ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر النميري الحراني الدمشقي الحنبلي، أبو العباس، تقي الدين ابن تيمية: الامام شيخ الاسلام. ولد في حران وتحول به ابوه إلى دمشق فنبغ واشتهر. وطلب إلى مصر من اجل فتوى افتى بها، فقصدها، فتعصب عليه جماعة من اهلها فسجن مدة، ونقل إلى الاسكندرية. ثم اطلق فسافر إلى دمشق سنة 712 هـ ، واعتقل بها سنة 720 واطلق، ثم اعيد، ومات معتقلا بقلعة دمشق، فخرجت دمشق كلها في جنازته. كان كثير البحث في فنون الحكمة، داعية اصلاح في الدين. آية في التفسير والاصول، فصيح اللسان، قلمه ولسانه متقاربان. وفي الدرر الكامنة انه ناظر العلماء واستدل وبرع في العلم والتفسير وافتى ودرس وهو دون العشرين. اما تصانيفه ففي الدرر انها ربما تزيد على اربعة الاف كراسة، وفي فوات الوفيات انها تبلغ ثلاثة مئة مجلد، منها ’’الجوامع - ط) في السياسة الالهية والايات النبوية، و (الفتاوي - ط) خمس مجلدات، و (الايمان - ط) و (الجمع بين النقل والعقل - خ) الجزء الرابع منه، و (منهاج السنة - ط) و (الفرقان بين اولياء الله واولياء الشيطان - ط) و (الوساطة بين الحق والخلق - ط) و (الصارم المسلول على شاتم الرسول - ط) و (مجموع رسائل - ط) فيه 29 رسالة، و (نظرية العقد - ط) و (تلخيص كتاب الاستغاثة - ط) يعرف بالرد على البكري، وكتاب (الرد على الاخنائي - ط) و (رفع الملام عن الائمة الاعلام - ط) رسالة، و (التوسل والوسيلة - ط) و (نقض المنطق - ط) و (الفتاوي - خ) و (السياسة الشرعية في اصلاح الرراعي والرعية - خ) و (مجموعة - ط) اخرى اشتملت على اربع رسائل: الاولى رأس الحسين (حقق فيها ان رأس الحسين حمل إلى المدينة ودفن في البقيع) والثانية الرد على ابن عربي والصوفية، والثالثة العقود المحرمة، والرابعة قتال الكفار. ولابن قدامة كتاب في سيرته سماه (العقود الدرية في مناقب شيخ الاسلام أحمد بن تيمية - ط).
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 1- ص: 144
ابن تيمية العلامة تقي الدين أحمد بن عبد الحليم، وشرف الدين أخوه عبد الله بن عبد الحليم. وشرف الدين التاجر: عبد الواحد. ومجد الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز. وعلاء ذلدين علي بن عبد الغني.
ابن التيتي: محمد بن إسماعيل.
دار الفكر المعاصر، بيروت - لبنان / دار الفكر، دمشق - سوريا-ط 1( 1998) , ج: 2- ص: 145
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني ثم الدمشقي الحنبلي تقي الدين أبو العباس بن شهاب الدين ابن مجد الدين ولد في عاشر ربيع الأول سنة 661 وتحول به أبوه من حران سنة 67 فسمع من ابن عبد الدائم والقاسم الأربلي والمسلم ابن علان وابن أبي عمر والفخر في آخرين وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود وحصل الأجزاء ونظر في الرجال والعلل وتفقه وتمهر وتميز وتقدم وصنف ودرس وأفتى وفاق الأقران وصار عجبا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول والإطالة على مذاهب السلف والخلف وأول ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة 698 قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية وبحثوا معه ومنع من الكلام ثم حضر مع القاضي إمام الدين القزويني فانتصر له وقال هو وأخوه جلال الدين من قال عن الشيخ تقي الدين شيئا عزرناه ثم طلب ثاني مرة في سنة 705 إلى مصر فتعصب عليه بيبرس الجاشنكير وانتصر له سلار ثم آل أمره أن حبس في خزانة البنود مدة ثم نقل في صفر سنة 709 إلى الاسكندرية ثم أفرج عنه وأعيد إلى القاهرة ثم أعيد إلى الاسكندرية ثم حضر الناصر من الكرك فأطلقه ووصل إلى دمشق في آخر سنة 712 وكان السبب في هذه المحنة أن مرسوم السلطان ورد على النائب بامتحانه في معتقده لما وقع إليه من أمور تنكر في ذلك فعقد له مجلس في سابع رجب وسئل عن عقيدته فأملأ منها شيئا ثم احتضروا العقيدة التي تعرف بالواسطية فقرئ منها وبحثوا في مواضع ثم اجتمعوا في ثاني عشرة وقرروا الصفي الهندي يبحث معه ثم أخروه وقدموا الكمال الزملكاني ثم انفصل الأمر على أنه شهد على نفسه أنه شافعي المعتقد فأشاع أتباعه أنه انتصر فغضب خصومه ورفعوا واحدا من أتباع ابن تيمية إلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية فعزره وكذا فعل الحنفي باثنين منهم ثم في ثاني عشرى رجب قرأ المزي فصلا من كتاب أفعال العباد للبخاري في الجامع فسمعه بعض الشافعية فغضب وقالوا نحن المقصودون بهذا ورفعوه إلى القاضي الشافعي فأمر بحبسه فبلغ ابن تيمية فتوجه إلى الحبس فأخرجه بيده فبلغ القاضي فطلع إلى القلعة فوافاه ابن تيمية فتشاجرا بحضرة النائب واشتط ابن تيمية على القاضي لكون نائبه جلال الدين آذى أصحابه في غيبة النائب فأمر النائب من ينادي أن من تكلم في العقائد فعل كذا به وقصد بذلك تسكين الفتنة ثم عقد لهم مجلس في سلخ رجب وجرى فيه بين ابن الزملكاني وابن الوكيل مباحثة فقال ابن الزملكاني لابن الوكيل ما جرى على الشافعية قليل حتى تكون أنت رئيسهم فظن القاضي نجم الدين بن صصرى أنه عناه فعزل نفسه وقام فأعانه الأمراء وولاه النائب وحكم الحنفي بصحة الولاية ونفذها المالكي فرجع إلى منزله وعلم أن الولاية لم تصح فصمم على العزل فرسم النائب لنوابه بالمباشرة إلى أن يرد أمر السلطان ثم وصل بريدي في أواخر شعبان بعوده ثم وصل بريدي في خامس رمضان بطلب القاضي والشيخ وأن يرسلوا بصورة ما جرى للشيخ في سنة 698 ثم وصل مملوك النائب وأخبر أن الجاشنكير والقاضي المالكي قد قاما في الإنكار على الشيخ وأن الأمر اشتد بمصر على الحنابلة حتى صفع بعضهم ثم توجه القاضي والشيخ إلى القاهرة ومعهما جماعة فوصلا في العشر الأخير من رمضان وعقد مجلس في ثالث عشر منه بعد صلاة الجمعة فادعى على ابن تيمية عند المالكي فقال هذا عدوي ولم يجب عن الدعوى فكرر عليه فأصر فحكم المالكي بحبسه فأقيم من المجلس وحبس في برج ثم بلغ المالكي أن الناس يترددون إليه فقال يجب التضييق عليه أن لم يقتل وإلا فقد ثبت كفره فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجب وعاد القاضي الشافعي إلى ولايته ونودي بدمشق من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله خصوصا الحنابلة فنودي بذلك وقرئ المرسوم وقرأها ابن الشهاب محمود في الجامع ثم جمعوا الحنابلة من الصالحية وغيرها واشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي وذكر ولد الشيخ جمال الدين ابن الظاهري في كتاب كتبه لبعض معارفه بدمشق أن جميع من بمصر من القضاة والشيوخ والفقراء والعلماء والعوام يحطون على ابن تيمية إلا الحنفي فإنه يتعصب له وإلا الشافعي فإنه ساكت عنه وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ نصر المنبجي لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن العربي فكتب إليه كتابا يعاتبه على ذلك فما أعجبه لكونه بالغ في الحط على ابن العربي وتكفيره فصار هو يحط على ابن تيمية ويغري به بيبرس الجاشنكير وكان بيبرس يفرط في محبة نصر ويعظمه وقام القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية مع الشيخ نصر وبالغ في أذية الحنابلة واتفق أن قاضي الحنابلة شرف الدين الحراني كان قليل البضاعة في العلم فبادر إلى إجابتهم في المعتقد واستكتبوه خطه بذلك واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين ابن الحريري انتصر لابن تيمية وكتب في حقه محضرا بالثناء عليه بالعلم والفهم وكتب فيه بخطه ثلاثة عشر سطرا من جملتها أنه منذ ثلاثمائة سنة ما رأى الناس مثله فبلغ ذلك ابن مخلوف فسعى في عزل ابن الحريري فعزل وقرر عوضه شمس الدين الأذرعي ثم لم يلبث الأذرعي أن عزل في السنة المقبلة وتعصب سلار لابن تيمية وأحضر القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي وتكلم معهم في إخراجه فاتفقوا على أنهم يشترطون فيه شروطا وأن يرجع عن بعض العقيدة فأرسلوا إليه مرات فامتنع من الحضور إليهم واستمر ولم يزل ابن تيمية في الجب إلى أن شفع فيه مهنا أمير آل فضل فأخرج في ربيع الأول في الثالث وعشرين منه وأحضر إلى القلعة ووقع البحث مع بعض الفقهاء فكتب عليه محضر بأنه قال أنا أشعري ثم وجد خطه بما نصه الذي اعتقد أن القرآن معنى قائم بذات الله وهو صفة من صفات ذاته القديمة وهو غير مخلوق وليس بحرف ولا صوت وأن قوله {الرحمن على العرش استوى} ليس على ظاهره ولا أعلم كنه المراد به بل لا يعلمه إلا الله والقول في النزول كالقول في الاستواء وكتبه أحمد بن تيمية ثم أشهدوا عليه أنه تاب مما ينافي ذلك مختارا وذلك في خامس عشرى ربيع الأول سنة 707 وشهد عليه بذلك جمع جم من العلماء وغيرهم وسكن الحال وأفرج عنه وسكن القاهرة ثم اجتمع جمع من الصوفية عند تاج الدين إبن عطاء فطلعوا في العشر الأوسط من شوال إلى القلعة وشكوا من ابن تيمية أنه يتكلم في حق مشايخ الطريق وأنه قال لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فاقتضى الحال أن أمر بتسييره إلى الشام فتوجه على خيل البريد ... وكل ذلك والقاضي زين الدين ابن مخلوف مشتغل بنفسه بالمرض وقد أشرف على الموت وبلغه سفر ابن تيمية فراسل النائب فرده من بلبيس وادعى عليه عند ابن جماعة وشهد عليه شرف الدين ابن الصابوني وقيل أن علاء الدين القونوي أيضا شهد عليه فاعتقل بسجن بحارة الديلم في ثامن عشر شوال إلى سلخ صفر سنة 709 فنقل عنه أن جماعة يترددون إليه وأنه يتكلم عليهم في نحو ما تقدم فأمر بنقله إلى الاسكندرية فنقل إليها في سلخ صفر وكان سفره صحبة أمير مقدم ولم يمكن أحدا من جهته من السفر معه وحبس ببرج شرقي ثم توجه إليه بعض أصحابه فلم يمنعوا منه فتوجهت طائفة منهم بعد طائفة وكان موضعه فسيحا فصار الناس يدخلون إليه ويقرؤون عليه ويبحثون معه قرأت ذلك في تاريخ البرزالي فلم يزل إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة فشفع فيه عنده فأمر بإحضاره فاجتمع به في ثامن عشر شوال سنة 9 فأكرمه وجمع القضاة وأصلح بينه وبين القاضي المالكي فاشترط المالكي أن لا يعود فقال له السلطان قد تاب وسكن القاهرة وتردد الناس إليه إلى أن توجه صحبة الناصر إلى الشام بنية الغزاة في سنة 712 وذلك في شوال فوصل دمشق في مستهل ذي القعدة فكانت مدة غيبته عنها أكثر من سبع سنين وتلقاه جمع عظيم فرحا بمقدمه وكانت والدته إذ ذاك في قيد الحياة ثم قاموا عليه في شهر رمضان سنة 719 بسبب مسألة الطلاق وأكد عليه المنع من الفتيا ثم عقد له مجلس آخر في رجب سنة عشرين ثم حبس بالقلعة ثم أخرج في عاشوراء سنة 721 ثم قاموا عليه مرة أخرى في شعبان سنة 726 بسبب مسألة الزيارة واعتقل بالقلعة فلم يزل بها إلى أن مات في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة 728 قال الصلاح الصفدي كان كثيرا ما ينشد
تموت النفوس بأوصابها | ولم تدر عوادها ما بها |
وما أنصفت مهجة تشتكي | اذاها إلى غير أحبابها |
من لم يقد ويدس في خيشومه | رهج الخميس فلن يقود خميسا |
والله ما فقرنا اختيار | وإنما فقرنا اضطرار |
جماعة كلنا كسالى | وأكلنا ما له عيار |
يسمع منا إذا اجتمعنا | حقيقة كلها فشار |
لما أتانا تقي الدين لاح لنا | داع إلى الله فرد ما له وزر |
على محياه من سيما الأولى صحبوا | خير البرية نور دونه القمر |
حبر تسربل منه دهره حبرا | بحر تقاذف من أمواجه الدرر |
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا | مقام سيد تيم إذ عصت مضر |
وأظهر الحق إذ آثاره اندرست | وأخمد الشر إذ طارت له شرر |
كنا نحدث عن حبر يجيء بها | أنت الإمام الذي قد كان ينتظر |
أيا علماء الدين ذمي دينكم | تحير دلوه بأعظم حجة |
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم | ولم يرضه مني فما وجه حيلتي |
سؤالك يا هذا سؤال معاند | مخاصم رب العرش باري البرية |
مجلس دائرة المعارف العثمانية - صيدر اباد/ الهند-ط 2( 1972) , ج: 1- ص: 0
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن تيمية الحراني. ثم الدمشقي الحنبلي، الإمام العلامة الفقيه المجتهد الناقد المفسر البارع الأصولي شيخ الإسلام علم الزهاد نادرة دهره تقي الدين أبو العباس، ابن المفتي شهاب الدين عبد الحليم، ابن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين، شهرته تغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره.
ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحران،
وقدم به والده وبإخوته إلى دمشق، عند استيلاء التتار على البلاد سنة سبع وستين. فسمع بها من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، والمجد بن عساكر، ويحيى بن الصيرفي الفقيه. وابن أبي الخير الحداد، والقاسم الإربلي، والشيخ شمس الدين بن أبي عمر والمسلم بن علان، وإبراهيم بن الدرجي؛ وخلق.
وعني بالحديث، وسمع «المسند» مرات، والكتب الستة، و «معجم الطبراني» الكبير، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء.
وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره. فأخذ الفقه والأصول عن والده، وعن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والشيخ زين الدين بن المنجا. وبرع في ذلك.
وقرأ في العربية أياما على ابن عبد القوي، ثم أخذ «كتاب سيبويه»، فتأمله ففهمه.
وأقبل على تفسير القرآن الكريم، وبرز فيه، وأحكم أصول الفقه.
والفرائض والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من العلوم، ونظر في علم الكلام والفلسفة وبرز في ذلك على أهله، ورد على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل.
وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضا، وأمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبطء النسيان، حتى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئا فينساه، ثم توفي والده وكان له حينئذ إحدى وعشرين سنة. فقام بوظائفه بعده، فدرس بدار الحديث السكرية في أول سنة ثلاث وثمانين.
وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي. والشيخ تاج الدين
الفزاري، وزين الدين بن المرحل. والشيخ زين الدين بن المنجا، وجماعة، وذكر درسا عظيما في البسملة. وهو مشهور بين الناس، وعظمه الجماعة الحاضرون، وأثنوا عليه ثناء كثيرا.
قال الذهبي: وكان الشيخ تاج الدين الفزاري، يبالغ في تعظيمه، بحيث أنه علق بخطه درسه بالسكرية، ثم جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع، لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن، وكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر، وبقي يفسر في سورة نوح عليه السلام، عدة سنين أياما يوم أجمع. وفي سنة تسعين: ذكر على الكرسي يوم جمعة شيئا من الصفات، فقام بعض المخالفين، وسعوا في منعه من الجلوس، فلم يمكنهم ذلك.
وقال قاضي القضاة شهاب الدين بن الخويي: أنا على اعتقاد الشيخ تقي الدين، فعوتب في ذلك. فقال: لأن ذهنه صحيح، ومواده كثيرة. فهو لا يقول إلا الصحيح، فقال الشيخ شرف الدين المقدسي: أنا أرجو بركته ودعاءه، وهو صاحبي وأخي، ذكر ذلك البرزالي في «تاريخه».
وشرع الشيخ في الجمع والتصنيف من دون العشرين، ولم يزل في علو وازدياد من العلم والقدر إلى آخر عمره.
قال الذهبي في «معجم شيوخه»: برع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ ما يحفظه
معزوا إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضار له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث أنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب بل بما يقوم دليله عنده، وأتقن العربية أصولا وفروعا وتعليلا واختلافا، ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، ورد عليهم، ونبه على أخطائهم، وحذر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين.
وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالا من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبا، وعلى طاعته، وأحيى به الشام، بل الإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأب النفاق وأبدى صفحته، ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه.
قال الذهبي: وقد قرأت بخط شيخنا العلامة كمال الدين بن الزملكاني، ما كتبه سنة بضع وتسعين تحت اسم «ابن تيمية» كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع: أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدا لا يعرفه مثله.
وكان الفقهاء من سائر الوظائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء كثيرة، ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم- سواء كان من علم الشرع أو غيره- إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
وأما تصانيفه رحمه الله فهي أشهر من أن تذكر، وأعرف من أن تنكر.
سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار، قد جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن أحد حصرها، ولا يتسع هذا الكلام لعد المعروف منها ولا ذكرها. وقد بلغت ثلاثمائة مجلدة.
وكتب بخطه من التصانيف والتعاليق المفيدة. والفتاوى المشبعة في الأفرع والأصول والحديث ورد البدع بالكتاب والسنة شيئا كثيرا، يبلغ عدة احمال، فمما كمل منها «كتاب الصارم المسلول على منتقص الرسول» و «كتاب تبطيل التحليل» و «كتاب اقتضاء الصراط المستقيم» و «كتاب تأسيس التقديس» في عدة مجلدات، و «كتاب الرد على طوائف الشيعة» أربع مجلدات. و «كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام»، و «كتاب السياسة الشرعية»، و «كتاب التصوف»، و «كتاب الكلم الطيب»، و «كتاب مناسك الحج»، وغير ذلك.
وقد امتحن وأوذي مرارا ومات في سحر ليلة الاثنين والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة معتقلا بقلعة الشام، وقد وقع أجره على الله.
دار الكتب العلمية - بيروت-ط 0( 0000) , ج: 1- ص: 46
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن محمد بن تيمية. مفتي الشام ومحدثه وحافظه.
كان يرتكب شواذ الفتاوى، ويزعم أنه مجتهد مصيب. سمع من أبي عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن أبي الخير وابن عطاء وابن عساكر وابن البخاري: فخر الدين وله تآليف.
مولده سنة 661 بحران ذكره ابن جابر في شيوخه.
دار التراث العربي - القاهرة-ط 1( 1972) , ج: 1- ص: 0
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية شيخنا الإمام تقي الدين أبو العباس الحراني فريد العصر علما ومعرفة وذكاء وحفظا وكرما وزهدا وفرط شجاعة وكثرة تآليف والله يصلحه ويسدده، فلسنا بحمد الله ممن نغلو فيه ولا نجفو عنه، ما رئي كاملا مثل أئمة التابعين وتابعيهم، فما رأيته إلا ببطن كتاب.
ولد شيخنا في عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مائة بحران وتحولوا إلى دمشق سنة سبع وستين، فسمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وخلق كثير، وعني بالرواية، وسمع الكتب والمسند والمعجم الكبير، سمعت جملة من مصنفاته وجزء ابن عرفة، وغير ذلك.
وكانت وفاته في العشرين من شهر ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مائة مسجونا بقاعة من قلعة دمشق، وشيعه أمم لا يحصون إلى مقبرة الصوفية، ولم يخلف بعده مثله في العلم، ولا من يقاربه.
مكتبة الصديق، الطائف - المملكة العربية السعودية-ط 1( 1988) , ج: 1- ص: 56
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن القاسم بن تيمية
الحراني الدمشقي الحنبلي تقي الدين أبو العباس شيخ الإسلام إمام الأئمة المجتهد المطلق ولد سنة 661 إحدى وستين وستمائة وتحول به أبوه من حران سنة 667 سبع وستين وستمائة فسمع من ابن عبد الدايم والقاسم الأريلى والمسلم ابن علان وابن أبي نمر والفخر ومن آخرين قال ابن حجر في الدرر وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود وحصل الأجزاء ونظر في الرجال والعلل وتفقه وتمهر وتقدم وصنف ودرس وأفتى وفاق الأقران وصار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمقعول والاطلاع على مذاهب السلف والخلف انتهى وأقول أنا لا أعلم بعد ابن حزم مثله وما أظنه سمح الزمان ما بين عصر الرجلين بمن شابههما أو يقاربهما قال الذهبي ما ملخصه كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف التي يوردها منه ولا أشد استحضاراً للمتون وعزوها منه وكانت السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه هذا مع ما كان عليه من الكرم والشجاعة والفراغ عن ملاذ النفس ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر وكان قوالاً بالحق لا تأخذه بالله لومة لائم ثم قال ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير فيه ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده وكان أبيض اسود الرأس واللحية قليل الشيب شعره إلى شحمة أذنيه كأن عينيه لسانان ناطقان ربعة من الرجال بعيد ما بين المنكبين جهوري الصوت فصيحاً سريع القراءة تعتريه حدة لكن يقهرها بالحلم قال ولم أر مثله في ابتهاله واستعانته بالله وكثرة توجهه وأنا لا أعتقد فيه عصمة بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية فأنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشراً من البشر تعتريه حدة في البحث وغضب وصدمة للخصوم تزرع له عداوة في النفوس ولولا ذلك لكان كلمة إجماع فإن كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بأنه بحر لا ساحل له وكنز ليس له نظير ولكن ينقمون عليه أخلاقاً وأفعالاً وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك قال وكان محافظاً على الصلاة والصوم معظما للشرائع ظاهرا وباطنا لا يؤتى من سوء فهم فإن له الذكاء المفرط ولا من قلة علم فإنه بحر زاخر ولا كان متلاعباً بالدين ولا ينفرد بمسائل بالتشهي ولا يطلق لسانه بما اتفق بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة بمن تقدمه من الأئمة فله أجر على خطأه وأجران على إصابته انتهى ومع هذا فقد وقع له مع أهل عصره قلاقل وزلازل وامتحن مرة بعد أخرى في حياته وجرت فتن عديدة والناس قسمان في شأنه فبعض منهم مقصر به عن المقدار الذي يستحقه بل يرميه بالعظائم وبعض آخر يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد ويتعصب له كما يتعصب أهل القسم الأول عليه وهذه قاعدة مطردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية ويفوق أهل عصره ويدين بالكتاب والسنة فإنه لا بد أن يستنكره المقصرون ويقع له معهم محنة بعد محنة ثم يكون أمره الأعلى وقوله الأولى ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره وهكذا حال هذا الإمام فإنه بعد موته عرف الناس مقداره واتفقت الألسن بالثناء عليه إلا من لا يعتد به وطارت مصنفاته واشتهرت مقالاته وأول ما أنكر عليه أهل عصره في شهر ربيع الأول سنة 698 أنكروا عليه شيء من مقالاته فقام عليه الفقهاء وبحثوا معه ومنع من الكلام ثم طلب ثاني مرة في سنة 705 إلى مصر فتعصب عليه بعض أركان الدولة وهو بيبرس الجاشنكير وانتصر له ركن آخر وهو الأمير سلار ثم آل أمره أن حبس في خزانة البنود مدة ثم نقل في صفر سنة 9 إلى الإسكندرية ثم أفرج عنه وأعيد إلى القاهرة ثم أعيد إلى الإسكندرية ثم حضر السلطان الناصر من الكرك فأطلقه ووصل إلى دمشق في آخر سنة 712 وكان السبب في هذه المحنة أن مرسوم السلطان ورد على النائب بامتحانه في معتقده لما رفع إليه من أمور تنكر في ذلك فعقد له مجلس في سابع رجب فسئل عن عقيدته فأملى منها ثم أحضروا العقيدة التي تعرف بالواسطية فقرأ منها وبحثوا في مواضع ثم اجتمعوا في ثاني عشرة وقرروا الصفي الهندي يبحث معه ثم أخروه وقدموا الكمال الزملكاني ثم انفصل الأمر على أنه أشهد على نفسه أنه شافعي المعتقد فأشاع أتباعه أنه انتصر فغضب خصومه ورفعوا واحداً من أتباع ابن تيمية إلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية فعزره وكذا فعل الحنفي باثنين منهم وفى ثاني عشر رجب قرأ المزي فصلاً من الكتاب أفعال العباد للبخاري في الجامع فسمع بعض الشافعية فغضب وقال نحن المقصودون بهذا ورفعوه إلى القاضي الشافعي فأمر بحبسه فبلغ ابن تيمية فتوجه إلى الحبس فأخرجه بيده فبلغ القاضي فطلع إلى القلعة فوافاه ابن تيمية فتشاجرا بحضرة النائب فأمر النائب من ينادى أن من تكلم في العقائد فعل به كذا وقصد بذلك تسكين الفتنة ثم عقد له مجلس في سلخ شهر رجب وجرى فيه من ابن الزملكاني وابن الوكيل مباحثة فقال ابن الزملكاني لابن الوكيل ما جرى على الشافعية قليل حيث تكون أنت رئيسهم، فظن القاضي ابن صصري أنه يعرض به فعزل نفسه ثم وصل بربد من عند السلطان إلى دمشق أن يرسلوا بصورة ما جرى في سنة 698 ثم وصل مملوك النائب وأخبر أن بيبرس والقاضي المالكي قد قاما في الإنكار على ابن تيمية وأن الأمر قد اشتد على الحنابلة حتى صفع بعضهم ثم توجه القاضي ابن صصري وابن تيمية صحبة البريد إلى القاهرة ومعهما جماعة فوصلا في العشر الأخيرة من رمضان وعقد مجلس في ثاني عشرينه بعد صلاة الجمعة فادعى على ابن تيمية عند المالكي فقال هذا عدوى ولم يجب عن الدعوى فكرر عليه فأصر فحكم المالكي بحبسه فأقيم من المجلس وحبس في برج ثم بلغ المالكي أن الناس يترددون إليه فقال يجب التضييق عليه ان لم يقتل والا فقد ثبت كفره فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجب ولقد أحسن المترجم له رحمه الله بالتصميم على عدم الإجابة عند ذلك القاضي الجرئ الجاهل الغبي ولو وقعت منه الإجابة لم يبعد الحكم بإراقة دم هذا الإمام الذي سمح الزمان به وهو بمثله بخيل ولا سيما هذا القاضي من المالكية الذي يقال له ابن مخلوف فإنه من شياطينهم المتجرئين على سفك دماء المسلمين بمجرد أكاذيب وكلمات ليس المراد بها ما يحملونها عليه وناهيك بقوله أن هذا الإمام قد استحق القتل وثبت لديه كفره ولا يساوي شعرة من شعراته بل لا يصلح لأن يكون شسعاً لنعله وما زال هذا القاضي الشيطان يتطلب الفرص التي يتوصل بها إلى إراقة دم هذا الإمام فحجبه الله عنه وحال بينه وبينه والحمد لله رب العالمين ثم بعد هذا نودي بدمشق أن من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله خصوصا الحنابلة فنودي بذلك وقرئ المرسوم قرأه ابن الشهاب محمود في الجامع ثم جمعوا الحنابلة من الصالحية وغيرها وأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي وكان من أعظم القائمين على المترجم له الشيخ نصر المنبجي لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن العربي فكتب إليه كتاباً يعاتبه على ذلك فما أعجبه لكونه بالغ في الحط على ابن العربي وكفره فصار هو يحط على ابن تيمية ويغرى بيبرس الذي يفرط في محبة نصر وتعظيمه وقام القاضي المالكي المتقدم ذكره مع الشيخ نصر وبالغ في أذية الحنابلة واتفق أن قاضي الحنابلة كان قليل البضاعة في العلم فبادر إلى إجابتهم في المعتقد واستكتبوا خطه بذلك واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين ابن الجزري انتصر لاين تيمية وكتب في حقه محضراً بالثناء عليه بالعلم والفهم وكتب فيه بخطه ثلاثة عشر سطرا من جملتها أنه منذ ثلثمائة سنة ما رأى الناس مثله فبلغ ذلك ابن مخلوف فسعى في عزل ابن الجزري فعزل وقرر عوضه شمس الدين الأذرعي ثم لم يلبث الأذرعي أن عزل في السنة المقبلة وتعصب سلار لابن تيمية وأحضر القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي وتكلم معهم في إخراجه فاتفقوا على أنهم يشترطون فيه شروطاً وأن يرجع عن بعض العقيدة فأرسلوا إليه مرات فامتنع من الحضور إليهم واستمر على ذلك ولم يزل ابن تيمية في الجب إلى أن تشفع فيه مهنا أمير آل فضل فأخرج في ربيع الأول في الثالث والعشرين منه وأحضر إلى القلعة ووقع البحث مع بعض الفقهاء فكتب عليه محضر بأنه قال أنا أشعري ثم اجتمع جماعة من الصوفية عند تاج الدين بن عطاء فطلعوا في العشر الأوسط من شوال إلى القلعة وشكوا من ابن تيمية أنه يتكلم في حق مشايخ الطريقة وأنه قال لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فاقتضى الحال أن أمر بتسييره إلى الشام فتوجه على خيل البريد وكل ذلك والقاضي زين الدين ابن مخلوف مشتغل بالمرض وقد أشرف على الموت فبلغه سير ابن تيمية فراسل النائب فرده من نابلس وادعى عليه عند ابن جماعة وشهد عليه شرف الدين ابن الصابوني وقيل إن علاء الدين القونوي شهد عليه أيضا فاعتقل بسجن حارة الديلمة في ثامن عشر شوال إلى سلخ شهر صفر سنة 709 فنقل عنه أن جماعة يترددون إليه وأنه يتكلم عليهم في نحو ما تقدم فأمر بنقله إلى الإسكندرية فنقل إليها في سلخ صفر وكان سفره صحبة أمير مقدم ولم يمكن أحداً من جهته من السفر معه وحبس ببرج شرقي ثم توجه إليه بعض أصحابه فلم يمنعوا منه فتوجهت طائفة منهم بعد طائفة وكان موضعه فسيحاً فصار الناس يدخلون إليه ويقرأون عليه ويبحثون معه فلم يزل إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة فشفع فيه عنده فأمر بإحضاره فاجتمع به في ثامن عشر شوال سنة 709 فأكرمه وجمع القضاة فأصلح بينه وبين القاضي المالكي فاشترط المالكي أن لا يعود فقال له السلطان قد تاب وسكن القاهرة وتردد الناس إليه إلى أن توجه صحبة الناصر إلى الشام بنية الغزو سنة 712 فوصل إلى دمشق وكانت غيبته منها أكثر من سبع سنين وتلقاه جمع كثير فرحا بمقدمه وكانت والدته إذ ذاك حية ثم قاموا عليه في شهر رمضان سنة 719 بسبب قوله أن الطلاق الثلاث من دون تخلل رجعة بمنزلة طلقة واحدة ثم عقد له مجلس آخر في رجب سنة 720 ثم حبس بالقلعة ثم أخرج في عاشوراء سنة 721 ثم قاموا عليه مرة أخرى في شعبان سنة 722 بسبب مسألة الزيارة واعتقل بالقلعة فلم يزل بها إلى أن مات في ليلة الاثنين لعشرين من شهر القعدة سنة 738 بجامع دمشق وصار يضرب المثل بكثرة من حضر جنازته وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفاً قال ابن فضل الله لما قدم ابن تيمية على البريد إلى القاهرة في سنة 700 حض أهل المملكة على الجهاد وأغلظ القول للسلطان والأمراء ورتبوا له كل يوم دينارا وطعاماً فلم يقبل ذلك ثم قال حضر عنده شيخنا أبو حيان فقال ما رأت عيناي مثل هذا الرجل ومدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة منها
لما أتانا تقي الدين لاح لنا | داع إلى الله فرد ماله وزر |
على محياه سيماء الأولى صحبوا | خير البرية نور دونه القمر |
أيا علماء الدين ذمي دينكم | تحير دلوه بأعظم حجة |
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم | ولم يرضه مني فما وجه حيلتي |
سؤالك يا هذا سؤال معاند | مخاصم رب العرش رب البرية |
تموت النفوس بأوصابها | ولم يدر عوادها ما بها |
وما أنصفت مهجة تشتكى | أذاها إلى غير أربابها |
والله ما فقرنا اختيار | وإنما فقرنا اضطرار |
جماعة كلنا كسالى | وأكلنا ماله عيار |
تسمع منا إذا اجتمعنا | حقيقة كلها فشار |
دار المعرفة - بيروت-ط 1( 0) , ج: 1- ص: 63
شيخنا الإمام الرباني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، وقريع الدهر، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، علامة الزمان، وترجمان القرآن، علم الزهاد، وأوحد العباد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين، الشيخ تقي الدين؛ أبو العباس، أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن [محمد بن الخضر] بن علي بن عبد الله الحراني؛ نزيل دمشق، وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها.
قيل. إن جده محمد بن الخضر حج - وله امرأة حامل - على درب تيماء، فرأى هناك جاريةً طفلة قد خرجت من خباءٍ، فلما رجع إلى حران وجد امرأته قد ولدت بنتاً، فلما رآها قال: يا تيمية، يا تيمية، فلقب بذلك.
وقال ابن النجار: ذكر لنا أن محمداً هذا كانت أمه تسمى تيمية، وكانت واعظة، فنسب إليها، وعرف بها.
ولد شيخنا بحران يوم الاثنين عاشر - وقيل ثاني عشر - ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة.
وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، وكانوا قد خرجوا من حران مهاجرين بسبب جور التتار، فساروا بالليل ومعهم الكتب على عجلة لعدم الدواب؛ فكاد العدو يلحقهم، ووقفت العجلة، فابتهلوا إلى الله واستغاثوا به فنجوا وسلموا، وقدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين؛ فسمعوا من الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي جزء ابن عرفة، وغير ذلك.
ثم سمع شيخنا الكثير من: ابن أبي اليسر، والكمال بن عبد، والشيخ شمس الدين الحنبلي، والقاضي شمس الدين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدين بن الصيرفي، ومجد الدين بن عساكر، والنجيب المقداد، وابن أبي الخير، وابن علان، وأبي بكر الهروي، والكمال عبد الرحيم، وفخر الدين بن البخاري، وابن شيبان، والشرف بن القواس، وزينب بنت مكي، وخلق كثير.
وشيوخه الذين سمع منهم أزيد من مئتي شيخ.
وسمع ’’مسند الإمام أحمد’’ مرات، و’’معجم الطبراني الكبير’’، والكتب الكبار، والأجزاء، وعني بالحديث، وقرأ بنفسه الكثير، ولازم السماع مدة سنين، وقرأ الغيلانيات في مجلس، ونسخ وانتقى، كتب الطباق والأثبات، وتعلم الخط والحساب في المكتب، واشتغل بالعلوم، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ أياماً في العربية على ابن عبد القوي ثم فهمها، وأخذ يتأمل ’’كتاب سيبويه’’ حتى فهمه، وبرع في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه، وغير ذلك، هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه.
نشأ في تصونٍ تام، وعفاف وتألهٍ، واقتصاد في الملبس والمأكل، ولم يزل على ذلك خلفاً صالحاً سلفياً، براً بوالديه، تقياً، ورعاً، عابداً ناسكاً، صواماً قواماً، ذاكراً لله تعالى في كل أمر وعلى كل حال، رجاعاً إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقافاً عند حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، لا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث، وقل أن يدخل في علم من العلوم، في باب من أبوابه إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حذاق أهله.
وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيتكلم ويناظر، ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، وأفتى وله نحو سبعة عشر سنة، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت.
ومات والده - وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم - فدرس بعده بوظائفه؛ وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد ما يقوله من غير توقفٍ ولا تلعثم، وكذا كان يورد الدرس بتؤدةٍ وصوتٍ جهوري فصيح.
وحج سنة إحدى وتسعين وله ثلاثون سنة، ورجع وقد انتهت إليه الإمامة في العلم، والعمل، والزهد، والورع، والشجاعة، والكرم، والتواضع، والحلم، والأناة، والجلالة، والمهابة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع الصدق والأمانة والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله، وشدة الخوف منه، ودوام المراقبة له، والتمسك بالأثر، والدعاء إلى الله، وحسن الأخلاق، ونفع الخلق والإحسان إليهم.
وكان - رحمه الله - سيفاً مسلولاً على المخالفين، وشجاً في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين، وإماماً قائماً ببيان الحق ونصرة الدين، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار.
وقال شيخنا الحافظ أبو الحجاج: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه.
وقال العلامة كمال الدين بن الزملكاني: كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كان من علوم الشرع أو غيرها - إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة، والترتيب والتقسيم والتبيين، ووقعت مسألة فرعية في قسمةٍ جرف فيها اختلافٌ بين المفتين في العصر؛ فكتب فيها مجلدة كبيرة، وكذلك وقعت مسألة في حد من الحدود؛ فكتب فيها أيضاً مجلدة كبيرة، ولم يخرج في كل واحدةٍ عن المسألة، ولا طول بتخليط الكلام والدخول في شيءٍ والخروج من شيء، وأتى في كل واحدةٍ بما لم يكن يجري في الأوهام والخواطر، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
وقرأت بخط الشيخ كمال الدين أيضاً على كتاب ’’رفع الملام عن الأئمة الأعلام’’ لشيخنا: تأليف الشيخ الإمام العالم، العلامة الأوحد، الحافظ المجتهد، الزاهد العابد، القدوة، إمام الأئمة، قدوة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعين، محيي السنة، ومن عظمت به لله علينا المنة، وقامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجة، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، أعلى الله مناره، وشيد به من الدين أركانه.
ماذا يقول الواصفون له | وصفاته جلت عن الحصر |
هو حجة لله قاهرةٌ | هو بيننا أعجوبة الدهر |
هو آية في الخلق ظاهرةٌ | أنوارها أربت على الفجر |
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان-ط 2( 1996) , ج: 4- ص: 1