ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر النميري الحراني الدمشقي الحنبلي، أبو العباس، تقي الدين ابن تيمية: الامام شيخ الاسلام. ولد في حران وتحول به ابوه إلى دمشق فنبغ واشتهر. وطلب إلى مصر من اجل فتوى افتى بها، فقصدها، فتعصب عليه جماعة من اهلها فسجن مدة، ونقل إلى الاسكندرية. ثم اطلق فسافر إلى دمشق سنة 712 هـ ، واعتقل بها سنة 720 واطلق، ثم اعيد، ومات معتقلا بقلعة دمشق، فخرجت دمشق كلها في جنازته. كان كثير البحث في فنون الحكمة، داعية اصلاح في الدين. آية في التفسير والاصول، فصيح اللسان، قلمه ولسانه متقاربان. وفي الدرر الكامنة انه ناظر العلماء واستدل وبرع في العلم والتفسير وافتى ودرس وهو دون العشرين. اما تصانيفه ففي الدرر انها ربما تزيد على اربعة الاف كراسة، وفي فوات الوفيات انها تبلغ ثلاثة مئة مجلد، منها ’’الجوامع - ط) في السياسة الالهية والايات النبوية، و (الفتاوي - ط) خمس مجلدات، و (الايمان - ط) و (الجمع بين النقل والعقل - خ) الجزء الرابع منه، و (منهاج السنة - ط) و (الفرقان بين اولياء الله واولياء الشيطان - ط) و (الوساطة بين الحق والخلق - ط) و (الصارم المسلول على شاتم الرسول - ط) و (مجموع رسائل - ط) فيه 29 رسالة، و (نظرية العقد - ط) و (تلخيص كتاب الاستغاثة - ط) يعرف بالرد على البكري، وكتاب (الرد على الاخنائي - ط) و (رفع الملام عن الائمة الاعلام - ط) رسالة، و (التوسل والوسيلة - ط) و (نقض المنطق - ط) و (الفتاوي - خ) و (السياسة الشرعية في اصلاح الرراعي والرعية - خ) و (مجموعة - ط) اخرى اشتملت على اربع رسائل: الاولى رأس الحسين (حقق فيها ان رأس الحسين حمل إلى المدينة ودفن في البقيع) والثانية الرد على ابن عربي والصوفية، والثالثة العقود المحرمة، والرابعة قتال الكفار. ولابن قدامة كتاب في سيرته سماه (العقود الدرية في مناقب شيخ الاسلام أحمد بن تيمية - ط).

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 1- ص: 144

ابن تيمية العلامة تقي الدين أحمد بن عبد الحليم، وشرف الدين أخوه عبد الله بن عبد الحليم. وشرف الدين التاجر: عبد الواحد. ومجد الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز. وعلاء ذلدين علي بن عبد الغني.
ابن التيتي: محمد بن إسماعيل.

  • دار الفكر المعاصر، بيروت - لبنان / دار الفكر، دمشق - سوريا-ط 1( 1998) , ج: 2- ص: 145

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني ثم الدمشقي الحنبلي تقي الدين أبو العباس بن شهاب الدين ابن مجد الدين ولد في عاشر ربيع الأول سنة 661 وتحول به أبوه من حران سنة 67 فسمع من ابن عبد الدائم والقاسم الأربلي والمسلم ابن علان وابن أبي عمر والفخر في آخرين وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود وحصل الأجزاء ونظر في الرجال والعلل وتفقه وتمهر وتميز وتقدم وصنف ودرس وأفتى وفاق الأقران وصار عجبا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول والإطالة على مذاهب السلف والخلف وأول ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة 698 قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية وبحثوا معه ومنع من الكلام ثم حضر مع القاضي إمام الدين القزويني فانتصر له وقال هو وأخوه جلال الدين من قال عن الشيخ تقي الدين شيئا عزرناه ثم طلب ثاني مرة في سنة 705 إلى مصر فتعصب عليه بيبرس الجاشنكير وانتصر له سلار ثم آل أمره أن حبس في خزانة البنود مدة ثم نقل في صفر سنة 709 إلى الاسكندرية ثم أفرج عنه وأعيد إلى القاهرة ثم أعيد إلى الاسكندرية ثم حضر الناصر من الكرك فأطلقه ووصل إلى دمشق في آخر سنة 712 وكان السبب في هذه المحنة أن مرسوم السلطان ورد على النائب بامتحانه في معتقده لما وقع إليه من أمور تنكر في ذلك فعقد له مجلس في سابع رجب وسئل عن عقيدته فأملأ منها شيئا ثم احتضروا العقيدة التي تعرف بالواسطية فقرئ منها وبحثوا في مواضع ثم اجتمعوا في ثاني عشرة وقرروا الصفي الهندي يبحث معه ثم أخروه وقدموا الكمال الزملكاني ثم انفصل الأمر على أنه شهد على نفسه أنه شافعي المعتقد فأشاع أتباعه أنه انتصر فغضب خصومه ورفعوا واحدا من أتباع ابن تيمية إلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية فعزره وكذا فعل الحنفي باثنين منهم ثم في ثاني عشرى رجب قرأ المزي فصلا من كتاب أفعال العباد للبخاري في الجامع فسمعه بعض الشافعية فغضب وقالوا نحن المقصودون بهذا ورفعوه إلى القاضي الشافعي فأمر بحبسه فبلغ ابن تيمية فتوجه إلى الحبس فأخرجه بيده فبلغ القاضي فطلع إلى القلعة فوافاه ابن تيمية فتشاجرا بحضرة النائب واشتط ابن تيمية على القاضي لكون نائبه جلال الدين آذى أصحابه في غيبة النائب فأمر النائب من ينادي أن من تكلم في العقائد فعل كذا به وقصد بذلك تسكين الفتنة ثم عقد لهم مجلس في سلخ رجب وجرى فيه بين ابن الزملكاني وابن الوكيل مباحثة فقال ابن الزملكاني لابن الوكيل ما جرى على الشافعية قليل حتى تكون أنت رئيسهم فظن القاضي نجم الدين بن صصرى أنه عناه فعزل نفسه وقام فأعانه الأمراء وولاه النائب وحكم الحنفي بصحة الولاية ونفذها المالكي فرجع إلى منزله وعلم أن الولاية لم تصح فصمم على العزل فرسم النائب لنوابه بالمباشرة إلى أن يرد أمر السلطان ثم وصل بريدي في أواخر شعبان بعوده ثم وصل بريدي في خامس رمضان بطلب القاضي والشيخ وأن يرسلوا بصورة ما جرى للشيخ في سنة 698 ثم وصل مملوك النائب وأخبر أن الجاشنكير والقاضي المالكي قد قاما في الإنكار على الشيخ وأن الأمر اشتد بمصر على الحنابلة حتى صفع بعضهم ثم توجه القاضي والشيخ إلى القاهرة ومعهما جماعة فوصلا في العشر الأخير من رمضان وعقد مجلس في ثالث عشر منه بعد صلاة الجمعة فادعى على ابن تيمية عند المالكي فقال هذا عدوي ولم يجب عن الدعوى فكرر عليه فأصر فحكم المالكي بحبسه فأقيم من المجلس وحبس في برج ثم بلغ المالكي أن الناس يترددون إليه فقال يجب التضييق عليه أن لم يقتل وإلا فقد ثبت كفره فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجب وعاد القاضي الشافعي إلى ولايته ونودي بدمشق من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله خصوصا الحنابلة فنودي بذلك وقرئ المرسوم وقرأها ابن الشهاب محمود في الجامع ثم جمعوا الحنابلة من الصالحية وغيرها واشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي وذكر ولد الشيخ جمال الدين ابن الظاهري في كتاب كتبه لبعض معارفه بدمشق أن جميع من بمصر من القضاة والشيوخ والفقراء والعلماء والعوام يحطون على ابن تيمية إلا الحنفي فإنه يتعصب له وإلا الشافعي فإنه ساكت عنه وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ نصر المنبجي لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن العربي فكتب إليه كتابا يعاتبه على ذلك فما أعجبه لكونه بالغ في الحط على ابن العربي وتكفيره فصار هو يحط على ابن تيمية ويغري به بيبرس الجاشنكير وكان بيبرس يفرط في محبة نصر ويعظمه وقام القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية مع الشيخ نصر وبالغ في أذية الحنابلة واتفق أن قاضي الحنابلة شرف الدين الحراني كان قليل البضاعة في العلم فبادر إلى إجابتهم في المعتقد واستكتبوه خطه بذلك واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين ابن الحريري انتصر لابن تيمية وكتب في حقه محضرا بالثناء عليه بالعلم والفهم وكتب فيه بخطه ثلاثة عشر سطرا من جملتها أنه منذ ثلاثمائة سنة ما رأى الناس مثله فبلغ ذلك ابن مخلوف فسعى في عزل ابن الحريري فعزل وقرر عوضه شمس الدين الأذرعي ثم لم يلبث الأذرعي أن عزل في السنة المقبلة وتعصب سلار لابن تيمية وأحضر القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي وتكلم معهم في إخراجه فاتفقوا على أنهم يشترطون فيه شروطا وأن يرجع عن بعض العقيدة فأرسلوا إليه مرات فامتنع من الحضور إليهم واستمر ولم يزل ابن تيمية في الجب إلى أن شفع فيه مهنا أمير آل فضل فأخرج في ربيع الأول في الثالث وعشرين منه وأحضر إلى القلعة ووقع البحث مع بعض الفقهاء فكتب عليه محضر بأنه قال أنا أشعري ثم وجد خطه بما نصه الذي اعتقد أن القرآن معنى قائم بذات الله وهو صفة من صفات ذاته القديمة وهو غير مخلوق وليس بحرف ولا صوت وأن قوله {الرحمن على العرش استوى} ليس على ظاهره ولا أعلم كنه المراد به بل لا يعلمه إلا الله والقول في النزول كالقول في الاستواء وكتبه أحمد بن تيمية ثم أشهدوا عليه أنه تاب مما ينافي ذلك مختارا وذلك في خامس عشرى ربيع الأول سنة 707 وشهد عليه بذلك جمع جم من العلماء وغيرهم وسكن الحال وأفرج عنه وسكن القاهرة ثم اجتمع جمع من الصوفية عند تاج الدين إبن عطاء فطلعوا في العشر الأوسط من شوال إلى القلعة وشكوا من ابن تيمية أنه يتكلم في حق مشايخ الطريق وأنه قال لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فاقتضى الحال أن أمر بتسييره إلى الشام فتوجه على خيل البريد ... وكل ذلك والقاضي زين الدين ابن مخلوف مشتغل بنفسه بالمرض وقد أشرف على الموت وبلغه سفر ابن تيمية فراسل النائب فرده من بلبيس وادعى عليه عند ابن جماعة وشهد عليه شرف الدين ابن الصابوني وقيل أن علاء الدين القونوي أيضا شهد عليه فاعتقل بسجن بحارة الديلم في ثامن عشر شوال إلى سلخ صفر سنة 709 فنقل عنه أن جماعة يترددون إليه وأنه يتكلم عليهم في نحو ما تقدم فأمر بنقله إلى الاسكندرية فنقل إليها في سلخ صفر وكان سفره صحبة أمير مقدم ولم يمكن أحدا من جهته من السفر معه وحبس ببرج شرقي ثم توجه إليه بعض أصحابه فلم يمنعوا منه فتوجهت طائفة منهم بعد طائفة وكان موضعه فسيحا فصار الناس يدخلون إليه ويقرؤون عليه ويبحثون معه قرأت ذلك في تاريخ البرزالي فلم يزل إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة فشفع فيه عنده فأمر بإحضاره فاجتمع به في ثامن عشر شوال سنة 9 فأكرمه وجمع القضاة وأصلح بينه وبين القاضي المالكي فاشترط المالكي أن لا يعود فقال له السلطان قد تاب وسكن القاهرة وتردد الناس إليه إلى أن توجه صحبة الناصر إلى الشام بنية الغزاة في سنة 712 وذلك في شوال فوصل دمشق في مستهل ذي القعدة فكانت مدة غيبته عنها أكثر من سبع سنين وتلقاه جمع عظيم فرحا بمقدمه وكانت والدته إذ ذاك في قيد الحياة ثم قاموا عليه في شهر رمضان سنة 719 بسبب مسألة الطلاق وأكد عليه المنع من الفتيا ثم عقد له مجلس آخر في رجب سنة عشرين ثم حبس بالقلعة ثم أخرج في عاشوراء سنة 721 ثم قاموا عليه مرة أخرى في شعبان سنة 726 بسبب مسألة الزيارة واعتقل بالقلعة فلم يزل بها إلى أن مات في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة 728 قال الصلاح الصفدي كان كثيرا ما ينشد

وكان ينشد كثيرا
وأنشد له على لسان الفقراء
وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار وأورد فيه من أمداح أهل عصره كابن الزملكاني قبل أن ينحرف عليه وكأبي حيان كذلك وغيرهما قال ورثاه محمود بن علي الدقوقي ومجير الدين ابن الخياط وصفي الدين عبد المؤمن البغدادي وجمال الدين ابن الأثير وتقي الدين محمد ابن سليمان الجعبري وعلاء الدين بن غانم وشهاب الدين ابن فضل الله وزين الدين ابن الوردي وجمع جم وأورد لنفسه فيه مرثية على قافية الضاد المعجمة قال الذهبي ما ملخصه كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل ورجع وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه قال وما رأيت أسرع انتزاعا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه ولا أشد استحضارا للمتون وعزوها منه كان السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه هذا مع ما كان عليه من الكرم والشجاعة والفراغ عن ملاذ النفس ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر وكان قوالا بالحق لا يأخذه في الله لومة لائم قال ومن خالطه وعرفه فقد ينسبني إلى التقصير فيه ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده وكان أبيض اسود الرأس واللحية قليل الشيب شعره إلى شحمة أذنيه وكأن عينيه لسانان ناطقان ربعة من الرجال بعيد ما بين المنكبين جهوري الصوت فصيحا سريع القراءة تعتريه حدة لكن يقهرها بالحلم قال ولم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجهه وأنا لا أعتقد فيه عصمة بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية فإنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشرا من البشر تعتريه حدة في البحث وغضب وشظف للخصم تزرع له عداوة في النفوس وإلا لو لاطف خصومه لكان كلمة إجماع فإن كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بشنوفه مقرون بندور خطائه وأنه بحر لا ساحل له وكنز لا نظير له ولكن ينقمون عليه إخلافا وأفعالا وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك قال وكان محافظا على الصلاة والصوم معظما للشرائع ظاهرا وباطنا لا يؤتى من سوء فهم فإن له الذكاء المفرط ولا من قلة علم فإنه بحر زخار ولا كان متلاعبا بالدين ولا ينفرد بمسائله بالتشهي ولا يطلق لسانه بما اتفق بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة من تقدمه من الأئمة فله أجر على خطائه وأجران على إصابته إلى أن قال تمرض أياما بالقلعة بمرض جد إلى أن مات ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة وصلي عليه بجامع دمشق وصار يضرب بكثرة من حضر جنازته المثل وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفا قال الشهاب ابن فضل الله لما قدم ابن تيمية على البريد إلى القاهرة في سنة سبعمائة نزل عند عمي شرف الدين وحض أهل المملكة على الجهاد فأغلظ القول للسلطان والأمراء ورتبوا له في مقر إقامته في كل يوم دينارا ومخفقة طعام فلم يقبل شيئا من ذلك وأرسل له السلطان بقجة قماش فردها قال ثم حضر عنده شيخنا أبو حيان فقال ما رأت عيناي مثل هذا الرجل ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديها وأنشده إياها
قال ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ ابن تيمية القول في سيبوية فنافره ابو حيان وقطعه بسببه ثم عاد ذاما له وصير ذلك ذنبا لا يغفر قال وحج ابن المحب سنة 34 فسمع من أبي حيان أناشيد فقرأ عليه هذه الأبيات فقال قد كشطتها من ديواني ولا أذكره بخير فسأله عن السبب في ذلك فقال ناظرته في شيء من العربية فذكرت له كلام سيبويه فقال يفشر سيبويه قال أبو حيان وهذا لا يستحق الخطاب ويقال إن ابن تيمية قال له ما كان سيبويه نبي النحو ولا كان معصوما بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعا ما تفهمها أنت فكان ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره البحر بكل سوء وكذلك في مختصره النهر ورثاه شهاب الدين ابن فضل الله بقصيدة رائية مليحة وترجم له ترجمة هائلة تنقل من المسالك إن شاء الله ورثاه زين الدين ابن الوردي بقصيدة لطيفة طائية وقال جمال الدين السومري في أماليه ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل زماننا أن ابن تيمية كان يمر بالكتاب مطالعة مرة فينتقش في ذهنه وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه وقال الأقشهري في رحلته في حق ابن تيمية بارع في الفقه والأصلين والفرائض والحساب وفنون أخر وما من فن إلا له فيه يد طولى وقلمه ولسانه متقاربان قال الطوفي سمعته يقول من سألني مستفيدا حققت له ومن سألني متعنتا ناقضته فلا يلبث أن ينقطع فأكفي مؤنته وذكر تصانيفه وقال في كتابه أبطال الحيل عظيم النفع وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس كأن هذه العلوم بين عينيه فأخذ منها ما يشاء ويذر ومن ثم نسب أصحابه إلى الغلو فيه واقتضى له ذلك العجب بنفسه حتى زها على أبناء جنسه واستشعر أنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قويهم وحديثهم حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شيء فبلغ الشيخ إبراهيم الرقي فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر وقال في حق علي أخطأ في سبعة عشر شيئا ثم خالف فيها نص الكتاب منها اعتداد المتوفي عنها زوجها أطول الأجلين وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى أنه سب الغزالي فقام عليه قوم كادوا يقتلونه ولما قدم غازان بجيوش التتر إلى الشام خرج إليه وكلمه بكلام قوي فهم بقتله ثم نجا واشتهر أمره من يومئذ واتفق الشيخ نصر المنبجي كان قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس الجاشنكير فيه فبلغه أن ابن تيمية يقع في ابن العربي لأنه كان يعتقد أنه مستقيم وأن الذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه فأرسل ينكر عليه وكتب إليه كتابا طويلا ونسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة الإلحاد فعظم ذلك عليهم وأعانه عليه قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد مغيرة وقعت منه في مواعيده وفتاويه فذكروا أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال كنزولي هذا فنسب إلى التجسيم ورده على من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو استغاث فأشخص من دمشق في رمضان سنة خمس وسبعمائة فجرى عليه ما جرى وحبس مرارا فأقام على ذلك نحو أربع سنين أو أكثر وهو مع ذلك يشغل ويفتي إلى أن اتفق أن الشيخ نصرا قام على الشيخ كريم الدين الآملي شيخ خانقاه سعيد السعداء فأخرجه من الخانقاه وعلى شمس الدين الجزري فأخرجه من تدريس الشريفية فيقال أن الآملي دخل الخلوة بمصر أربعين يوما فلم يخرج حتى زالت دولة بيبرس وخمل ذكر نصر وأطلق ابن تيمية إلى الشام وافترق الناس فيه شيعا فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك كقوله أن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وأنه مستو على العرش بذاته فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال أنا لا أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بتحيز في ذات الله ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستغاث به وأن في ذلك تنقيصا ومنعا من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس عليه في ذلك النور البكري فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض الحاضرين يعزر فقال البكري لا معنى لهذا القول فإنه إن كان تنقيصا يقتل وإن لم يكن تنقيصا لا يعزر ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم ولقوله إنه كان مخذولا حيث ما توجه وأنه حاول الخلافة مرارا فلم ينلها وإنما قاتل للرئاسة لا للديانة ولقوله إنه كان يحب الرئاسة وأن عثمان كان يحب المال ولقوله أبو بكر أسلم شيخا يدري ما يقول وعلي أسلم صبيا والصبي لا يصح إسلامه على قول وبكلامه في قصة خطبة بنت أبي جهل ومات ما نسبها من الثناء على ... وقصة أبي العاص ابن الربيع وما يؤخذ من مفهومها فإنه شنع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وسلم ولا يبغضك إلا منافق ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكدا لطول سجنه وله وقائع شهيرة وكان إذا حوقق وألزم يقول لم أرد هذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالا بعيدا قال وكان من أذكياء العالم وله في ذلك أمور عظيمة منها أن محمد بن أبي بكر السكاكيني عمل أبياتا على لسان ذمي في إنكار القدر وأولها
فوقف عليها ابن تيمية فثنى إحدى رجليه على الأخرى وأجاب في مجلسه قبل أن يقوم بمائة وتسعة عشر بيتا أولها
وكان يقول أنا فأقرت في الأقفاص وقال شيخ شيوخنا الحافظ أبو الفتح اليعمري في ترجمة ابن تيمية حداني يعني المزي على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين فألفيته ممن أدرك من العلوم حظا وكان يستوعب السنن والآثار حفظا إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته برز في كل فن على أبناء جنسه ولم تر عين من رآه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه كان يتكلم في التفسير فيحضر مجلسه الجم الغفير ويردون من بحره العذب النمير يرتعون من ربع فضله في روضة وغدير إلى أن دب إليه من أهل بلده داء الحسد وألب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد فحفظوا عنه في ذلك كلاما أوسعوه بسببه ملاما وفوقوا لتبديعه سهاما وزعموا أنه خالف طريقهم وفرق فريقهم فنازعهم ونازعوه وقاطع بعضهم وقاطعوه ثم نازع طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة ويزعمون أنهم على أدق باطن منها وأجلى حقيقة فكشف تلك الطرائق وذكر على ما زعم بوائق فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه واستغاثت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه فوصلوا بالأمراء أمره وأعمل كل منهم في كفره فكره فرتبوا محاضر وألبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر وسعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية فنقل وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل وعقدوا لإراقة دمه مجالس وحشدوا لذلك قوما من عمار الزوايا وسكان المدارس ما بين مجامل في المنازعة ومخاتل بالمخادعة ومجاهر بالتكفير مباد بالمقاطعة يسومونه ريب المنون وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالا من المجامل وقد دبت إليه عقارب مكره فرد الله كيد كل في نحره ونجاه على يد من اصطفاه والله غالب على أمره ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة إلى أن فوض أمره إلى بعض القضاة فتقلد ما تقلد من اعتقاله ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله وانتقاله وإلى الله ترجع الأمور وهو مطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور وكان يومه مشهودا ضاقت بجنازته الطريق وانتابها المسلمون من كل فج عميق يتقربون بمشهده يوم يقوم الإشهاد ويتمسكون بسريره حتى كسروا تلك الأعواد قال الذهبي مترجما له في بعض الإجازات قرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ وبرع في العلم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين وصنف التصانيف وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه وتصانيفه نحو أربعة آلاف كراسة وأكثر وقال في موضع آخر وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلا عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير وفي موضع آخر وله باع طويل في معرفة أقوال السلف وقل أن تذكر مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأئمة وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل صنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة ولما كان معتقلا بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له بعض مروياته فكتب له جملة من ذلك في عشرة أوراق بأسانيده من حفظه بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر من يكون وأقام عدة سنين لا يفتي بمذهب معين وقال في موضع آخر بصيرا بطريقة السلف واحتج له بأدلة وأمور لم يسبق إليها وأطلق عبارات أحجم عنها غيره حتى قام عليه خلق من العلماء بالمصرين فبدعوه وناظروه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق إذا أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته فجرى بينهم حملات حربية ووقعات شآمية ومصرية ورموه عن قوس واحدة ثم نجاه الله تعالى وكان دائم الابتهال كثير الاستعانة قوي التوكل رابط الجأش له أوراد وأذكار يدمنها قلبية وجمعية وكتب الذهبي إلى السبكي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيمية فأجابه ومن جملة الجواب وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحقق كبير قدره وزخارة بحره وتوسعه في العلوم النقلية والعقلية وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف والمملوك يقول ذلك دائما وقدره في نفسير أكبر من ذلك وأجل مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه وحرية على سنن السلف وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله في هذا الزمان بل فيما مضى من أزمان وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي في ثبت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء الدين عبد الله بن محمد بن خليل ما نصه وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين شيخنا وسيدنا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى شيخ التحقيق السالك بمن اتبعه أحسن طريق ذي الفضائل المتكاثرة والحجج القاهرة التي أقرت الأمم كافة أن هممها عن حصرها قاصرة ومتعنا الله بعلومه الفاخرة ونفعنا به في الدنيا والآخرة وهو الشيخ الإمام العالم الرباني والحبر البحر القطب النوراني إمام الأئمة بركة الأمة 187 علامة العلماء وارث الأنبياء آخر المجتهدين أوحد علماء الدين شيخ الإسلام حجة الأعلام قدوة الأنام برهان المتعلمين قامع المبتدعين سيف المناظرين بحر العلوم كنز المستفيدين ترجمان القرآن أعجوبة الزمان فريد العصر والأوان تقي الدين إمام المسلمين حجة الله على العالمين اللاحق بالصالحين والمشبه بالماضين مفتي الفرق ناصر الحق علامة الهدى عمدة الحفاظ فارس المعاني والألفاظ ركن الشريعة ذو الفنون البديعة أبو العباس ابن تيمية وقرأت بخط الشيخ برهان الدين محدث حلب قال اجتمعت بالشيخ شهاب الدين الأذرعي سنة 79 لما أردت الرحلة إلى دمشق فكتب لي كتبا إلى الياسوفي والحسباني وابن الجابي وابن مكتوم وجماعة الشافعية إذ ذاك فحصل لي بذلك منهم تعظيم وذكر لي في ذلك المجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية وأثنى عليه وذكر شيئا من كراماته وذكر أنه حضر جنازته وأن الناس خرجوا من الجامع من كل باب وخرجت من باب البريد فوقعت سرموزتي فلم أستطع أن أستعيدها وصرت أمشي على صدور الناس ثم لما فرغنا ورجعت لقيت السرموزة وذلك من بركة الشيخ رحمه الله. لزمان بل من أزمان، وقرأت بخط الحافظ صلاح الدين العلائي في ثبت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء الدين عبد الله بن محمد بن خليل ما نصه وسمع بهاء الدين المذكور على الشيخين شيخنا وسينا وإمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى شيخ التحقيق السالك بمن أتبعه وأحسن طريق ذي الفضائل المتكاثرة والحجج القاهرة التي أقرت الأمم كافة أن هممها عن حصرها قاصرة ومتعنا الله بعلومه الفاخرة ونفعنا به في الدنيا والآخرة وهو الشيخ الإمام العالم الرباني والحبر البحر القطب النوراني إمام الأئمة بركة الأمة علامة العلماء وارث الأنبياء آخر المجتهدين أوحد علماء الدين شيخ الإسلام حجة الأعلام قدوة الأنام برهان المتعلمين قامع المبتدعين سيف المناظرين بحر العلوم كنز المستفيدين ترجمان القرآن أعجوبة الزمان فريد العصر والأوان تقي الدين إمام المسلمين حجة الله على العالمين اللاحق بالصالحين والمشبه بالماضين مفتي الفرق ناصر الحق علامة الهدى عمدة الحفاظ فارس المعاني والألفاظ ركن الشريعة ذو الفنون البديعة أبو العباس ابن تيمية وقرأت بخط الشيخ برهان الدين محدث حلب قال اجتمعت بالشيخ شهاب الدين الأذرعي سنة 79 لما أردت الرحلة إلى دمشق فكتب لي كتبا إلى الياسوفي والحسباني وابن الجابي وابن مكتوم وجماعة الشافعية إذ ذاك فحصل لي بذلك منهم تعظيم وذكر لي في ذلك المجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية وأثنى عليه وذكر شيئا من كراماته وذكر أنه حضر جنازته وأن الناس خرجوا من الجامع من كل باب وخرجت من باب البريد فوقعت سرموزتي فلم أستطع أن أستعيدها وصرت أمشي على صدور الناس ثم لما فرغنا ورجعت لقيت السرموزة وذلك من بركة الشيخ رحمه الله

  • مجلس دائرة المعارف العثمانية - صيدر اباد/ الهند-ط 2( 1972) , ج: 1- ص: 0

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن تيمية الحراني. ثم الدمشقي الحنبلي، الإمام العلامة الفقيه المجتهد الناقد المفسر البارع الأصولي شيخ الإسلام علم الزهاد نادرة دهره تقي الدين أبو العباس، ابن المفتي شهاب الدين عبد الحليم، ابن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين، شهرته تغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره.
ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحران،
وقدم به والده وبإخوته إلى دمشق، عند استيلاء التتار على البلاد سنة سبع وستين. فسمع بها من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، والمجد بن عساكر، ويحيى بن الصيرفي الفقيه. وابن أبي الخير الحداد، والقاسم الإربلي، والشيخ شمس الدين بن أبي عمر والمسلم بن علان، وإبراهيم بن الدرجي؛ وخلق.
وعني بالحديث، وسمع «المسند» مرات، والكتب الستة، و «معجم الطبراني» الكبير، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء.
وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره. فأخذ الفقه والأصول عن والده، وعن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والشيخ زين الدين بن المنجا. وبرع في ذلك.
وقرأ في العربية أياما على ابن عبد القوي، ثم أخذ «كتاب سيبويه»، فتأمله ففهمه.
وأقبل على تفسير القرآن الكريم، وبرز فيه، وأحكم أصول الفقه.
والفرائض والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من العلوم، ونظر في علم الكلام والفلسفة وبرز في ذلك على أهله، ورد على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل.
وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضا، وأمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبطء النسيان، حتى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئا فينساه، ثم توفي والده وكان له حينئذ إحدى وعشرين سنة. فقام بوظائفه بعده، فدرس بدار الحديث السكرية في أول سنة ثلاث وثمانين.
وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي. والشيخ تاج الدين
الفزاري، وزين الدين بن المرحل. والشيخ زين الدين بن المنجا، وجماعة، وذكر درسا عظيما في البسملة. وهو مشهور بين الناس، وعظمه الجماعة الحاضرون، وأثنوا عليه ثناء كثيرا.
قال الذهبي: وكان الشيخ تاج الدين الفزاري، يبالغ في تعظيمه، بحيث أنه علق بخطه درسه بالسكرية، ثم جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع، لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن، وكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر، وبقي يفسر في سورة نوح عليه السلام، عدة سنين أياما يوم أجمع. وفي سنة تسعين: ذكر على الكرسي يوم جمعة شيئا من الصفات، فقام بعض المخالفين، وسعوا في منعه من الجلوس، فلم يمكنهم ذلك.
وقال قاضي القضاة شهاب الدين بن الخويي: أنا على اعتقاد الشيخ تقي الدين، فعوتب في ذلك. فقال: لأن ذهنه صحيح، ومواده كثيرة. فهو لا يقول إلا الصحيح، فقال الشيخ شرف الدين المقدسي: أنا أرجو بركته ودعاءه، وهو صاحبي وأخي، ذكر ذلك البرزالي في «تاريخه».
وشرع الشيخ في الجمع والتصنيف من دون العشرين، ولم يزل في علو وازدياد من العلم والقدر إلى آخر عمره.
قال الذهبي في «معجم شيوخه»: برع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ ما يحفظه
معزوا إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضار له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث أنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب بل بما يقوم دليله عنده، وأتقن العربية أصولا وفروعا وتعليلا واختلافا، ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، ورد عليهم، ونبه على أخطائهم، وحذر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين.
وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالا من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبا، وعلى طاعته، وأحيى به الشام، بل الإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأب النفاق وأبدى صفحته، ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه.
قال الذهبي: وقد قرأت بخط شيخنا العلامة كمال الدين بن الزملكاني، ما كتبه سنة بضع وتسعين تحت اسم «ابن تيمية» كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع: أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدا لا يعرفه مثله.
وكان الفقهاء من سائر الوظائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء كثيرة، ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم- سواء كان من علم الشرع أو غيره- إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
وأما تصانيفه رحمه الله فهي أشهر من أن تذكر، وأعرف من أن تنكر.
سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار، قد جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن أحد حصرها، ولا يتسع هذا الكلام لعد المعروف منها ولا ذكرها. وقد بلغت ثلاثمائة مجلدة.
وكتب بخطه من التصانيف والتعاليق المفيدة. والفتاوى المشبعة في الأفرع والأصول والحديث ورد البدع بالكتاب والسنة شيئا كثيرا، يبلغ عدة احمال، فمما كمل منها «كتاب الصارم المسلول على منتقص الرسول» و «كتاب تبطيل التحليل» و «كتاب اقتضاء الصراط المستقيم» و «كتاب تأسيس التقديس» في عدة مجلدات، و «كتاب الرد على طوائف الشيعة» أربع مجلدات. و «كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام»، و «كتاب السياسة الشرعية»، و «كتاب التصوف»، و «كتاب الكلم الطيب»، و «كتاب مناسك الحج»، وغير ذلك.
وقد امتحن وأوذي مرارا ومات في سحر ليلة الاثنين والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة معتقلا بقلعة الشام، وقد وقع أجره على الله.

  • دار الكتب العلمية - بيروت-ط 0( 0000) , ج: 1- ص: 46

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن محمد بن تيمية. مفتي الشام ومحدثه وحافظه.
كان يرتكب شواذ الفتاوى، ويزعم أنه مجتهد مصيب. سمع من أبي عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن أبي الخير وابن عطاء وابن عساكر وابن البخاري: فخر الدين وله تآليف.
مولده سنة 661 بحران ذكره ابن جابر في شيوخه.

  • دار التراث العربي - القاهرة-ط 1( 1972) , ج: 1- ص: 0

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية شيخنا الإمام تقي الدين أبو العباس الحراني فريد العصر علما ومعرفة وذكاء وحفظا وكرما وزهدا وفرط شجاعة وكثرة تآليف والله يصلحه ويسدده، فلسنا بحمد الله ممن نغلو فيه ولا نجفو عنه، ما رئي كاملا مثل أئمة التابعين وتابعيهم، فما رأيته إلا ببطن كتاب.
ولد شيخنا في عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مائة بحران وتحولوا إلى دمشق سنة سبع وستين، فسمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وخلق كثير، وعني بالرواية، وسمع الكتب والمسند والمعجم الكبير، سمعت جملة من مصنفاته وجزء ابن عرفة، وغير ذلك.
وكانت وفاته في العشرين من شهر ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مائة مسجونا بقاعة من قلعة دمشق، وشيعه أمم لا يحصون إلى مقبرة الصوفية، ولم يخلف بعده مثله في العلم، ولا من يقاربه.

  • مكتبة الصديق، الطائف - المملكة العربية السعودية-ط 1( 1988) , ج: 1- ص: 56

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن القاسم بن تيمية
الحراني الدمشقي الحنبلي تقي الدين أبو العباس شيخ الإسلام إمام الأئمة المجتهد المطلق ولد سنة 661 إحدى وستين وستمائة وتحول به أبوه من حران سنة 667 سبع وستين وستمائة فسمع من ابن عبد الدايم والقاسم الأريلى والمسلم ابن علان وابن أبي نمر والفخر ومن آخرين قال ابن حجر في الدرر وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود وحصل الأجزاء ونظر في الرجال والعلل وتفقه وتمهر وتقدم وصنف ودرس وأفتى وفاق الأقران وصار عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمقعول والاطلاع على مذاهب السلف والخلف انتهى وأقول أنا لا أعلم بعد ابن حزم مثله وما أظنه سمح الزمان ما بين عصر الرجلين بمن شابههما أو يقاربهما قال الذهبي ما ملخصه كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف التي يوردها منه ولا أشد استحضاراً للمتون وعزوها منه وكانت السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه هذا مع ما كان عليه من الكرم والشجاعة والفراغ عن ملاذ النفس ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر وكان قوالاً بالحق لا تأخذه بالله لومة لائم ثم قال ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير فيه ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده وكان أبيض اسود الرأس واللحية قليل الشيب شعره إلى شحمة أذنيه كأن عينيه لسانان ناطقان ربعة من الرجال بعيد ما بين المنكبين جهوري الصوت فصيحاً سريع القراءة تعتريه حدة لكن يقهرها بالحلم قال ولم أر مثله في ابتهاله واستعانته بالله وكثرة توجهه وأنا لا أعتقد فيه عصمة بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية فأنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشراً من البشر تعتريه حدة في البحث وغضب وصدمة للخصوم تزرع له عداوة في النفوس ولولا ذلك لكان كلمة إجماع فإن كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بأنه بحر لا ساحل له وكنز ليس له نظير ولكن ينقمون عليه أخلاقاً وأفعالاً وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك قال وكان محافظاً على الصلاة والصوم معظما للشرائع ظاهرا وباطنا لا يؤتى من سوء فهم فإن له الذكاء المفرط ولا من قلة علم فإنه بحر زاخر ولا كان متلاعباً بالدين ولا ينفرد بمسائل بالتشهي ولا يطلق لسانه بما اتفق بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة بمن تقدمه من الأئمة فله أجر على خطأه وأجران على إصابته انتهى ومع هذا فقد وقع له مع أهل عصره قلاقل وزلازل وامتحن مرة بعد أخرى في حياته وجرت فتن عديدة والناس قسمان في شأنه فبعض منهم مقصر به عن المقدار الذي يستحقه بل يرميه بالعظائم وبعض آخر يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد ويتعصب له كما يتعصب أهل القسم الأول عليه وهذه قاعدة مطردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية ويفوق أهل عصره ويدين بالكتاب والسنة فإنه لا بد أن يستنكره المقصرون ويقع له معهم محنة بعد محنة ثم يكون أمره الأعلى وقوله الأولى ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره وهكذا حال هذا الإمام فإنه بعد موته عرف الناس مقداره واتفقت الألسن بالثناء عليه إلا من لا يعتد به وطارت مصنفاته واشتهرت مقالاته وأول ما أنكر عليه أهل عصره في شهر ربيع الأول سنة 698 أنكروا عليه شيء من مقالاته فقام عليه الفقهاء وبحثوا معه ومنع من الكلام ثم طلب ثاني مرة في سنة 705 إلى مصر فتعصب عليه بعض أركان الدولة وهو بيبرس الجاشنكير وانتصر له ركن آخر وهو الأمير سلار ثم آل أمره أن حبس في خزانة البنود مدة ثم نقل في صفر سنة 9 إلى الإسكندرية ثم أفرج عنه وأعيد إلى القاهرة ثم أعيد إلى الإسكندرية ثم حضر السلطان الناصر من الكرك فأطلقه ووصل إلى دمشق في آخر سنة 712 وكان السبب في هذه المحنة أن مرسوم السلطان ورد على النائب بامتحانه في معتقده لما رفع إليه من أمور تنكر في ذلك فعقد له مجلس في سابع رجب فسئل عن عقيدته فأملى منها ثم أحضروا العقيدة التي تعرف بالواسطية فقرأ منها وبحثوا في مواضع ثم اجتمعوا في ثاني عشرة وقرروا الصفي الهندي يبحث معه ثم أخروه وقدموا الكمال الزملكاني ثم انفصل الأمر على أنه أشهد على نفسه أنه شافعي المعتقد فأشاع أتباعه أنه انتصر فغضب خصومه ورفعوا واحداً من أتباع ابن تيمية إلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية فعزره وكذا فعل الحنفي باثنين منهم وفى ثاني عشر رجب قرأ المزي فصلاً من الكتاب أفعال العباد للبخاري في الجامع فسمع بعض الشافعية فغضب وقال نحن المقصودون بهذا ورفعوه إلى القاضي الشافعي فأمر بحبسه فبلغ ابن تيمية فتوجه إلى الحبس فأخرجه بيده فبلغ القاضي فطلع إلى القلعة فوافاه ابن تيمية فتشاجرا بحضرة النائب فأمر النائب من ينادى أن من تكلم في العقائد فعل به كذا وقصد بذلك تسكين الفتنة ثم عقد له مجلس في سلخ شهر رجب وجرى فيه من ابن الزملكاني وابن الوكيل مباحثة فقال ابن الزملكاني لابن الوكيل ما جرى على الشافعية قليل حيث تكون أنت رئيسهم، فظن القاضي ابن صصري أنه يعرض به فعزل نفسه ثم وصل بربد من عند السلطان إلى دمشق أن يرسلوا بصورة ما جرى في سنة 698 ثم وصل مملوك النائب وأخبر أن بيبرس والقاضي المالكي قد قاما في الإنكار على ابن تيمية وأن الأمر قد اشتد على الحنابلة حتى صفع بعضهم ثم توجه القاضي ابن صصري وابن تيمية صحبة البريد إلى القاهرة ومعهما جماعة فوصلا في العشر الأخيرة من رمضان وعقد مجلس في ثاني عشرينه بعد صلاة الجمعة فادعى على ابن تيمية عند المالكي فقال هذا عدوى ولم يجب عن الدعوى فكرر عليه فأصر فحكم المالكي بحبسه فأقيم من المجلس وحبس في برج ثم بلغ المالكي أن الناس يترددون إليه فقال يجب التضييق عليه ان لم يقتل والا فقد ثبت كفره فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجب ولقد أحسن المترجم له رحمه الله بالتصميم على عدم الإجابة عند ذلك القاضي الجرئ الجاهل الغبي ولو وقعت منه الإجابة لم يبعد الحكم بإراقة دم هذا الإمام الذي سمح الزمان به وهو بمثله بخيل ولا سيما هذا القاضي من المالكية الذي يقال له ابن مخلوف فإنه من شياطينهم المتجرئين على سفك دماء المسلمين بمجرد أكاذيب وكلمات ليس المراد بها ما يحملونها عليه وناهيك بقوله أن هذا الإمام قد استحق القتل وثبت لديه كفره ولا يساوي شعرة من شعراته بل لا يصلح لأن يكون شسعاً لنعله وما زال هذا القاضي الشيطان يتطلب الفرص التي يتوصل بها إلى إراقة دم هذا الإمام فحجبه الله عنه وحال بينه وبينه والحمد لله رب العالمين ثم بعد هذا نودي بدمشق أن من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله خصوصا الحنابلة فنودي بذلك وقرئ المرسوم قرأه ابن الشهاب محمود في الجامع ثم جمعوا الحنابلة من الصالحية وغيرها وأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي وكان من أعظم القائمين على المترجم له الشيخ نصر المنبجي لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن العربي فكتب إليه كتاباً يعاتبه على ذلك فما أعجبه لكونه بالغ في الحط على ابن العربي وكفره فصار هو يحط على ابن تيمية ويغرى بيبرس الذي يفرط في محبة نصر وتعظيمه وقام القاضي المالكي المتقدم ذكره مع الشيخ نصر وبالغ في أذية الحنابلة واتفق أن قاضي الحنابلة كان قليل البضاعة في العلم فبادر إلى إجابتهم في المعتقد واستكتبوا خطه بذلك واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين ابن الجزري انتصر لاين تيمية وكتب في حقه محضراً بالثناء عليه بالعلم والفهم وكتب فيه بخطه ثلاثة عشر سطرا من جملتها أنه منذ ثلثمائة سنة ما رأى الناس مثله فبلغ ذلك ابن مخلوف فسعى في عزل ابن الجزري فعزل وقرر عوضه شمس الدين الأذرعي ثم لم يلبث الأذرعي أن عزل في السنة المقبلة وتعصب سلار لابن تيمية وأحضر القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي وتكلم معهم في إخراجه فاتفقوا على أنهم يشترطون فيه شروطاً وأن يرجع عن بعض العقيدة فأرسلوا إليه مرات فامتنع من الحضور إليهم واستمر على ذلك ولم يزل ابن تيمية في الجب إلى أن تشفع فيه مهنا أمير آل فضل فأخرج في ربيع الأول في الثالث والعشرين منه وأحضر إلى القلعة ووقع البحث مع بعض الفقهاء فكتب عليه محضر بأنه قال أنا أشعري ثم اجتمع جماعة من الصوفية عند تاج الدين بن عطاء فطلعوا في العشر الأوسط من شوال إلى القلعة وشكوا من ابن تيمية أنه يتكلم في حق مشايخ الطريقة وأنه قال لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فاقتضى الحال أن أمر بتسييره إلى الشام فتوجه على خيل البريد وكل ذلك والقاضي زين الدين ابن مخلوف مشتغل بالمرض وقد أشرف على الموت فبلغه سير ابن تيمية فراسل النائب فرده من نابلس وادعى عليه عند ابن جماعة وشهد عليه شرف الدين ابن الصابوني وقيل إن علاء الدين القونوي شهد عليه أيضا فاعتقل بسجن حارة الديلمة في ثامن عشر شوال إلى سلخ شهر صفر سنة 709 فنقل عنه أن جماعة يترددون إليه وأنه يتكلم عليهم في نحو ما تقدم فأمر بنقله إلى الإسكندرية فنقل إليها في سلخ صفر وكان سفره صحبة أمير مقدم ولم يمكن أحداً من جهته من السفر معه وحبس ببرج شرقي ثم توجه إليه بعض أصحابه فلم يمنعوا منه فتوجهت طائفة منهم بعد طائفة وكان موضعه فسيحاً فصار الناس يدخلون إليه ويقرأون عليه ويبحثون معه فلم يزل إلى أن عاد الناصر إلى السلطنة فشفع فيه عنده فأمر بإحضاره فاجتمع به في ثامن عشر شوال سنة 709 فأكرمه وجمع القضاة فأصلح بينه وبين القاضي المالكي فاشترط المالكي أن لا يعود فقال له السلطان قد تاب وسكن القاهرة وتردد الناس إليه إلى أن توجه صحبة الناصر إلى الشام بنية الغزو سنة 712 فوصل إلى دمشق وكانت غيبته منها أكثر من سبع سنين وتلقاه جمع كثير فرحا بمقدمه وكانت والدته إذ ذاك حية ثم قاموا عليه في شهر رمضان سنة 719 بسبب قوله أن الطلاق الثلاث من دون تخلل رجعة بمنزلة طلقة واحدة ثم عقد له مجلس آخر في رجب سنة 720 ثم حبس بالقلعة ثم أخرج في عاشوراء سنة 721 ثم قاموا عليه مرة أخرى في شعبان سنة 722 بسبب مسألة الزيارة واعتقل بالقلعة فلم يزل بها إلى أن مات في ليلة الاثنين لعشرين من شهر القعدة سنة 738 بجامع دمشق وصار يضرب المثل بكثرة من حضر جنازته وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفاً قال ابن فضل الله لما قدم ابن تيمية على البريد إلى القاهرة في سنة 700 حض أهل المملكة على الجهاد وأغلظ القول للسلطان والأمراء ورتبوا له كل يوم دينارا وطعاماً فلم يقبل ذلك ثم قال حضر عنده شيخنا أبو حيان فقال ما رأت عيناي مثل هذا الرجل ومدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة منها

قال ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويهٍ فأغلظ ابن تيمية القول في سيبويهٍ فنافره أبو حيان وقطعه وصير ذلك ذنبا لا يغفر وسئل عن السبب فقال ناظرته في شيء من العربية فذكرت له كلام سيبويهٍ فقال ما كان سيبويهٍ نبي النحو ولا كان معصوما بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعاً ما تفهمها أنت فكان ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره البحر بكل سوء وكذلك في مختصره النهر وقد ترجم له جماعة وبالغوا في الثناء عليه ورثاه كثير من الشعراء وقال جمال الدين السرمدي في أماليه ومن عجائب زماننا في الحفظ ابن تيميه كان يمر بالكتاب مرة مطالعة فينقش في ذهنه وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه وحكى بعضهم عنه أنه قال من سألني مستفيداً حققت له ومن سألني متعنتاً ناقصته فلا يلبث أن ينقطع فأكفى مؤنته وقد ترجم له الصفدي وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار ومن أنفعها كتابه في ابطال الحيل فانه نفيس جدا وكتاب المنهاج في الرد على الروافض في غاية الحسن لولا أنه بالغ في الدفع حتى وقعت له عبارات وألفاظ فيها بعض التحامل وقد نسبه بعضهم إلى طلب الملك لأنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ونظرائه فكان ذلك مولداً لطول سجنه وله وقائع مشهورة وكان إذا حوقق وألزم يقول لم أرد هذا وإنما أردت كذا فيذكر احتمالا بعيدا ولعل ذلك والله أعلم أنه يصرح بالحق فتأباه الأذهان وتنبوا عنه الطبائع لقصور الأفهام فيحوله إلى احتمال آخر دفعاً للفتنة وهكذا ينبغي للعالم الكامل أن يفعل يقول الحق كما يجب عليه ثم يدفع المفسدة بما يمكنه وحكى عنه أنه لما وصل إليه السؤال الذي وضعه السكاكيني على لسان يهودي وهو
إلى آخرها فوقف ابن تيمية على هذه الأبيات فثنى إحدى رجليه على الأخرى وأجاب في مجلسه قبل ان يقوم بمائة وتسعة عشر بيتا أولها
وقال ابن سيد الناس اليعمري في ترجمة ابن تيمية إنه برز في كل فن على أبناء جنسه ولم تر عين من رآه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه وقال الذهبي مترجماً له في بعض الإجازات قرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ وبلغ في العلوم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين وصنف التصانيف وصار من أكابر العلماء في حياة مشايخه، وتصانيفه نحو أربعة آلاف كراسة وأكثر وقال وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير وقال أنه لا يذكر مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأئمة وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل صنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة وقد أثنى عليه جماعة من أكابر علماء عصره فمن بعدهم ووصفوه بالتفرد وأطلقوا في نعته عبارات ضخمة وهو حقيق بذاك والظاهر أنه لو سلم مما عرض له من المحن المستغرقة لأكثر أيامه المكدرة لذهنه المشوشة لفهمه لكان له من المؤلفات والاجتهادات ما لم يكن لغيره قال الصفدي وكان كثيراً ما ينشد
ومما أنشد له على لسان الفقراء

  • دار المعرفة - بيروت-ط 1( 0) , ج: 1- ص: 63

شيخنا الإمام الرباني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، وقريع الدهر، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، علامة الزمان، وترجمان القرآن، علم الزهاد، وأوحد العباد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين، الشيخ تقي الدين؛ أبو العباس، أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن [محمد بن الخضر] بن علي بن عبد الله الحراني؛ نزيل دمشق، وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها.
قيل. إن جده محمد بن الخضر حج - وله امرأة حامل - على درب تيماء، فرأى هناك جاريةً طفلة قد خرجت من خباءٍ، فلما رجع إلى حران وجد امرأته قد ولدت بنتاً، فلما رآها قال: يا تيمية، يا تيمية، فلقب بذلك.
وقال ابن النجار: ذكر لنا أن محمداً هذا كانت أمه تسمى تيمية، وكانت واعظة، فنسب إليها، وعرف بها.
ولد شيخنا بحران يوم الاثنين عاشر - وقيل ثاني عشر - ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة.
وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، وكانوا قد خرجوا من حران مهاجرين بسبب جور التتار، فساروا بالليل ومعهم الكتب على عجلة لعدم الدواب؛ فكاد العدو يلحقهم، ووقفت العجلة، فابتهلوا إلى الله واستغاثوا به فنجوا وسلموا، وقدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين؛ فسمعوا من الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي جزء ابن عرفة، وغير ذلك.
ثم سمع شيخنا الكثير من: ابن أبي اليسر، والكمال بن عبد، والشيخ شمس الدين الحنبلي، والقاضي شمس الدين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدين بن الصيرفي، ومجد الدين بن عساكر، والنجيب المقداد، وابن أبي الخير، وابن علان، وأبي بكر الهروي، والكمال عبد الرحيم، وفخر الدين بن البخاري، وابن شيبان، والشرف بن القواس، وزينب بنت مكي، وخلق كثير.
وشيوخه الذين سمع منهم أزيد من مئتي شيخ.
وسمع ’’مسند الإمام أحمد’’ مرات، و’’معجم الطبراني الكبير’’، والكتب الكبار، والأجزاء، وعني بالحديث، وقرأ بنفسه الكثير، ولازم السماع مدة سنين، وقرأ الغيلانيات في مجلس، ونسخ وانتقى، كتب الطباق والأثبات، وتعلم الخط والحساب في المكتب، واشتغل بالعلوم، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ أياماً في العربية على ابن عبد القوي ثم فهمها، وأخذ يتأمل ’’كتاب سيبويه’’ حتى فهمه، وبرع في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه، وغير ذلك، هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه.
نشأ في تصونٍ تام، وعفاف وتألهٍ، واقتصاد في الملبس والمأكل، ولم يزل على ذلك خلفاً صالحاً سلفياً، براً بوالديه، تقياً، ورعاً، عابداً ناسكاً، صواماً قواماً، ذاكراً لله تعالى في كل أمر وعلى كل حال، رجاعاً إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقافاً عند حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، لا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث، وقل أن يدخل في علم من العلوم، في باب من أبوابه إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حذاق أهله.
وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيتكلم ويناظر، ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، وأفتى وله نحو سبعة عشر سنة، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت.
ومات والده - وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم - فدرس بعده بوظائفه؛ وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد ما يقوله من غير توقفٍ ولا تلعثم، وكذا كان يورد الدرس بتؤدةٍ وصوتٍ جهوري فصيح.
وحج سنة إحدى وتسعين وله ثلاثون سنة، ورجع وقد انتهت إليه الإمامة في العلم، والعمل، والزهد، والورع، والشجاعة، والكرم، والتواضع، والحلم، والأناة، والجلالة، والمهابة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع الصدق والأمانة والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله، وشدة الخوف منه، ودوام المراقبة له، والتمسك بالأثر، والدعاء إلى الله، وحسن الأخلاق، ونفع الخلق والإحسان إليهم.
وكان - رحمه الله - سيفاً مسلولاً على المخالفين، وشجاً في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين، وإماماً قائماً ببيان الحق ونصرة الدين، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار.
وقال شيخنا الحافظ أبو الحجاج: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه.
وقال العلامة كمال الدين بن الزملكاني: كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كان من علوم الشرع أو غيرها - إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة، والترتيب والتقسيم والتبيين، ووقعت مسألة فرعية في قسمةٍ جرف فيها اختلافٌ بين المفتين في العصر؛ فكتب فيها مجلدة كبيرة، وكذلك وقعت مسألة في حد من الحدود؛ فكتب فيها أيضاً مجلدة كبيرة، ولم يخرج في كل واحدةٍ عن المسألة، ولا طول بتخليط الكلام والدخول في شيءٍ والخروج من شيء، وأتى في كل واحدةٍ بما لم يكن يجري في الأوهام والخواطر، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
وقرأت بخط الشيخ كمال الدين أيضاً على كتاب ’’رفع الملام عن الأئمة الأعلام’’ لشيخنا: تأليف الشيخ الإمام العالم، العلامة الأوحد، الحافظ المجتهد، الزاهد العابد، القدوة، إمام الأئمة، قدوة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعين، محيي السنة، ومن عظمت به لله علينا المنة، وقامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجة، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، أعلى الله مناره، وشيد به من الدين أركانه.

وهذا الثناء عليه وكان عمره نحو الثلاثين سنة، وقد أثنى عليه خلقٌ من شيوخه، ومن كبار علماء عصره كالشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والشيخ تاج الدين الفزاري، وابن منجى، وابن عبد القوي، والقاضي الخويي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، وغيرهم.
وقال الشيخ عماد الدين الواسطي - وكان من الصلحاء العارفين - وقد ذكره: هو شيخنا السيد الإمام، الأمة الهمام، محيي السنة، وقامع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق، الفاتق عن الحقائق وموصلها بالأصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظاهر والباطن، فهو يقضي بالحق ظاهراً وقلبه في العلى قاطن، أنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية أعاد الله بركته، ورفع إلى مدارج العلى درجته.
ثم قال في أثناء كلامه: والله ثم والله ثم والله لم أر تحت أديم السماء مثله علماً وعملاً وحالاً وخلقاً واتباعاً وكرماً وحلماً في حق نفسه، وقياماً في حق الله عند انتهاك حرماته.
ثم أطال في الثناء عليه.
وقال الشيخ علم الدين في ’’معجم’’ شيوخه: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الشيخ تقي الدين أبو العباس، الإمام المجمع على فضله ونبله ودينه، قرأ الفقه وبرع فيه، والعربية والأصول، ومهر في علمي التفسير والحديث، وكان إماماً لا يلحق غباره في كل شيء، وبلغ رتبة الاجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين. وكان إذا ذكر التفسير أبهت الناس من كثرة محفوظه، وحسن إيراده، وإعطائه كل قولٍ ما يستحقه من الترجيح والتضعيف والإبطال، وخوضه في كل علم، كان الحاضرون يقضون منه العجب، هذا مع انقطاعه إلى الزهد والعبادة، والاشتغال بالله تعالى، والتجرد من أسباب الدنيا، ودعاء الخلق إلى الله تعالى، وكان يجلس في صبيحة كل جمعة على الناس يفسر القرآن العظيم، فانتفع بمجلسه وبركة دعائه، وطهارة أنفاسه، وصدق نيته، وصفاء ظاهره وباطنه، وموافقة قوله لعمله، وأناب إلى الله خلقٌ كثير، وجرى على طريقة واحدة من اختيار الفقر، والتقلل من الدنيا، ورد ما يفتح به عليه.
وقال علم الدين في موضع آخر: رأيت في إجازة لابن الشهرزوري الموصلي خط الشيخ تقي الدين، وقد كتب تحته الشيخ شمس الدين الذهبي: هذا خط شيخنا الإمام، شيخ الإسلام، فرد الزمان، بحر العلوم، تقي الدين. مولده عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، وقرأ القرآن والفقه، وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في العلم والتفسير، وأفتى ودرس وله نحو العشرين، وصنف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاءً، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مئتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق فيه، وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين - فضلاً عن المذاهب الأربعة - فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام فلا أعلم له فيه نظيراً، ويدري جملةً صالحة من اللغة، وعربيته قويةٌ جداً، ومعرفته بالتاريخ والسير فعحبٌ عجيب، وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت، وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل، وفيه زهد وقناعةٌ باليسير في المأكل والملبس.
وقال الذهبي في موضع آخر: كان آيةً في الذكاء وسرعة الإدراك، رأساً في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف، بحراً في النقليات، هو في زمانه فريد عصره علماً وزهداً وشجاعةً وسخاءً، وأمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، وكثرة تصانيف.
إلى أن قال: فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عد الفقهاء، فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا، وسرد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا، وإن سمي المتكلمون فهو فردهم، وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فلسهم وتيسهم، وهتك أستارهم، وكشف عوارهم، وله يدٌ طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن تصفه كلمي، وينبه على شأوه قلمي، فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته يحتمل أن ترصع في مجلدتين.
وقال في مكان آخر: وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفةٍ بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه، وهو عجبٌ في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن [يقال]: ’’كل حديثٍ لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث’’؛ ولكن الإحاطة لله؛ غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي، وأما التفسير فمسلم إليه، وله في استحضار الآيات من القرآن - وقت إقامة الدليل بها على المسألة - قوة عجيبة، وإذا رآه المقرئ تحير فيه، ولفرط إمامته في التفسير وعظمة اطلاعه يبين خطأ كثيرٍ من أقوال المفسرين، ويوهي أقوالاً عديدة، وينصر قولاً واحداً موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث، ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الرد على الفلاسفة والأوائل نحواً من أربعة كراريس أو أزيد، وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمس مئة مجلدة، وله في غير مسألةٍ مصنفٌ مفرد في مجلد.
ثم ذكر بعض مصنفاته وقال: ومنها كتاب في الموافقة بين المعقول والمنقول في مجلدتين.
طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازع طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق باطنٍ منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها - على ما زعم - بوائق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمره، وأعمل منهم في كفره فكره، فرتبوا محاضر، وألبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية، فنقل وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قوماً من عمار الزوايا وسكان المدارس، من مجامل في المنازعة مخاتلٍ في المخادعة، ومن مجاهر بالتكفير مبارزٍ بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون، {وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون}، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المخاتل، وقد دبت إليه عقارب مكره، فرد الله كيد كل في نحره، ونجاه على يد من اصطفاه، والله غالب على أمره، ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى أن فوض أمره لبعض القضاة فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإلى الله ترجع الأمور، وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهوداً، ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كل فج عميق، يتبركون بمشهده يوم يقوم الأشهاد، ويتمسكون بشرجعه حتى كسروا تلك الأعواد.
ثم ذكر يوم وفاته ومولده، ثم قال: وقرأت على الشيخ الإمام حامل راية العلوم، ومدرك غاية المفهوم، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله بالقاهرة، قدم علينا.
ثم ذكر حديثاً هن جزء ابن عرفة.
قلت: أملى شيخنا المسألة المعروفة بالحموية سنة ثمانٍ وتسعين في قعدةٍ بين الظهر والعصر، وهي جواب سؤال ورد من حماة في الصفات، وجرى له بسبب ذلك محنة، ونصره الله وأذل أعداءه، وما حصل له بعد ذلك إلى حين وفاته من الأمور والمحن والتنقلات تحتاج إلى عدة مجلدات، وذلك كقيامه في نوبة غازان سنة تسع، والتقائه أعباء الأمر بنفسه، واجتماعه بالملك وبنائبه خطلوشاه وببولاي، وإقدامه وجرأته على المغول، وعظيم جهاده، وفعله الخير، من إنفاق الأموال، وإطعام الطعام، ودفن الموتى، ثم توجهه بعد ذلك بعام إلى الديار المصرية، وسوقه على البريد إليها في جمعةٍ لما قدم التتار إلى أطراف البلاد، واشتد الأمر بالبلاد الشامية، واجتماعه بأركان الدولة، واستصراخه بهم، وحضهم على الجهاد، وإخباره لهم بما أعد الله للمجاهدين من الثواب، وإبدائهم له العذر في رجوعهم، وتعظيمهم له، وتردد الأعيان إلى زيارته، واجتماع ابن دقيق العيد به، وسماعه كلامه، وثنائه عليه الثناء العظيم، ثم توجهه بعد أيام إلى دمشق واشتغاله بالاهتمام لجهاد التتار، وتحريض الأمراء على ذلك، إلى ورود الخبر بانصرافهم، ثم قيامه في وقعة شقحب المشهورة سنة اثنتين وسبع مئة، واجتماعه بالخليفة والسلطان، وأرباب الحل والعقد، وأعيان الأمراء، وتحريضه لهم على الجهاد، وموعظته لهم، وما ظهر في هذه الوقعة من كراماته وإجابة دعائه، وعظيم جهاده، وقوة إيمانه، وشدة نصحه للإسلام، وفرط شجاعته، ثم توجهه بعد ذلك في آخر سنة أربع لقتال الكسروانيين وجهادهم، واستئصال شأفتهم، ثم مناظرته للمخالفين سنة خمسٍ في المجالس التي عقدت له بحضرة نائب السلطنة الأفرم، وظهوره عليهم بالحجة والبيان، ورجوعهم إلى قوله طائعين ومكرهين، ثم توجهه بعد ذلك في السنة المذكورة إلى الديار المصرية صحبة قاضي الشافعية، وعقد مجلس له حين وصوله بحضور القضاة وأكابر الدولة، ثم حبسه في الجب بقلعة الجبل، ومعه أخواه سنةً ونصفاً، ثم خروجه بعد ذلك، وعقد مجالس له ولخصومه وظهوره عليهم، ثم إقرائه للعلم وبثه ونشره، ثم عقد مجلس له في شوال من سنة سبع لكلامه في الاتحادية وطعنه عليهم، ثم الأمر بتسفيره إلى الشام على البريد، ثم رده من مرحلةٍ وسجنه بحبس القضاة سنةً ونصفاً، وتعليمه أهل الحبس ما يحتاجون إليه من أمور الدين، ثم إخراجه منه، وتوجهه إلى الإسكندرية، وجعله في برج حسنٍ منها ثمانية أشهرٍ يدخل إليه من شاء، ثم توجهه إلى مصر، واجتماعه بالسلطان في مجلس حفل فيه القضاة وأعيان الأمراء، وإكرامه له إكراماً عظيماً، ومشاورته له في قتل بعض أعدائه، وامتناع الشيخ من ذلك، وجعله كل من آذاه في حل ثم سكناه بالقاهرة، وعوده إلى نشر العلم ونفع الخلق، وما جرى بعد ذلك من قضية البكري وغيرها، ثم توجهه بعد ذلك إلى الشام صحبة الجيش المصري قاصداً للغزاة بعد غيبته عن دمشق سبع سنين وسبع جمع، وتوجهه في طريقه إلى بيت المقدس، ثم ملازمته بعد ذلك بدمشق لنشر العلم، وتصنيف الكتب، إفتاء الخلق، إلى أن تكلم في مسألة الحلف بالطلاق، فأشار عليه بعض القضاة بترك الإفتاء بها في سنة ثمان عشرة؛ فقبل إشارته، ثم ورد كتاب السلطان بعد أيام بالمنع من الفتوى عليها، ثم عاد الشيخ إلى الإفتاء بها وقال: لا يسعني كتمان العلم. وبقي كذلك مدةً إلى أن حبسوه بالقلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، ثم أخرج، ورجع إلى عادته من الأشغال وتعليم العلم، ولم يزل كذلك إلى أن ظفروا له بجواب يتعلق بمسألة شد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، كان قد أجاب به من نحو عشرين سنة؛ فشنعوا عليه بسبب ذلك، وكبرت القضية، وورد مرسوم السلطان في شعبان من سنة ست وعشرين بجعله في القلعة؛ فأخليت له قاعة حسنة، وأجري إليها الماء، وأقام فيها ومعه أخوه يخدمه، وأقبل في هذه المدة على العبادة والتلاوة وتصنيف الكتب، والرد على المخالفين، وكتب على تفسير القرآن العظيم جملةً كبيرة تشتمل على نفائس جليلة، ونكتٍ دقيقة، ومعانٍ لطيفة، وأوضح مواضع كثيرة أشكلت على خلقٍ من المفسرين، وكتب في المسألة التي حبس بسببها مجلدات عدة، وظهر بعض ما كتبه واشتهر، وآل الأمر إلى أن منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا عنده دواةً ولا قلماً ولا ورقة، وكتب عقيب ذلك بفحمٍ يقول إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النعم. وبقي أشهراً على ذلك، وأقبل على التلاوة والعبادة والتهجد حتى أتاه اليقين، فلم يفجأ الناس إلا نعيه، وما علموا بمرضه، وكان قد مرض عشرين يوماً، فتأسف الخلق عليه، وحضر جمعٌ كبير، فأذن لهم في الدخول، وجلس جماعةٌ عنده قبل الغسل، وقرؤوا القرآن، وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، وحضر جماعةٌ من النساء ففعلن مثل ذلك، ثم انصرفن، واقتصر على من يغسله ويعين عليه في غسله، فلما فرغ من ذلك أخرج وقد اجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى جامع دمشق، وامتلأ الجامع وصحنه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى اللبادين والفوارة، وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك، ووضعت في الجامع، والجند يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصلي عليه أولاً بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه الشيخ محمد بن تمام، ثم صلي عليه بجامع دمشق عقب صلاة الظهر، وحمل من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم للتبرك، وصار النعش على الرؤوس، تارة يتقدم وتارة يتأخر، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها من شدة الزحام، وكل باب أعظم زحمةً من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدة الزحام، لكن كان المعظم من الأبواب الأربعة باب الفرج الذي أخرجت منه الجنازة، ومن باب الفراديس وباب النصر وباب الجابية، وعظم الأمر بسوق الخيل، وتقدم في الصلاة عليه هناك أخوه زين الدين، وحمل إلى مقبرة الصوفية ؛ فدفن إلى جانب أخيه الإمام شرف الدين رحمهما الله، وكان دفنه وقت العصر أو قبلها بيسير، وغلق الناس حوانيتهم، ولم يتخلف عن الحضور، إلا نفرٌ قليل، أو من عجز للزحام، وحضرها من الرجال والنساء أكثر من مئتي ألف، وشرب جماعةٌ الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمس مئة درهم، وقيل إن الخيط الذي فيه الزئبق الذي في عنقه لأجل القمل دفع فيه مئة وخمسون درهماً، وحصل في الجنازة ضجيجٌ وبكاء عظيم، وتضرع كثير، وكان وقتاً مشهوداً، وختمت له ختم كثيرةٌ بالصالحية والبلد، وتردد الناس إلى قبره أياماً كثيرة ليلاً ونهاراً، ورؤيت له مناماتٌ كثيرة حسنةٌ، ورثاه جماعةٌ بقصائد جمةٍ.
وكانت وفاته ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، رحمه الله، ورضي عنه، وأثابه الجنة برحمته."

  • مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان-ط 2( 1996) , ج: 4- ص: 1