التصنيفات

ابن مسرة

محمود بن عيسى بن مشرف بن صالح نشء الدين أبو الثناء الأنصاري الدمشقي المعروف بابن مسرة. خاله خدم جماعة من الملوك في دار الطراز، وحضر والده فتوحات الشام مع السلطان صلاح الدين، توفي رحمه الله سنة اثنتين وستين وست مائة، ومن شعره:

# الشهاب محمود محمود بن سلمان بن فهد الإمام العلامة البارع البليغ الكاتب الحافظ، شهاب الدين أبو الثناء محمود الحلبي الدمشقي الحنبلي صاحب ديوان الإنشاء بدمشق. ولد سنة أربع وأربعين وست مائة، وتوفي ليلة السبت ثاني عشرين شعبان سنة خمس وعشرين وسبع مائة، كان يقول: إن ابن خليل أجاز له، وسمع بدمشق من الرضى ابن البرهان ويحيى بن عبد الرحمن الحنبلي والشيخ جمال الدين ابن مالك وابن هامل (المحدث) وغيرهم، وكتب المنسوب ونسخ الكثير، وتفقه على ابن المنجا وغيره، وتأدب على ابن مالك، ولازم مجد الدين ابن الظهير (الإربلي)، وسلك طريقه في النظم وأربى عليه، وحذا حذوه في الكتابة. ونقله الوزير شمس الدين ابن السلعوس إلى مصر عقب موت يحيى بن عبد الظاهر، وتقدم ببلاغته وبديع كتابته وإنشائه وسكونه وتواضعه. وأقام بالديار المصرية إلى أن توفى القاضي شرف الدين ابن فضل الله (بدمشق)، فجهز (مكانه) إلى دمشق صاحب ديوان إنشائها، فأقام على المنصب ثمانية أعوام، وتوفي رحمه الله.
وولي بعد (ولده) القاضي شمس الدين، وصلى عليه الأمير سيف الدين تنكز ودفن في تربته بسفح قاسيون.
وقرأت عليه المقامات الحريرية بدمشق وبعض ديوان المتنبي وحماسة أبي تمام وألفية ابن مالك وكتابه: حسن التوسل إلى صناعة الترسل، وكتابه: أهنى المنايح في أسنى المدائح، وكتبتهما بخطي، وكثيرا من شعره ونثره. وكتبت أنا على كتاب حسن التوسل:
وله من التصانيف: مقامة العشاق، وكتاب منازل الأحباب ومنازه الألباب، وقد أجاز لي كل ما يجوز له روايته وجميع ما له من منظوم ومنثور، ما قرأته عليه وما لم أقرأه، وكان ممن أتقن الفنين نظما ونثرا، وبرع في الحالتين بديهة وفكرا، وكان يرغم هو أن نثره أحسن من نظمه، وأن بدره فيه أكمل منه في تمه. والذي أراه أنا وأبرأ فيه من العناية والعنا، أن نظمه أعذب في الأسماع وأقرب إلى انعقاد الإجماع، لأنه انسجم تركيبا وازدحم تهذيبا، فسحر الألباب ودخل بالعجب من كل باب، وإن كان نثره قد جوده وأجراه على قواعد البلاغة وعوده، فإن شعره أرفع من ذاك طبقة وأبعد شأوا على من رام أن يلحقه، وهو يحذو فيه حذو سبط التعاويذي، وقصائده مطولة فائقة، وليس يرتفع فيها ولا ينحط، بل هي أنموذج واحد ليس فيها ما يرمى، ولم يكن بغواص على المعاني، ولا يقصد التورية، فإنها جاءت في كلامه قليلة، ومقاطيعه قليلة جدا، ولكن قصائده طويلة طائلة هائلة كثيرة، لعلها تجيء في ثلاث مجلدات أو أربعة، ولم يجمعها أحد، وهي كما قال ابن الساعاتي:
وأما نثره، فيجيء في أزيد من ثلاثين مجلدة، وكان أخيرا ينشئ هو ويكتب ولده القاضي جمال الدين إبراهيم، فيجيء التوقيع أو المنشور فائقا في خطه ولفظه. وعلى الجملة، فكان من أئمة الكتاب وجلة البلغاء. وكانت له معرفة بأديان الناس وتراجمهم، ومعرفة بخطوط كتاب المنسوب. وهو من أعيان المشايخ الذين رأيتهم ورويت عنهم. فهو أحد الكملة الذين عاصرتهم. وكان قد عين لقضاء الحنابلة بالديار المصرية، بينه وبين أهل عصره مكاتبات ومراجعات. وكتب إليه ناصر الدين حسن ابن النقيب:
فأجابه بقوله:
وكتب إليه السراج الوراق ملغزا في سجادة:
فكتب إليه الجواب ومن خطه نقلتهما:
وأنشدني من لفظه لنفسه علاء الدين ألطنبغا الجاولي:
وأخبرني من لفظه الشيخ علاء الدين علي بن غانم قال: عاتبني شهاب الدين محمود يوما وقال: بلغني أن جماعة ديوان الإنشاء يذمونني وأنت حاضر ما ترد غيبتي، فكتب إليه:
قال: فكتب إلي بأبيات منها:
قال: فلم تكن بعد ذلك إلا أيام قلائل حتى توفي رحمه الله وأكله الدود. وقلت أنا أرثيه رحمه الله تعالى، وكنت يومئذ بالديار المصرية، ولم أكتب بها لأحد:
ومن بديع إنشائه الذي هو في الذروة، رسالة أنشأها في معنى قدمه لرمي البندق، وغالب معانيها مأخوذ من قصيدة عينية مطولة لابن الرومي، وهي مما قرأته عليه:
الرياضة - أطال الله بقاء الجناب الفلاني - وجعل حبه كقلب عدوه، واجبا، وسعده كوصف عبده للمسار جالبا، وللمضار حاجبا. تبعث النفوس على مجانبة الدعة والسكون، وتصونها عن مشابهة الحمائم في الركون إلى الوكون، وتحضها على أخذ حظها من كل فن حسن، وتحثها على إضافة الأدوات الكاملة إلى فصاحة اللسن، وتأخذ بها طورا في الجد وطورا في اللعب، وتصرفها من ملاذ السمو في المشاق التي يستروح إليها التعب. فتارة تحمل الأكابر والعظماء في طلب الصيد على مواصلة السرى ومقاطعة الكرى، ومهاجرة الأوطان ومهاجرة الأخطار، ومكابدة الهواجر، ومبادرة الأوابد التي لا تدرك حتى تبلغ القلوب الحناجر. وذلك من محاسن أوصافهم التي يذم المعرض عنها. وإذا كان المقصود من مثلهم جد الحرب، فهذه صورة لعب يخرج إليها منها. وتارة تدعوهم إلى البروز إلى الملق، وتحدوهم في سلوك طريقها مع من هو دونهم على ملازمة الصدق ومجانبة الملق، فيعتسفون إليها الدجا إذا سجا، ويقتحمون في بلوغها جرف النهار إذا انهار، ويتنعمون بوعثاء السفر في بلوغ الظفر، ويستصغرون ركوب الخطر في إدراك الوطر، ويؤثرون السهر على النوم، والليلة على اليوم، والبندق على السهام، والوحدة على الالتئام.
ولما عدنا من الصيد الذي اتصل به حديثه، وشرح له قديم أمره وحديثه، وتقنا إلى أن نشفع صيد السوائح برمي الصوادح، وأن نفعل في الطير الجوانح بأهلة القسي ما تفعل الجوارح، تفضيلا لملازمة الارتحال على الإقامة في الرحال وأخذا بقولهم:
فبرزنا وشمس الأصيل تجود بنفسها، وتسير في الأفق الغربي إلى جانب رمسها، وتغازل عيون النور بمقلة أرمد، وتنظر إلى صفحات الورد نظر المريض إلى وجود العود، فكأنها كئيب أضحى من الفراق على فرق، أو عليل يقضي بين صحبه بقايا مده الرمق، وقد اخضلت عيون النور لوداعها، وهم الروض بخلع حلته المموهة بذهب شعاعها:
إلى أن نضى المغرب عن الأفق ذهب قلائدها، وعوضه عنها من النجوم بخدمها وولائدها، فلبثنا بعد أداء الفرض لبث الأهلة، ومنعنا جفوننا أن ترد النوم إلا تحله. ونهضنا وبرد الليل موشع، وعقده مرصع، وإكليله مجوهر، وأديمه معنبر، وبدره في خدر سراره مستكن، وفجره في حشا مطالعه مستجن، كأن امتزاج لونه بشفق الكواكب خليطا مسك وصندل، وكأن ثرياه لامتداده بأمراس كتان إلى صم جندل:
إلى حدائق ملتفة، وجداولة محتفة، إذا جمش النسيم غصونها أعنقت عناق الأحباب، وإذا فرك من المياه متونها انسابت من الجداول انسياب الحباب، ورقصت في المناهل رقص الحباب، وإن لثم ثغور نورها، حيته بأنفاس المعشوق. وإن أيقظ نواعس ورقها غنته بألحان المشوق، فنسيمها وان، وشميمها لعرف الجنان عنوان، ووردها من سهر نرجسها غيران، وطلها في خدود الورد منبعث، وفي طرر الريحان حيران، وطائرها غرد، وماؤها مطرد، وغصنها تارة يعطفه النسيم إليه فينعطف، وتارة يعتدل تحت ورقائه فتحسب أنها همزة على ألف. معما في تلك الرياض ومن توافق المحاسن وتباين الترتيب، إذ كلما اعتل النسيم صح الأرج، وكلما خر الماء شمخ القضيب:
تحيط بملق نطافها صاف، وظلال دوحها ضاف، وحصباؤها لصفاء مائها في نفس الأمر راكد، وفي رأي العين طاف. إذا دغدغها النسيم حسبت ماءها بتمايل الظلال فيه يتبرج ويميل، وإذا اطردت عليه أنفاس الصبا ظننت أفياء تلك الغصون تارة يتموج، وتارة يسيل، وكأنه محب هام بالغصون هوى فمثلها في قلبه. وكأن النسيم كلف بها، وغار من دنوها إليه، فميلها عن قربه:
وكأن صواف الطير المبيضة بتلك الملق خيام أو ظباء بأعلى الرقمتين قيام، أو أباريق فضة رؤوسها لها فدام، ومناقيرها المحمرة أوائل ما انسكب من المدام، وكأن رقابها رماح أسنتها من ذهب، أو شموع، أسود رؤوسها ما انطفأ، وأحمره ما التهب. وكنا كالطير الجليل عده، وكطراز العمر الأول جده:
ومعهم قسي كالغصون في لطافتها ولينها، والأهلة في نحافتها وتكوينها. والأزاهر في ترافتها وتلوينها، بطونها مدبجة، ومتونها مدرجة، كأنها كواكب الشولة في انعطافها، أو أوراق الظباء في التفافها. لأوتارها عند القوادم أوتار، ولبنادقها في الحوصل أوكار. إذا مدت لصيد طير ذهب من الحياة نصيبه، أو انتصبت لرمي بدت لها أنه أحق بها من تصيبه، ولعل ذاك الصوت زجر لبنادقها أن يبطي في سيره، أو يتخطى الغرض إلى غيره، أو وحشة لمفارقة أفلاذ كبدها، أو أسف على خروج بنيها من يدها. على أنها طالما نبذت بينها بالعراء، وشفعت لخصمها التحذير بالإغراء
ومن البنادق كرات متفقة السرد متحدة العكس والطرد، كأنما خرطت من المندل الرطب، أو عجنت من العنبر الورد، تسري كالشهب في الظلام، وتسبق إلى مقاتل الطير مسدادت السهام.
تصونها جرادة كأنها درج درر أو ذرح غرر، أو كمامة نهر أو كنانة نيل، أو غمامة وبل، حالكة الأديم كأنما رقمت بالشفق جلة ليلها البهيم.
فاتخذ كل له مركزا، وتقاضى من الإصابة وعدا منجزا، وضمن له السعد أن يصبح لمراد محرزا
فسرت علينا من الطير عصابة أظلتنا من أجنحتها سحابة من كل طائر أقلع يرتاد مرتعا، فوجد، ولكن مصرعا. وأسف يبغي ماء جماما، فورد، ولكن السم منقعا. وحلق في الفضاء يبغي ملعبا، فبات هو وأشياعه سجدا للقسي وركعا. فتبركنا بذلك الوجه الجميل، وتداركنا أوائل ذلك القبيل. فاستقبل أولنا تما ثم بدره، وعظم في نوعه قدره، وكأنه برق كرع في غسق، أو صبح عطف على بقية الدجا عطف النسق. تحسبه في أسداف المنى غرة نجح، وتخاله تحت أذيال الدجا طرة صبح، وعليه من البياض حلة وقار، وله كرة من عنبر فوق منقار من قار، وله عنق ظليم، والتفاتة ريم، وسرى غيم يصرفه نسيم.
فأرسل إليه عن الهلال نجما، فسقط منه ما كبر بما صغر حجما. فاستبشر بنجاحه، وكبر عند صياحه، وحصله من وسط الماء بجناحه. وتلاه كي نقي اللباس، مشتعل شيب الراس كأنه في عرانين سيبه لا وبله، كبير أناس، إن أسف في طيرانه فغمام وإن خفق بجناحيه فقلع له بيد النسيم زمام، وذو غيبة كالجراب، ومنقار كالحراب، ولون يغر في الدجي كالنجم، ويخدع في الضحى كالسراب، ظاهر الهرم، كأنما يخبر عن عاد، ويحدث عن إرم.
فثنى الثاني إليه عنان بندقه، وتوخاه فيما بين أصل رأسه وعنقه، فخر كمارد انقض عليه نجم من أفقه، فتلقاه الكبير بالتكبير، واختطفه قبل مصافحته النماء من وجه الغدير. وقارنته إوزة حلتها دكناء وحليتها حسناء، ولها في الفضاء مجال، وعلى طيرانها خفة ذوات التبرج وخفر ربات الحجال. كأنما غبت في لهب، أو خاضت في ذهب. تختال في مشيتها كالكاعب، وتتأنى في خطوها كاللاغب، وتعطو بجيدها كالظبي الغرير، وتتدافع في سيرها مشي القطاة إلى الغدير:
فلوى الثالث جيده إليها، وعطف بوحه قوسه عليها، فلجت في ترفعها ممنعه، ونزلت على حكمه مذعنه، فأعجلها عن استكمال الهبوط، واستولى عليها بعد استمرار القنوط. وجادتها لغلغة تحكي لون وشيها، وتصف حسن مشيها، وتربي عليها بغرتها، وتنافسها في المحاسن كضرتها، كأنها مدامة قطبت بمائها، أو غمامة شفت عن بعض نجوم سمائها:
فنهض الرابع لاستقبالها ورماها عن فلك سعده بنجم وبالها، فجدت في العلو مغذة، وتطاردت أمام بندقه.
#ولولا أطراد الصيد لم تك لذة وانقض عليها من يده شهاب حتفها، وأدركها الأجل بخفة طيرانها من خلفها، فوقعت من الأفق في كفه، ونفر من بقايا صفها عن صفه، وأتت في أثرها أنيسة آنسه، كأنها العذراء العانسة، أو الأدماء الكانسه، عليها خفر الأبكار، وخفة ذوات الأوكار، وحلاوة المعاني التي تجلى على الأفكار. ولها أنس الربيب وإدلال الحبيب، وتلفت الزائر المريب من خوف الرقيب. ذات عنق كالإبريق أو الغصن الوريق. قد جمع صفرة البهار إلى حمرة الشقيق، وصدر بهي الملبوس شهي إلى النفوس،كأنما رقم فيه النهار بالليل، أو نقش فيع العاج بالآبنوس، وجناح ينجيها من العطب يحكي لونه المندل الرطب لولا أنه حطب.
فوثب الخامس منها إلى الغنيمة، ونظم في سلك رميه تلك الدرة اليتيمة، وحصل بتحصيلها بين الرماة على الرتبة الجسيمة، وأتى على صوتها حبرج تسبق همته جناحه، ويغلب خفق قوادمه صياحه، ومدبج المطا، كأنما خلع حلة منكبيه على القطا. ينظر من لهب، ويخطو على رجلين من الذهب.
فبدره السادس قبل ارتفاعه، وأعان قوسه بامتداد باعه، فخر على الألاءة كبسطام بن قيس.وانقض عليه راميه، فحصله بحذق، وحمله بكيس.وتعذر على السابع مرامه، ونبا به عن بلوغ الأرب مقامه، فصعد هو وترب له إلى الجبل، وثبت في موقفه من لم يكن له بمرافقتهما قبل. فعن له نسر ذو قوائم شداد، ومناسر حداد، كأنه من نسور لقمان بن عاد، تحسبه في السماء ثالث أخويه، وتخاله في الجو قبته المنسوبة إليه. قد حلق بالفقراء راسه، وجعل مما قصر من الدلوق الدكن لباسه. واشتمل من الرياش العسلي إزارا، واختار العزلة فلا تجد له إلا في الجبال الشواهق مزارا، قد شابت نواصي الليالي وهو لم يشب، ومضت الدهور وهو من الحوادث في معقل أشب.
فدنا من مطاره، وتوخى ببندقه عنقه، فوقع في منقاره، فكأنما هد منه صخرا، أو هدم به بناء مشمخرا. ونظر إلى رفيقه مبشرا له بما امتاز به عن رفيقه، وإذا به قد أظلته عقاب كاسر، كأنما أضلت صيدا أفلت من المناسر. إن حطت فسحاب انكشف، وإن أقامت، فكأن قلوب الطير رطبا ويابسا، لدى وكرها العناب والحشف. بعيدة ما بين المناكب، إذا أقلعت في الجو لجت في علو كأنما تحاول ثأرا عند بعض الكواكب.
فوثب إليها الثامن وثبة ليث قد وثق من حركاته بنجاحها، ورماها بأول بندقة فما أخطأت قامة جناحها، فأهوت كعود صرع، أو طود صدع. قد ذهب بأسها وتذهب بدمها لباسها. وكذلك القدر يخادع الجو عن عقابه، ويستنزل الأعصم عن عقابه. فحملها بجناحها المهيض، ورفعها بعد الترفع في أوج جوها من الحضيض، ونزلا إلى الرفقة، جذلين بربح الصفقة. فوجد التاسع قد مر به كركي طويل السفار، سريع النفار شهي العراق كثير الاغتراب، يشتو بمصر ويصيف بالعراق، لقوادمه في الجو هفيف، ولأديمه لون سماء طرأ عليه غيم خفيف، تحن إلى صوته الجواره، وتعجب من قوته الرياح البوارح. وله أثر حمرة في رأسه كوميض جمر تحت رماد، أو بقية جرح تحت ضماد، أو فص عقيق شفت عنه بقايا ثماد، ومنقار كسنان، وعنق كعنان، وكأنما ينوس على عودين من آبنوس.
فصبر له حتى جازه مجليا، وعطف عليه مصليا، فخر مضرجا بدمه، وسقط مشرفا على عدمه. وطالما أفلت لدى الكواسر من أظفار المنون، وأصابه القدر بحبة من حمأ مسنون. فكثر التكبير من أجله، وحمله راميه من على وجه الأرض برجله، وحاذاه غرنوق حكاه في زيه وقدره، وامتاز عنه بسواد رأسه وصدره. وله ريشتان ممدوتان من رأسه إلى حلقه، معقودتان من أذنيه مكان شنفه:
فأصغى العاشر له منصتا، ورماه ملتفتا، فخر كأنه صريع الألحان أو نزيف بنت الحان، فأهوى إلى رجله بيده وأيده، وانقض عليه انقضاض الكاسر على صيده، وتبعه في المطار صوغ كأنه من النضار مصوغ، تحسبه عاشقا قد مد صفحته، أو بارقا قد شب لفحته:
فاستقبله الحادي عشر ووثب، ورماه حين حاذاه من كثب، فسقط كفارس تقطر عن جواده، أو وامق أصيبت حبة فؤاده، فحمله بساقه، وعدل به إلى رفاقه، واقترن به مرزم له في السماء سمي معروف، ذو منقار كصدغ معطوف، كأن رياشه فلق اتصل به شفق، أو ماء صاف علق بأطرافه علق:
فانتحاه الثاني عشر ميمما، ورماه مصمما، فأصابه في زوره، وحصله من فوره، وحصل له من السرور ما خرج به عن طوره.
والتحق به شبيطر كأنه مدية مبيطر، ينحط كالسيل ويكر على الكواسر كالخيل، ويجمع من لونه بين ضدين، يقبل منهما بالنهار ويدبر بالليل، ويتلوى في منقاره الأيم تلوي التنين في الغيم:
فصوب الثالث عشر إليه بندقه، فقطع الحية وعنقه، فوقه كالصرح الممرد أو الطراف الممدد، وأتبعه عناز، وأصبح في اللون ضده وفي الشكل نده، كأنه ليل ضم الصبح إلى صدره أو انطوى على هالة بدره
فنهض تمام القوم إلى التتمة، وأسفرت عن نجح الجماعة تلك الليلة المدلهمة، وغدا ذلك الطير الواجب واجبا. وكمل العدد به قبل أن تطلع الشمس عينا أو تبرز حاجبا، فيا لها ليلة حضرنا بها الصوادح في الفضاء المتسع، ولقيت بها الطير ما طارت به من قبل على كل شمل مجتمع، وأصبحت أشلاؤها على وجه الأرض كفرائد خانها النظام، أو شرب كأن رقابهم من اللين لم يخلق لهم عظام، وأصبحنا مثنين على مقامنا، منثنين بالظفر إلى مستقرنا ومقامنا، داعين للمولى جهدنا، مدعين له قبلنا أو ردنا، حاملين ما صرعنا إلى بين يديه، عاملين على الشرف بخدمته والانتماء إليه.
والله تعالى يجعل الآمال منوطة به، وقد جعل، ويجعله كهفا للأولياء، وقد جعل. تمت
ومن شعره، رحمه الله:
وقال أيضا:
قلت: أعجبني قوله: فرضا لما فيه كم التورية، فقلت:
وقال رحمه الله:
قلت: فأعجبني هذا المنزع، فقلت مختصرا:
وقال رحمه الله:
قلت: يشبه قول القاضي ناصح الدين الأرجاني:
ومن هذه المادة قول جمال الدين ابن نباتة المصري:
قلت: لا يقال: إلا عظم مهيض، وأنا منهاض، فما أعرفه ورد في فصيح الكلام، والسقام لا علاقة له بالعظم، إنما هو باللحم والجلد تبعا لذلك، وعلى الجملة فهو من قول السراج الوراق:
وقال القاضي شهاب الدين محمود رحمه الله:
وقال أيضا رحمه الله:
وقال رحمه الله:
ومن إنشائه عن نائب السلطنة بالشام إلى الملك الأشرف وهو ولي العهد، جوابا عن حصان أشهب أدهم، تشريف وقماش سكندري، أرسلها هدية:
يقبل الأرض بالمقام الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الأشرفي الصلاحي، لازالت سحائب بره مستهلة، وركائب الأمل إلى كرم معروفه منهلة، ونجائب آلائه بمنح عدولائه نعما يقابل منها حلل الشموس، ويقبل منها غرر الأهلة، تقبيل عبد ثقل بالبر كاهله، وعجز عن حمل ما غمره من المعروف الذي هو في الحقيقة حامله، وينهي ورود المثال الشريف مقترنا بالصدقات العميمة التي شرفت قدره، وافترضت على الأبد دعاءه، ويلزم الأدب فلا يقولن وشكره، وهي ما اقتضاه حسن النظر الشري من التشريف الذي احتوى على جملة المحاسن، وبرز أحسن من ثوب السماء المموه بالأصيل، والقماش السكندري الذي يستوقف البسيط وحسن نفو... الوصف لطف تأليفه، ويخجل ما رقمته في الأرض الأنواء، ويخمل ما خلعته على الروض السماء، والحصان البرقي الذي هو كالليل ملبسا، والنسيم ملمسا، والصخر الأصم، إلا أنه أسرى وأسرع من الخيال، والطود الأشم. إلا أن من علا تلا: {ويوم نسير الجبال} يتلعب بأعطافه مرح الصبا، ويتلفت في انعطافه رحمة للصبا، تفوت يداه مرامي عنانه، ويدرك شأو ذو البروق ثانيا من عنانه ما أباح الصباح تقبيله حتى لثم خجوله، ولا خلع على البرق ثوب الشفق حتى سابقه فأحرز دون السبق. ولا أخذ بمجامع القلوب إلا لأنه صبغ صبغة حب القلوب والحدق، ولا تقطعت أنفاس الرياح إلا لوقوفها حسرى دون غاياته، ولا سرت هواجس الأحلام في الظلام إلا لتطوي الأرض بسراها تحت راياته، ولا سمي طرفا إلا لمناسبة إنسان الطرف في لونه وسرعة إدراكه. ولا قيل له برقي إلا لمساهمة البرق في وصفه واشتراكه. وكيف لإنسان الطرف به، وذا يمدح بسرعته ويذم الإنسان بكونه خلق من عجل؟ وأنى للبروق بمباراته وحمرته دليل الخجل، وخفوقه أمارة الوجل؟ وكيف يدعي الليل أنه واهبه صبغة الليل المستقلة، وهو يتشرف إذ يعلوه هلال واحد، وهذا يطأ على أربعة أهلة.
وقابل المملوك هذه النعم بتقبيل الأرض لديها، واستقبل قبلة هذا الكرم بتوجه وجه تعبده إليها، وتشرف منها بملابس البر والإحسان، وافتخر بملك ذلك الطرف الذي هو في المعنى حصن وفي الصورة حصان. ورفل في حلل الافتخار، وسبق بذلك الأدهم كلما جاراه. فلولا نص الآية لتوهم أن الليل سابق النهار، وأيقن ببلوغ مآربه عليه، ثقة بسبقه، ورام لولا امتثاله الأمر المطاع في ركوبه أن يجله إعظاما لحقه، ويحقق المملوك ما أشارت إليه الصدقات الشريفة من الإنعام عليه قبل سؤاله، وانحفافه بالمنى التي لم يتقاضاها خواطر آماله. المملوك ينهي أن صدقاته الشريفة على مماليكه تفهم عن تقاضي عوارفها واستماحة عواطفها، وتكلهم إلى شريف آلائها، وتحيلهم على مذكرات برها واعتنائها. فقد أغنت المملوك أن يقترح، وناجته: قد نهضنا بحاجاتك فاسترح. ومن شعره ما أنشدنيه من لفظه لنفسه سنة ثلاث وعشرين وسبع مائة:
وقال:
وقال:
وقال مضمنا:
وقال:
وقال:
وقال
وقال:
وقال:
ومن نظمه ما كتب به إلى فتح الدين ابن عبد الظاهر:
كتب جمال الدين ابن نباتة إلى شهاب الدين محمود بمصر من دمشق المحروسة يقبل الأرض التي يخلق من ترابها المكارم، والقدم التي سومال خطواتها في الدنيا ما تم من المآثم، واليد التي إذا أمت غاية في الكرم، صلى وسلم من خلفها صوب الغمائم. وينهي لولا سناه الذي تنفست حسدا له المسك إذا فاح ومانا شوقه الذي ما له عن ذلك القلب المقيم على عهده من أبراح، وتاليا يسوقه لورود مشرفه منه، فإنها الطيف الذي لا يمنعه السهاد، ولا يردعه الصباح.
فولا طلب التخفيف عن سمعه الكريم، وخاطره الذي هو في كل واد يهيم. رابعا وخامسا، حتى ينتهي العدد إلى الألوف ويوصف، ولا سيما غيوث دمشق المرسلة النبال، وبروقها المهزوزة السيوف. فقد علم الله تعالى أنها تجري بعسفها ولعبت بصنعها وخدعته بحضراتها وأعشت فلوه بردائها، وتملكته رقا بظل رواقها، وأرسلت حمائمها الساجعة حتى جذبت الأهواء بأطواقها، وأدنته حتى ملكته وقرعت مودتها باب القلب، حتى إذا سلكته تحرك بردها فصار بردا. وتقعقع رعدها، فكأنما أرسل لتهديد الأجساد بردا. واستمر وبلها حتى كان في كل ميزاب كل سطح بردا، واشتمل أفقها برداء من الغيوم. ولولا مراعاة أهلها لقال بردا واستحبت في سكانها دعاء القائل:
وكان استدراك الأحزان لا يصح في قوله:
فالماشي بين خططها معذب، ولكن باتصال الرحمة. والمتحصن في بيته من بزال الغيث المنزل، يود أن كل سوداء فحمة. والنيران مشكورة الألسنة بكل لسان، وقوس السماء قد تدرع من حذق سهابه كل غدير، فكيف كل إنسان؟ وأوحال قد شملت سهلا وحزنا، وأهوال الثلوج قد سيبت الجبال صورة والمعارف معنى. ومع ذلك، فوالله إن المملوك لمشغوف بخلقها وخلقها، وأهلا يشهد محاسنها، وأثر ودقها، فليست والله بالبلد التي يطلق فيها السرور، وينزع فيها نزع الخاتم حلية الحلول وحبا الحبور.
أما الأدب ففيها منه رمق يصد الرجاء ويعين، ولديها سوق إن لم يكن فيه من بحار الحمد ذوو ألاف، فإن فيه سهم ذوي منن. واعتذر علي والله بفرقة مصر وما فيها، وملاطفة أهوائها وهوى أبنائها، وكل يوم يشار فيه لمقياسها بالأصابع، وكل شختور كالعقرب على أفعوان الماء، إلا أن منظره رائق غير رائع، وروضه تزهى بجانبيها الوسمين، وينزل بدارها من البحرين كريهن ومنشأه كم أنشأت المقاصد سرورا ورزقا وتجلت بمقعد علائي أطنب فيه المدائح، وما قالت الأصدقاء تبدو عجائب الحسن بين ليل رجاه ونهاره، ويلذ لوارده إلا من يفسد بصره في مسلسل أنهاره، وتتحير الأذهان هل أزهاره من ألفاظ منشئه أم ألفاظ منشئه من أزهاه؟ فهي تلتقط من الجميع دررا، ويتناول عند الاستماع والنظر زهرا، ويمنع بحر، وهذا قطعا للشك، وكذا يفعل الذي يتحرا. فلله ذلك الوطن العالي والسكن الخالي، والمنزل المعمور الذي ما ظفر بمثله الزمن الخالي. ما أحسن ما دأبه فيه، عليل النسيم، فكأنه يطلب الشفا، وما أبهج ما سعى نحوه النيل، كأنه يتعلم من ساكنه الكرم والوفاء.
ويعود المملوك لذكر مصر وأوقات أمن لذيذة الانبساط، وعرائس قرى قد تحلت من مزارعها بتلك الأقراط، ومقطعات نيل هي مقطعات وشي تلك الزروع، وخلج لا يلام طرف من فارقها إذا جرى على خديه مثلها من الدموع. إلى غير ذلك من ماره بروق البصر رفعا وخفضا، ومنازل لقطانها المؤمنين يشد بعضها بعضا، ولقد ذكرني هذه الساعة قول القاضي السعيد سقى الله تربه ونور ضريحه كما نور قلبه:
فوالله ما أسري الشام وظله وغوطته الخضرا بشبرين من شبرا. فنظم:
إلا أنه ذكر تلك الأرض التي لو حرك بها القطا، والموطن الذي ما مل قط حبه، إلا لئن عدم في آخر الأمر منه ملقطا. طلع عن مصر تصانيف السلو، ولكن على عدم ضبطها، وتعليق خطها، لا جرم أنه يستثقلها على فكره، ويضيق صدرا بسطر واحد من كتابها فينبذه وراء ظهره. ما الحب إلا للحبيب الأول.
فمن له بنظرة علانية تصل بها زرقه، ويعتق من هذا الاغتراب رقه. فوالله ما يضيق حسابه العد بيد واحدة، ولا يلام سحبه في سقيا الروض الباسمة أسوة الفيافي الهامدة. وإن للمملوك لسانا قائلا، وقلما جائلا، وألفاظا إذا تأملها العقل علم أن المتقدم قد أبقى للمتأخر عقائلا. وطريقتي حسنا، إلا أنها محتاجة مع حسنها أن يحا وحشت أبا العلم المأمور بالاختصار إلا جماحا، وقطع لسانه بالحديد، ولسان الشاعر بالذهب، فازداد إيضاحا، فلا بد أن يجري ذكر حماه وحماها، وطيب النهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، ومناقب عمادها الذي يغتاظ من لسانه القمر إذا تلاها، وبساتينها إذا ربيت أزهارها، وذللت مع عزة الحسن ثمارها وغنت خلف ستور الأوراق على عيدان الغصون أطيارها. ونواعيرها التي تحط فتبكي على العاصي وتنوح وتسجع، فكأنما تعلمت منذ كانت غصنا سجع الحمام الصدوح، ومراكبها التي ذكرته على البعد من مصر أمرا، وأماكنها التي صغرت في عينه تلك الأماكن، وقد كان على حسنها مصرا، ونهرها ومحلها الذي صححا عنده قول القائل:
دخلها المملوك مسلما فكأنما دخل دار السلام من الجنة، وقصد باب صاحبها فكأنما قصد هرم بن سنان، وقد عاد في الكرم شرخ الشباب سنه، جالسه فكأنما البدر الأنور، وشكا لديه الظمأ، ففاض من كل أنملة منها بحر نهر الجعفر. وأكثر مدحه، إلا أنه أعز الله نصره، مدح مولانا أكثر، فما اتفقت مذاكرة إلا ولذكره منها موضع الذكر الحكيم من الكتب، ولا عرضت فائدة إلا ولفوائده على غيرها مزية التخصص والقرب، ومثل فضائله من لا يخجل من وثق بها وتمسك وحث، فعم الأقطار نشرها المسكي، فما يلام من تعنبر بها وتمسك. وما هو إلا شخص الأدب الباقي، فمنع الله أن يمسه، وكان لأجل السجع يقول: أن يمسك. وبقيت ما بقي البقاء، فإن دنا منه الفناء بقيت أو يفنى الفناء.
وسطر هذه الخدمة من دمشق بعد أن رحل إلى حلب، فحلبها وتقاضى تلك المودة العمادية، فحلبها وخلبها، وجد من دوام التسيار كل الحيف، وقاسى في طرقها ذاهبا وعائدا مصاحب رحلة الشتاء والصيف. وسرح نظره في ذلك البلد ومعقله، وفكر في تلك الآثار التي يبكي قميص حسنها وفيه عرف مندله، ورأى الشهباء التي فاتت قلاع الأرض الحسن سبقا. وأهدى مدائح رؤسائها فأهداها لذوي همم بقرا وبرقا وسه العود إلى بين يدي مولانا أرى كل الصيد، ويغني الله عن زيد، ويتحمل تلك الأيادي العميمة، ويتحمل بالمثول على تلك الأبواب الكريمة، ويلتقط من بنات فكره كل جوهرة يتيمة. هذا إن عطف الله تلك القلوب وأطلعها على جملة استحقاقه فعوضته في الرزق على دكائه المحبوب، وأيم الله، ما نظر فيها، بل ما يعتقد إلا الخير الأرجح والمجد الأسمى والفضل الأسمح، وما يراها إذا جنح ليل الطلب إلا لكلما يقرب إلى الله تنحنح.
وحدثني يا سعد عنهم فزدتني للأبواب الفلانية، لا زالت الأقدار جارية تقصدها، والأيام زاهية بمجدها، والليالي باسطة كف البها، تمتاز من سعدها، ملتوية بسفاه الضمائر عتبايها، مخدومة بتقبيل الأرض على البعد جهاتها، مخصوصة بسلام أرق من النسيم رياضه الزاهرة، ممدوحة بألفاظ كالدرر بحار كرمها الزاخرة. فما لبس المملوك نعمها أطواقا إلا ليسجع بمدحها، وما أفنى عمره في تسطير مدائحها كتبا إلا ليبتهج بتصفحها، ترحلت عنهم لي أما في نظره وعشر، وعشر بعدها من ورائيا. والله تعالى يؤيد تلك الهمم ويؤيدها بحفظ شمل المعالي. تلك المكارم التي تهدم الأفعال الأموال وسيدها، أرسل المملوك قرين هذه الخدمة كتابا يسأل الصدقة الجارية، لا بل المالكية سرعة إنفاذه إليه ومطالبة عواقب من يدفع أول ولد عليه:
إن شاء الله تعالى.
فأجاب شهاب الدين محمود رحمه الله: يقبل اليد لا زالت تولي الندى إلى خدمها، وتنوب عن مناهل الكرم عند عدمها، وتحمل بخل الأنواء على الربا برقوم قلمها، وترفع منار الفضائل لسالكها، فلا يرى إليها سرابا للأفكار إلا كان تحت علمها. تقبيل مستلم لأركانها، مسلم لها البلوغ في البلاغة إلى غاية يدق على الخواطر معرفة مكانها، وينهي ورود مشرفته الرافلة في حلل الفصاحة في أفخر برودها المتبرجة، في أبهر عقودها المزينة على ما تسحبه العمائم من حلل الربا المنبئة عما أودعته الكمائم عند رسل الصبا، الطالعة في أفق مهرقها طلوع أهلة الأعياد في الشفق، الحليعة بين حمرة قرطاسها وسواد أنفاسها، وبين نضارة الخدود ونظرات الحدق المعوذة سدف سطورها وإضاءة معانيها بالليل {وما وسق، والقمر إذا اتسق}. فوقف منها على رياض مونقة، وغياض بخمائل البيان مورقة، وأفنان بفنون البلاغة مثمرة، ومعان أضاءت في إناء سطورها فكأنها الليلة المقمرة، وعلى ما اشتملت عليه من الحنين إلى أرض مس جلدة ترابها، والشوق إلى بلاد بها أوطانه وأوطاره، ولذات نفسه وأترابها، وما كابده الآن بالبلاد الرومية من توالي العمايم ونفحات البرد التي تلذ عندها نفحات السمائم. وتتابع السيول التي يكاد الأجياد البجاد إلى مناط التمائم. وإن البرد تواتر ريده، والبرد تناثر فريده، والجليد انتظمت على مفارق الطرق وأجياد الربا تيجانه وعقوده، وأنها غربة بطلاوة مصيفها وطرواة خريفها، إلى أن تنكر له وجه شتائها الكالح، وتناءت عنه تلك المحاسن، وقد غادرت ما غادرت بين الجوانح، والمولى معذور في ذلك، فإنه رأى شيئا ما ألفه، وشاهد شتاء ما عرفه، وكابد بردا سمع به ولكنه ما صدق من وصفه، وربما سمع قول الشاعر في ذلك:
وأيضا فإن الديار المصرية وطنه، وبها مكسبه وسكنه، وفيها قلبه، وإن كان في غيرها بدنه، وهي بالضرورة أحنى عليه من غيرها، وإن كان ضاق بها عطنه، ومن أفقها بزغت شمس فكرة، وطلعت كواكب نظمه ونثره، وهي جديرة بأن تحب لذاتها السنية ولذاتها الهنية، واشتمالها على أسباب المحاسن، وانفرادها بالهوا الطاب والماء الغير آسن، والشتاء الذي هو ربيع غيرها، والربيع أحسن الفصول، والبحر الذي إذا سن عليه نسيم السحر درعه، أشبه انعكاس أشعة الكواكب فيه مواقع النصول. والقلوع التي تصرفها الرياح كما تصرف في غيرها الغمائم، والحدائق التي إذا أثمرت خلت تبرج العذارى في العقود، ومرح الولدان في التمائم، والمقطعات التي راووق سراجها النسيم، ومزاج كاسها التسنيم، وبسط وارديها عيون نورها الغواير، وخدود وردها الوسيم، إلى غير ذلك من محاسن بناتها وأبنائها. وكمال منشآتها الزاهية بعلائها على الدراري في إشراقها واعتلائها. وإيوانه الذي أنشأه بها يهزأ بإيوان المدائن. وإذا انتهى الوصف فيه إلى غايته بقي من محاسنه أشياء يستدركها على الواصف المعاين، ومما قلت فيه:
لكن ظهر للمملوك من كلام المولى تحايل على د يستحقه من كماله، وإخفاء بحالها لا يستوجب مثله من جماله. وما كلام ابن سناء الملك في العدول عن محجة الإنصاف حجة، ولو عدله ما ذكره الجم الغفير من محاسنها التي سار ذكرها في الآفاق غرق قطرة في تلك اللجة، فإنه جملة الجناس على مخالفة الناس. وأما ما وصفه المولى من توالي الأمطار بها، فما زالت العرب تصيف بمرابع القطر العرب الحسان، وتضربه المثل على الغاية في الإحسان، ويسقي مواقعه حتى العهود، وتسجل الأنباء عنه حديث الرعود، ولم يخل من القطر بقعة من الأرض غير مصر، فإن الله أغناها بالنيل عن أن يزم إليها قطار القطار، مع أنها لا يستغني نبتها في الغالب عن تعاهد العهاد، ولا يخو في الأكثر أفقها من مطار الأمطار. {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة}. وإذا أنصف المولى قال: برد الصعيد المنتهى. وكم جلد تلك الأرض الجليد، ونهته عن الإقامة بها الشمس فما انتهى، وكأنه بأرض الشام، وقد أخذت زخرفها، وأقلام الغمام وقد رقمت بنور النور أحرفها، والرياض وقد مدت على الربا حلل مطارفها، والثمار وقد جمعت لجناه الحسن بين تالدها وطارفها. والغصون وقد خطرت في حلل وشيها ولاذها، والثريا وقد أبدت من جواهر الأزاهر ما أودعتها يد الأنواء من لآلي وبلها ورذاذها. والورق وقد أطربت الأسماع بألحانها، وأربت على الأسجاح بتناسب مقاطيعها وتوافق أوزانها. وأشبهت أغاني الغواني في ترنمها وراء ستور الأوراق على عيدانها. والصبا وقد حيت الندمان بأنفاس روحها وريحانها، والشمس وقد نثرت بين فرج الحمائل مثاقيل ذهبها، والظلال وقد حالت بين الوجوه وبين ما يبقى من حر الهواجر ولهبها. والجداول وقد انعطفت كالخلاخل بسوق الأشجار، والأزاهر وقد استدارت بمعاصم الغصن استدارة السوار، إلى ما وراء ذلك. وثمرات أحلى من إدراك الأماني وألطف من أبيات المعاني، وجنابها أولى بما يغزل في جنان الحسن بن هاني، وأحق من شعب بوان، بقول أبي الطيب:
فهنالك يعلم أن حسنات تلك المحاسن لذنوب السحائب مكفرة، ويتحقق أن دواعي الحسن المؤلفة مخبوءة تحت تلك الهنات المنفرة. وأما قوله أنه وجد بها بقية أدب؛ فما يعلمها المملوك إلا معالم آداب، ولا يعهدها إلا معاهد أعيان البلغاء وجلة الكتاب، ولا يعرفها إلا معان المعاني التي لا تتعلق القرائح من حللها بغير الأهداب، وهي على ما وصفت الآن، فإن عهدي بها قريب، وبالأمس يقول عنها وعن فضلائها ناصر الدين بن النقيب:
وأما كون أهلها في الجوار من أرباب المسد، فأين من يهب الآن مثل ذلك؟ وأما تلك الألوف التي كانت تذكر فتلك طريق أوحشت بعدم السالك، فلا يقسها المولى بمصر، فما هي بقدر محلة منها. وبالأمس قد كان المولى لما يجد من تعذر مطالبه بها يرجح الإقامة فيها للظعن عنها، وقد قال بعضهم:
والله إن مصر لمواطن إسعاد وإسعاف، ومعاهد تعاهد وإلطاف، ولرؤسائها يد في المكارم لا تطاول، وغايات في المفاخر لا تحاول. وقد قال عمارة في ملوكها وكبرائها:
ولكتابها مقاصد في البلاغة لا يفتح بغيرهم مرتج أبوابها، وقواعد في الفصاحة لا يفاض على غير أقلامهم معلم أثوابها. ولشعرائها طرائق لا يوافيهم أحد في مناهجها ولا يوفيهم، ولذلك قال ابن سعيد المغربي فيهم:
مع أن سوق الآداب الآن كاسدة بكل مكان، والسماح لولا بقية من محبي الفضائل إلى خل في خبر كان. وقد لا يطاوع الكريم حاله دائما، وما خلت الدنيا من أن تجد فيها قاعدا عن الواجب وقائما، وعاذرا على التقصير ولائما. هذا أبو دلف الذي مضى وأيامه للكرم مواسم، ولياليه عن بدور البدر والعطاء بواسم، قد قال فيه ابن أخته:
وهذا محمود بن نصر بن صالح وعطاؤه مما لا يكاد تقبله النفوس، (قد قنعت منه الجماعة بعشر الذي أعطى لابن حيوس)، والأرزاق بيد الله عقدها وحلها، والأخلاق مواهب، (ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها)؟!
وأما ما ذكره من وصوله إلى حماة، وما وصفه من محاسنها الرائقة، ومساكنها اللائقة، ومقاصد صاحبها الموفقة ومكارمه الموافقة، وأنه وجد من إحسان عمادها ما أغناه عن التماد وسيلة عن استنباط الجماد. وأراه إحسانه محاسنها بعين الرضى، فلم يشك أنها ذات العماد. فهذه سشة سلفه الآخر منه، وعلى أعراقها تجري الجياد. أما ما ذكره من وصوله إلى حلب وأنه احتلب أحلاب درها. واجتلب أنواع برها، ورأى من آثارها ما كانت عليه من قدر ارتفاعها وارتفاع قدرها فكيف لو مر المولى بها أيام عمارتها، أو نظرها في أزمان نظارتها!! لقد كان يرى من مآثر أناسها ما يشهد بآثار تعزى إلى مرداسها، يعز محاسن سكانها بقايا ما شهر من إحسان بني حمدانها، فرحم الله تلك الشهداء الذين كانت أيامهم للأيام الشاهد بهم حجة على وجود الكرام:
وإذ قد قضى المولى أربه من الاغتراب، فما بقي إلا حسن الالتئام. والله تعالى يعمر به ربع الأدب وفناه، ويعجل بالعود إلى وطنه في الخير والسلامة. وهناه، إن شاء الله تعالى.
ومن إنشائه البديع وحوكه الذي قصر عنه الحريري وبعد عنه البديع، كتاب في وصف الخيل، وينهي وصول ما أنعم به من الخيل التي وجد الخير في نواصيها، واعتد حصنها حصونا يعتصم في الوغا بصياصيها، فمن أشهب غطاه النهار بحلته، وأوطأه الليل إلى أهلته، يتموج أديمه ريا، ويتأرج ريا. ويقول من استقبله في حلي لجامه: هذا الفجر قد أطلع الثريا. إن التفت المضايق، انساب انسياب الأيم، وإن انفرجت المسالك مر مرور الغيم. كم أبصر فارسه يوما أبيض بطلعته، وكم عاين طرف السنان مقاتل العدى في ظلام النقع بنور أشعته. لا يستن داحس في مضماره، ولا تطمع الغبراء في شق غباره، ولا يظفر لاحق من لحاقه بسوى آثاره. تسابق يداه مرامي طرفه، ويدرك شوارد البروق ثانيا من عطفه.
ومن أدهم حالك الأديم حالي الشكيم، له مقلة غانية وسالفة ريم. قد ألبسه الليل برده، وأطلع بين عينيه سعده، يظن من نظر إلى سواد طرته وبياض خجوله وغرته، أنه توهم النهار نهرا فخاضه، وألقى بين عينيه نقطة من رشاش تلك المخاضة. لين الأعطاف سريع الانعطاف، يقبل كالليل ويمر كجلمود صخر حطه السيل. يكاد يسبق ظله، ومتى جارى السهم إلى غرض بلغه قبله.
ومن أشقر وشاه البرق بلهبه، وغشاه الأصيل بذهبه، يتوجس ما لديه برقيقتين، وينفض وفرتيه عن عقيقتين، وينزل عذار لجامه من سالفتيه على شقيقتين. له من الراح لونها، ومن الريح لينها. إن جرى فبرق خفق، وإن أسرج فهلال على شفق. لو أدرك أوائل حرب ابني وائل لم يكن للوجيه وجاهة، ولا للنعامة نباهة. وكان ترك إعارة سكاب لؤما وتحريم بيعها سفاهة. يركض ما وجد أرضا، وإذا اعترض به راكبه بحرا وثب عرضا.
ومن كميت نهد، كأن راكبه في مهد، عندمي الإهاب، شمألي الذهاب، يزل الغلام الخف عن صهواته. وكأن نغم الغريض ومعبد في لهواته. قصير المطا، فسيح الخطا. إن ركب لصيد قيد الأوابد وأعجل عن الوثوب الوحوش اللوابد، وإن جنب لم يزور من وقع القنا بلبانه، ولم يشك لو علم الكلام بلسانه، ولم ير دون بلوغ الغاية وهي غرض راكبه، ثانيا من عنانه، وإن سار في سهل اختال براكبه كالثمل، وإن صعد في جبل طار في عقابه كالعقاب، وانحط في مجاريه كالوعل. متى ما ترق العين فيه تسهل، ومتى أراد البرق مجاراته قال له الوقوف عند قدره: ما أنت هناك فتمهل.
ومن حبشي أصفر يروق العين ويشوق القلب بمشابهة العين، كأن الشمس ألقت عليه من أشعتها جلالا، وكأنه نفر من الدجى، فاعتنق منه عرفا، واعتلق حجالا، ذي كفل يزين سرجه. وذيل يسد إذا استدبرته منه فرجه. قد أطلعته الرياضة على مراد راكبه وفارسه، وأغناه نضار لونه ونضارته عن ترصيع قلائده، وتوشيع ملابسه. له من البرق خفة وطئه وخطفه، ومن النسيم لين طروقه ولطفه، ومن الريح هزيزها. إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه، يطير بالغمز، ويدرك بالرياضة مواضع الرمز، ويغدو كألف الوصل في استغنائه مثلها عن الهمز، ومن أخضر حكاه من الروض تفويفه، ومن الوشي تقسيمه وتأليفه، قد كساه النهار والليل حلتي وقار وسنا، واجتمع فيه من البياض والسواد ضدان لما استجمعا حسنا، ومنحه البازي حلة وشيه، ونحلته الرياح ونسماتها قوة ركضه وخفة مشيه. يعطيك أفانين الجري قبل سؤاله، ولما لم يسابقه شيء من الخيل أغراه حب الظفر بمسابقة خياله، كأنه تفاريق شيب في سواد عذار، أو طلائع فجر خالط بياضه الدجا فما سجى، ومازج ظلامه النهار فما انهار ولا أنار. يختال لمشاركة اسم الجري بينه وبين الماء في السير كالسيل. ويدل بسيفه على المعنى المشترك بين البروق اللوامع وبين البرقية من الخيل، ويكذب المانوية لتولد اليمن فيه بين إضاءة النهار وظلمة الليل.
ومن أبلق ظهره حرم، وجريه ضرم. إن قصد غاية فوجود الفضاء بينه وبينها عدم، وإن صرف في حرب فعمله ما يشاء البنان والعنان، وفعله ما يريد الكف والقدم. قد طابق الحسن البديع بين ضدي لونه، ودلت على اجتماع النقيضين علة كونه، وأشبه زمن الربيع باعتدال الليل فيه والنهار، وأخذ وصف حلتي الدجا في حالتي الإنذار والسرار. لا تكل مناكبه، ولا يظل في حجرات الجيوش راكبه، فلا يحتاج ليله للمشرق لمجاورة نهاره إلى أن تسترشد فيه كواكبه، ولا يجاريه الخيال، فضلا عن الخيل، ولا يمل السرى إلا إذا مله مشبهاه النهار والليل. ولا تتمسك البروق اللوامع من لحاقه بسوى الأثر. فإن جهدت فبالذيل فهو الأبلق الفرد، والجواد الذي لمجاريه العكس وله الطرد. قد أغنته شهوة لونه في حلته عن الأوصاف، وعدل بالرياح عن مباراته سلوكها من الاعتراف له جادة الإنصاف. فترقى المملوك إلى رتب العز من ظهورها، وأعدها لخطبة الجنان، إذ الجهاد عليها من أنفس مهورها. وكلف بركوبها، فكلما أكمله عاد، وكلما مله شره إليه. فلو أنه زيد الخيل لما زاد. ورأى من آدابها ما دل على أنها من أكرم الأصايل، وعلم أنها ليومي حربه وسلمه جنة الصائد وجنة الصائل، وقابل إحسان مهديها بثنائه ودعائه. وأعدها في الجهاد لمقارعة أعداء الله وأعدائه، والله تعالى يشكر بره الذي أفرده في الندى بمذاهبه، وجعل الصافنات الجياد من بعض مواهبه بمنه وكرمه.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 25- ص: 0