأي الذي جر عليه القتل. وكان المعتضد بالله يعدد بعد قتله إياه ذنوبه إليه والأمور التي أنكرها عليه ليعلم أنه كان مستحقا لما عامله به: فمنه: أنه كان لأحمد بن الطيب مجلس يجتمع إليه فيه أهل العلم يفاوضونه ويفاوضهم، فقال المعتضد: فكنت ربما سألته عن هذا المجلس وما يجري فيه فيخبرني. وسألته في بعض الأيام على عادتي فقال لي: يا أمير المؤمنين، مر بي أمس شيء ظريف، قلت: ما هو؟ قال: دخل إلي في جملة الناس رجل لا أعرفه، حسن الرواء والهيئة، فتوسمت فيه أنه من أهل الفضل والمعرفة، فلم ينطق من أول المجلس إلى آخره، فلما انصرف من كان حاضرا لم ينصرف معهم، فقلت له: ألك حاجة؟ قال: نعم، تخلي لي نفسك، فأنفذت غلماني، فقال لي: أنا رجل قد أرسلني الله تعالى إلى هذا البشر، وقد بدأت بك لفضلك، وأملت أن أجد منك معونة على ما بعثت له، فقلت له: يا هذا أما علمت أني مسلم أعتقد أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: علمت ذلك، وما جئتك إلا بأمر وبرهان، فهل لك في الوقوف على معجزتي؟ فأردت أن أعلم ما عنده فقلت له: هاتها، فقال: تحضر سطلا فيه ماء، فتقدمت باحضاره، فأخرج من كمه حجرين أبيضين صلدين كأشد ما يكون من الصخر، فقال: خذهما، فأخذتهما، فقال: ما هما؛ قلت: حجرين، فقال لي: رم أن تكسرهما، فلم أستطع لشدتهما وصلابتهما، فقلت: ما أستطيع فقال: ضعهما في السطل، فوضعتهما، وقال: غطهما، فغطيتهما بمنديل، وأقبل علي يحدثني، فوجدته ممتعا كثير الحديث سديد العبارة حسن البيان صحيح العقل لا أنكر منه شيئا، فلما طال الأمر قلت له: فأي شيء بعد هذا؟ فقال: أخرج لي الحجرين، فكشفت عنهما، فطلبتهما فلم أجدهما، وتحيرت وقلت: ليس في السطل شيء، فقال لي: أنت تركتهما بيدك ولم أقرب منهما ولا لحظت السطل بعيني فضلا عن غيره، قلت: صدقت، قال: أما في ذلك إعجاز؟ فقلت له: بقيت عليك حال واحدة، قال: وما هي؟ قلت: أنك تجيء بحجر من عندي فتفعل به مثل هذا، فقال لي: وهكذا قال أصحاب موسى له: نريد أن تكون العصا من عندنا، فتوقفت عن جوابه لأتفكر فيه، فقام وقال لي: فكر في أمرك إلى أن أعود إليك. وانصرف، وندمت بعد انصرافه على إفراجي عنه، وأمرت الغلمان برده وطلبه، فتفرقوا في كل طريق فما وجدوه. فقال المعتضد لراوي هذا الخبر: أتدري ما أراد أحمد بن الطيب، لعنه الله، بهذا الحديث؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين، فقال: إنما أراد أن سبيل موسى، عليه السلام، في العصا كسبيل هذا الرجل في الحجر، وأن جميع ذلك بحيلة، وكان ذلك من اكثر ما نقمه عليه.
قال محمد بن إسحاق النديم: أحمد بن الطيب هو أبو العباس أحمد بن محمد بن مروان السرخسي، ممن ينتمي إلى الكندي وعليه قرأ ومنه أخذ، وكان متفننا في علوم كثيرة من علوم القدماء والعرب، حسن المعرفة جيد القريحة بليغ اللسان مليح التصنيف. كان أولا معلما للمعتضد ثم نادمه وحظي به، وكان يفضي إليه بأسراره ويستشيره في أمور مملكته، وكان الغالب على بن الطيب علمه لا عقله.
وكان سبب قتله أن المعتضد أفضى إليه بسر يتعلق بالقاسم بن عبيد الله وبدر غلام المعتضد فأذاعه بحيلة من القاسم مشهورة، فسلمه المعتضد إليهما فاستقصيا ماله ثم أودعاه المطامير، فلما كان في الوقت الذي خرج فيه المعتضد إلى فتح آمد فقتل أحمد بن عيسى بن شيخ، ثم أفلت من المطامير جماعة من الخوارج وغيرهم، وأمر المعتضد القاسم باتيان جماعة ممن يستحق القتل ليستريح من تعلق القلب بهم، فأثبتهم ووقع المعتضد بقتلهم، فأدخل القاسم أحمد بن الطيب في جملتهم فيما بعد فقتل، فسأل عنه المعتضد فذكر القاسم قتله فلم ينكره. وكان الذي نقمه المعتضد على أحمد بن الطيب أن عبيد الله بن سليمان دخل يوما على المعتضد بعد تغيظ المعتضد عليه من شيء بلغه عنه وخاطبه بما يكره، فلما خرج قال: يا أحمد ما ترى إلى هذا الفاعل الصانع وقد أخرب الدنيا واحتجن الأموال، وفي جنبه ثلاثة آلاف ألف دينار ما يمنعني من أخذها إلا الحلم عنه، وفعل الله بي وصنع إن أنا استعملته أكثر من هذا. قال: فخرج أحمد بن الطيب فوجد عبيد الله على الباب ينتظره، فحمله إلى داره وواكله وسقاه ووهب له مالا عظيما وخلع عليه خلعا كثيرة ورفق به وسأله أن يعلمه ما عساه جرى بعد خروجه من ذكره، فاستحلفه أحمد بن الطيب على كتمان ذلك. فحلف له، فخبره الخبر على حقيقته وودعه أحمد ونهض، فركب عبيد الله من عنده بعد أن عمل ثبتا يحتوي على جميع ما له من تبر وورق وضيعة وحرس وقماش وعقار ودابة وبغل ومركب وغلام وآلة وسائر الأعراض، وجاء إلى المعتضد فخاطبه على الأمور كما كان يخاطبه، فلما حضر وقت انصرافه قال: أريد خلوة من أمير المؤمنين لمهم عارض أذكره، فأخلى مجلسه، فحل سيفه بين يديه ومنطقته وقبل الأرض وبكى وقال: يا أمير المؤمنين، الله الله في دمي، أقلني واعف عني وهب لي الحياة واغفر لي إجرامي وما في نفسك علي، فأما مالي فوالله- وابتدأ يحلف بالطلاق والعتاق وما تبعه من أيمان البيعة- إن كتمتك منه شيئا، وهذا ثبت بجميع ما أملكه، وطيبة من نفسي وانشراح من صدري، بارك الله لك فيه، ودعني أخدمك وأخد م. فقال له المعتضد: ما بك إلى هذا حاجة ولا في نفسي عليك ما يوجب هذا. فقال: الآن قد علمت أن رأي أمير المؤمنين علي فاسد، إذ ليس يخرج إلي بما عنده في، ولا يقبل ما بذلته، ولا يقع منه عقاب وأخذ يلج في البكاء والتضرع، فرق له المعتضد وتغيظ من معرفته بذلك، فقال: أتحب أن أقول هذا؟ قال: نعم، قال: تصدقني عن السبب الذي حملك على هذا، فعرفه ما جرى له مع أحمد بن الطيب فرضي عنه وحلف له على ما سر به وخفف عن خاطره، ووثق له أنه لا يسيء إليه، وأنفذ في الحال وقبض على أحمد بن الطيب وحبسه.
وله من الكتب: كتاب مختصر قاطيغورياس. كتاب مختصر كتاب بارميناس.
كتاب مختصر كتاب أنالوطيقا الأولى. كتاب مختصر أنالوطيقا الثاني. كتاب الأعشاش وصناعة الحسبة الكبير. كتاب عش الصناعات والحسبة الصغير. كتاب نزهة النفوس، ولم يخرج بأسره. كتاب اللهو والملاهي في الغناء والمغنين والمنادمة والمجالسة وأنواع الأخبار والملح. كتاب السياسة الكبير. كتاب السياسة الصغير.
كتاب المدخل إلى صناعة النجوم. كتاب الموسيقى الكبير، مقالتان ولم يعمل مثله حسنا وجلالة. كتاب الموسيقى الصغير. كتاب الأرثماطيقي في الأعداد والجبر والمقابلة. كتاب المسالك والممالك. كتاب الجوارح والصيد بها. كتاب المدخل إلى صناعة الطب نقض فيه على حنين بن إسحاق. كتاب المسائل. كتاب فضائل بغداد وأخبارها. كتاب الطبيخ ألفه على الشهور والأيام للمعتضد. كتاب زاد المسافر وخدمة الملوك مقالتان، لطيف. كتاب المدخل إلى علم الموسيقى. كتاب آداب الملوك. كتاب الجلساء والمجالسة. كتاب رسالته في جواب ثابت بن قرة فيما سئل عنه. كتاب مقالته في النمش والكلف. كتاب رسالته في المساكين وطريف اعتقاد العامة. كتاب منفعة الجبال. كتاب رسالته في وصف مذاهب الصابئين. كتاب في أن المبدعات في حال الابداع لا متحركة ولا ساكنة .
دار الغرب الإسلامي - بيروت-ط 0( 1993) , ج: 1- ص: 287
أحمد بن الطيب السرخسي معلم المعتضد روى عنه أبو بكر محمد بن الأزهر وغيره
قال ابن النجار كان يري رأي الفلاسفة وقتل سكران
دار الكتب العلمية - بيروت-ط 1( 1995) , ج: 1- ص: 33
أحمد بن الطيّب السّرخسيّ.
أحد العلماء الفقهاء الفصحاء البلغاء، له في علم الأثر الباع الطويل، وفي علوم الحكماء الذّهن الثاقب، وهو تلميذ الكنديّ، وله في كلّ فنّ تصانيف وتواليف ومجاميع. وكان ينادم المعتضد بالله، فأنكر منه ما شابه فقتله.
وقد ذكره ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق، وقال: ولاّه المعتضد بالله الحسبة والمواريث في رجب من سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
وله من الكتب: كتاب اللهو والملاهي في النّساء والمغنين والمنادمة والمجالسة وأنواع الأخبار والملح، وكتاب نزهة النفوس، وكتاب السياسة ومختصره، وكتاب المسالك والممالك، وكتاب فضائل بغداد، وكتاب آداب الملوك، وكتاب الجلساء والمجالسة، وكتاب مذاهب الصابئين، وكتاب من قال بالإبداع، وكتاب رسالة في الشّاكّين وطوائفهم واعتقادهم، وكتاب منفعة الجبال، وكتاب النّمش والكلف، وكتاب جواب ثابت بن قرّة فيما سئل عنه، وكتاب زاد المسافر وخدمة الملوك، وكتاب المدخل إلى علم الموسيقى، وكتاب المسائل، وكتاب الأرثماطيقي، وكتاب المدخل إلى صناعة الطبّ، نقض فيه على حنين بن إسحاق، وكتاب الموسيقى ومختصره لم يعمل في فنّه مثله، وكتاب غشّ الصّناعات والحسبة ومختصره، وكتاب أنالوطيقا، وكتاب قاطيغورياس، وكتاب بارميناس، وكتاب المدخل إلى المنطق.
دار الغرب الإسلامي - تونس-ط 1( 2009) , ج: 1- ص: 263