أبو سلمى الكناني مطيع بن إياس الكناني أبو سلمى. قيل: إنه من دئل. كان شاعرا من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وليس هو من فحول الشعراء في تلك الأيام، ولكنه كان خليعا ظريفا حلو النادرة، طيبا ماجنا متهما في دينه، مأبونا. ومولده ومنشاؤه بالكوفة، وأبوه من أهل فلسطين الذين أمد بهم عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف في وقت قتاله ابن الزبير وابن الأشعث. فأقام بالكوفة وتزوج بها فولد له مطيع. وكان مطيع إذا حضرك ملكك، وإذا غاب عنك شاقك، وإذا عرفت به فضحك، وكان يجتمع هو ويحيى بن زياد الحارثي وحماد الراوية وابن المقفع ووالبة بن الحباب، ويتنادمون لا يفترقون ولا يستأثر أحد منهم على صاحبه بمال ولا ملك. وكان يرمى الجميع بالزندقة. ولام الناس مطيعا على يرمى به من الأبنة وقالوا له: أنت في أدبك وسؤددك وشعرك ترى هذه الفاحشة، فلو قصرت عنها، فقال: جربوه أنتم ثم دعوه إن كنتم صادقين، فانصرفوا عنه وقالوا له: قبح الله فعلك.
وقدم بغداد رجل يقال له: الفهمي، مغن محسن، فدعاه مطيع ودعا جماعة من إخوانه، وكتب إلى يحيى بن زياد يدعوه بهذه الأبيات:
عندنا الفهمي مسرو | ر وزمار مجيد |
ومعاذ وعباد | وعمير وسعيد |
وندامى يعملون الـ | ـقلز والقلز شديد |
بعضهم ريحان بعض | فهم مسك وعود |
القلز- بالقاف واللام والزاي: البدال. فأتاهم يحيى فأقام عندهم وشرب معهم، فبلغت الأبيات المهدي، فضحك منها وقال: تنايك القوم ورب الكعبة.
وخرج مطيع بن إياس ويحيى بن زياد حاجين، فقدما أثقالهما، وقال أحدهما للآخر: هل لك أن نصير إلى زرارة فنصف عنده ليلتنا، ثم نلق أثقالنا، فما زال ذلك دأبهما حتى انصرف الناس من مكة، فركبا بعيرين وحلقا رؤوسهما، ودخلا مع الحاج المنصرفين، فقال مطيع:
ألم ترني ويحيى إذ حججنا | وكان الحج من خير التجاره |
خرجنا طالبي خير وبر | فمال بنا الطريق إلى زراره |
فعاد الناس قد غنموا وحجوا | وأبنا موقرين من الخساره |
وقد روي هذا الخبر لبشار وغيره. وقد ذكرت أنا ما كنت كتبت به إلى بعض الأصحاب وهو:
أيا سيدا من فضله ونواله | ومعروفه قد جمل الناس والدنيا |
أنا لك حماد مطيع وأنت لي | رئيس مناي أنه أبدا يحيى |
أردت بذلك حماد الراوية ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد الحارثي، ومن شعر مطيع:
ويوم ببغداد نعمنا صباحه | على وجه حوراء المدامع تطرب |
ببيت ترى فيه الزجاج كأنه | نجوم الدجا بين الندامى تقلب |
يصرف ساقينا ويقطب تارة | فيا طيبها مقطوبة حين تقطب |
عليتا سحيق الزعفران وفوقنا | أكاليل فيها الياسمين المذهب |
فما زلت أسعى بين صنج ومزهر | من الراح حتى كادت الشمس تغرب |
وقال في جارية تعرف بجوهر جارية بربر:
يا بأبي وجهك من بينهم | فإنه أحسن ما أبصر |
وا بأبي وجهك من رائع | يشبهه البدر إذا يزهر |
جارية أحسن من حليها | والحلي فيه الدر والجوهر |
وريحها أطيب من طيبها | والطيب فيه المسك والعنبر |
جاءت بها بربر مكنونة | يا حبذا ما جلبت بربر |
كأنما ريقتها قهوة | صب عليها باردا سمر |
ووقف مطيع على رجل يقال له العمير من أصحاب المعلى الخادم، فجعل يعبث به إلى أن قال مطيع:
ألا أبلغ لديك أبا العمير | أراني الله في استك نصف أيري |
فقال له أبو العمير: يا أبا سلمى، لو جدت بالأير كله لا جدت به لي لما بيننا من الصداقة، ولكنك لحبك له لا تريده كله إلا لك، فأفحمه ولم يعاود العبث به. وقيل له: أي الأشياء أطيب عندك؟ قال: صهباء صافية، تمزجها غانية، بماء غادية. وكان الذي سأله الوليد، فقال له: صدقت. ورفع صاحب الخبر إلى المنصور أن مطيع بن إياس زنديق، وأنه يعاشر ابنه جعفرا وجماعة من أهل بيته، ويوشك أن يفسد أديانهم، فقال له المهدي: أنا به عارف وليس بزنديق ولكنه خبيث الدين فاسق، يستحل المحارم. قال: فأحضره وانهه عن صحبة أخيك. فأحضره وقال له أشياء وهو يجيبها ويعتذر عن بعضها، إلى أن قال له: بلغني أنك تتماجن على السؤال وتضحك الناس منهم. قال: لا والله ما ذاك من شغلي ولا جرى مني قط إلا مرة، فإن سائلا أعمى اعترضني وقد عبرت الجسر على بغلتي، فظنني من الجند، فرفع عصاه في وجهي، ثم صاح: اللهم سخر الخليفة لأن يعطي الجند أرزاقهم فيشترون من التجار الأمتعة، فيربحون، فتكثر أموالهم، فتجب الزكاة عليهم، فيتصدقون علي منها. فنفرت بغلتي من صياحه ورفعه العصا في وجهي حتى كدت أسقط في الماء. فقلت له: يا هذا، ما رأيت أكثر فضولا منك، سل الله أن يرزقك ولا تجعل بينك وبينه هذه الحوالات والوسائط التي لا يحتاج إليها، فإن هذه مسائل فضول. فضحك الناس منه. فضحك المهدي وقال: خلوا سبيله. وكان مطيع يعق أباه، فأقبل يوما من بعد ومطيع جالس مع إخوانه يشرب، فلما رآه أقبل على أصحابه وقال:
هذا إياس مقبلا | جاءت به بعض الهنات |
هواز فوه وأنفه | كلمون في أدنى الصفات |
وكأن سعفص بطنه | والثغر شين قرشات |
لما رأيتك آتيا | أيقنت أنك شر آت |
وكان له صديق من العرب يجالسه، فضرط ذات يوم، فاستحيى وغاب، ففقده مطيع وعرف سبب انقطاعه فكتب إليه:
أظهرت منك لنا هجرا ومقلية | وغبت عنا ثلاثا ليس تغشانا |
هون عليك فما في الناس ذو إبل | إلا وأينقه يشردن أحيانا |
واجتمع يحيى بن زياد ومطيع وجمع أصحابهما، فشربوا أياما تباعا، فقال لهم يحيى ليلة من الليالي وهم سكارى: ويحكم، ما صلينا منذ ثلاثة أيام، فقوموا بنا نصل. فقالوا: نعم، فقام مطيع فأذن وأقام. ثم تدافعوا للإمامة، فقال مطيع للمغنية: تقدمي فصلي بنا، فتقدمت تصلي بهم وعليها غلالة رقيقة وهي بلا سراويل. فلما سجدت بان حرها. فوثب مطيع وهي ساجدة فكشف عنه وقبله، وقطع صلاته ثم قال لهم في ذلك:
ولما بدا حرها جاثما | كرأس حليق ولم تعتمد |
سجدت عليه وقبلته | كما يفعل الساجد المجتهد |
فقطعوا صلاتهم وضحكوا وعادوا إلى شربهم. وسقط لمطيع حائط فقال له بعض أصحابه: احمد الله على السلامة. فقال له:احمده أنت الذي لم ترعك هدته ولم يصل إليك غباره ولم تغرم أجرة بنائه. وهو الذي يقول في نخلتي حلوان:
أسعداني يا نخلتي حلوان | وابكيا لي من ريب هذا الزمان |
واعلما أن ريبه لم يزل يفـ | ـرق بين الألاف والأقران |
ولعمري لو ذقتما ألم الفر | قة أبكاكما الذي أبكاني |
أسعداني، وأيقنا أن نحسا | سوف يلقاكما فتفترقان |
لما خرج الرشيد هارون إلى طوس، هاج به الدم بحلوان، فوصف له أكل الجمار، فلم يكن بحلوان إلا تلك النخلتان اللتان في العقبة، فقطع له رأس إحداهما وأتي به وراح. فلما انتهى إلى العقبة نظر إلى القائمة وإذا عليها مكتوب هذه الأبيات، فاغتم لذلك وقال: لو سمعت بهذا الشعر ما قطعتها ولو قتلني الدم، ويعز علي أن أكون النحس الذي فرق بينهما. وأخبار مطيع كثيرة في كتاب الأغاني. وتوفي سنة تسع وستين ومائة.