التصنيفات

صاحب الخليل الليث بن المظفر: كان رجلا صالحا، مات الخليل ولم يفرغ من كتاب العين، فأحب أن ينفق الكتاب باسمه فسمى لسانه الخليل، فإذا رأيت في الكتاب: سألت الخليل وأخبرني الخليل، فإنه يعني الخليل نفسه. وإذا قيل: قال الخليل، فإنما يعني به لسانه.
كذا قال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي الفقيه. قال ابن المعتز: كان الليث من أكتب الناس في زمانه، بارع الأدب بصيرا بالشعر والأدب والنحو، يكتب للبرامكة وكانوا معجبين به، فارتحل إليه الخليل وباشره فوجده بحرا، فأغناه.
وأحب الخليل أن يهدي إليه هدية تشبهه، فاجتهد الخليل في كتابه العين فصنفه له، وخصه به دون الناس، فوقع منه موقعا عظيما، وعوضه عنه مائة ألف درهم، وأقبل الليث ينظر فيه ليلا ونهارا لا يمل النظر فيه حتى حفظ نصفه، وكانت ابنة عمه تحته، فاشترى الليث جارية نفيسة بمال جليل، فبلغها ذلك، فغارت غيرة عظيمة وقالت: والله لأغيظنه ولا أبقي غاية.
وقالت: إن غظته في الملك فذاك مما لا يبالي به. ولكني أراه مكبا ليلا ونهارا على هذا الدفتر، والله لأفجعنه به، وأحرقت الكتاب.
وأقبل الليث إلى منزله ودخل إلى البيت الذي كان فيه، فصاح بخدمه وسألهم عن الكتاب، فقالوا: أخذته الحرة، فبادر إليها وقد علم من أين أتي، فلما دخل عليها ضحك في وجهها وقال لها: ردي الكتاب فقد وهبت لك الجارية وحرمتها على نفسي، فأخذت بيده وأدخلته وأرته رماده.
فسقط في يده، وكتب نصفه من حفظه وجمع على الباقي أدباء زمانه وقال لهم: مثلوا عليه واجتهدوا، فعملوا النصف الثاني الذي بأيدي الناس، وكان الخليل قد مات.
ودخل الليث على علي بن عيسى بن ماهان وعنده رجل يقال له حماد الخزربك، فجاء رجل فقص رؤيا رآها لعلي بن عيسى فهم حماد أن يعبرها، فقال الليث كف فلست هناك، فقال علي: يا أبا هشام وتعبرها؟ قال: نعم، وكانت الرؤيا كأن علي بن عيسى مات وحمل على جنازة وأهل خراسان يتبعونه، فانقض غراب من السماء ليحمله فكسروا رجل الغراب، فقال الليث: أما الموت فهو بقاء، وأما الجنازة فهو سرير وملك، وأما ما حملوك فهو ما علوتهم وكنت على رقابهم، وأما الغراب فهو رسول، قال الله تعالى {فبعث الله غرابا} يقدم عليك فلا ينفذ أمره. فما مكثوا إلا يومين أو ثلاثة حتى قدم رسول من عند الخليفة بحمل علي بن عيسى. فاجتمع قواد خراسان وأثنوا عليه خيرا ولم يتركوه يحمل وقالوا: نخشى انتقاض البلاد، فبقي.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 24- ص: 0