ابن عبد الظاهر عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان الجذامي السعدي، محيي الدين: قاض اديب مؤرخ. من أهل مصر مولدا ووفاة. له (الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة) نقل عنه المقريزي كثيرا في خططه، و (سيرة الظاهر بيبرس - خ) نظما، و (الالطاف الخفية - ط) نبذة من الجزء الثالث منه، وهو في سيرة الملك الاشرف خليل بن قلاوون، و (تمائم الحمائم) وغير ذلك. وله شعر حسن.

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 4- ص: 98

ابن عبد الظاهر محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر، وولده فتح الدين: محمد بن عبد الله؛ وولده علاء الدين: علي بن محمد.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 16- ص: 0

محيي الدين بن عبد الظاهر

عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر بن نجدة الجذامي المصري المولى القاضي محيي الدين ابن القاضي رشيد الدين، الكاتب الناظم الناثر شيخ أهل الترسل ومن سلك الطريق الفاضلية في إنشائه. وهو والد القاضي فتح الدين محمد صاحب ديوان الإنشاء. سمع من جعفر الهمداني وعبد الله بن إسماعيل بن رمضان ويوسف بن المخيلي وجماعة، وكتب عنه البرزالي وابن سيد الناس وأثير الدين والجماعة. وكان بارع الكتابة في قلم الرقاع، ظريفا ذا عربية حلوة، وكان ذا مروءة وعصبية. ولد في المحرم سنة عشرين وتوفي بالقاهرة سنة اثنتين وتسعين وستمائة. ومن إنشائه كتاب كتبه إلى الأمير شمس الدين آقسنقر جوابا عن كتاب كتبه بفتح بلاد النوبة: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة}. أدام الله نعمة المجلس ولا زالت عزائمه مرهوبة وغنائمه مجلوبة ومحبوبة وسطاه وخطاه هذه تكف النوب وهذه تكفي النوبة. ولا برحت وطأته على الكفار مشتدة وآماله لإهلاك الأعداء كرماحه ممتدة. ولا عدمت الدولة بيض سيوفه التي يرى بها {الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة}. صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس تثني على عزائمه التي واتت على كل أمر رشيد، وأتت على كل جبار عنيد، وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء {وما ربك بظلام للعبيد}، حيث شكرت الضمر الجرد وحمدت العيس واشتبه يوم النصر بأمسه بقيام حروف العلة مقام بعض فأصبح غزو كنيسة سوس كغزو سيس. ونفهمه أنا علينا أن الله بفضله طهر البلاد من رجسها وأزاح العناد وحسم مادة معظمها الكافر وقد كاد وكاد، وعجل عيد النحر بالأضحية بكل كبش حرب يبرك في سواد وينظر في سواد ويمشي في سواد. وتحققنا النصر الذي شفى النفوس وأزال البوس ومحا آية الليل بخير الشموس وخرب دنقلة يجريمة سوس وكيف لا يخرب شيء يكون فيه سوس؟! فالحمد لله عن أن صبحتم عزائم المجلس بالويل، وعلى أن أولج النهار من السيف منهم في الليل، وعلى أن رد حرب حرابهم إلى نحورهم وجعل تدميرهم في تدبيرهم، وبين خيط السيف الأبيض من الخيط الأسود من فجر فجورهم، وأطلع على مغيبات النصر ذهن المجلس الحاضر، وأورث سليمان الزمان المؤمن ملك داود الكافر، وقرن النصر بعزم المجلس الأنهض، وأهلك العدو الأسود بميمون طائر النصر الأبيض، وكيف لا وآقسنقر هو الطائر الأبيض! وقرأ لأهل الصعيد كل عين، وجمع شملهم فلا يرون من عدوهم بعدها غراب بين، ونصر ذوي السيوف على ذوي الحراب، وسهل صيد ملكهم على يد المجلس وكيف يعسر على السنقر صيد الغراب. والشكر لله على إذلال ملكهم الذي لان وهان، وأذاله ببأسه الذي صرح به شر كل منهم في قتاله فأمسى وهو عريان، وإزهاقهم بالأسنة التي غدا طعنهم كفم الزق والزق ملآن، ودق أقفيتهم بالسيف الذي أنطق الله بفألهم أعجم الطير فقال دق قفا السودان. ورعى الله جهاد المجلس الذي قوم هذا الحادث المنآد، ولا عدم الإسلام في هذا الخطب سيفه الذي قام خطيبا وكيف لا وقد ألبسه منهم السواد، وشكر له عزمه الذي استبشر به وجه الزمن بعد القطوب، وتحققت بلاد الشمال به صلاح بلاد الجنوب، وأصبحت به سهام الغنائم في كل جهة تسهم، ومتون الفتوحات تمطى فتارة يمتطي السيف كل سيس وتارة كل أدهم. وحمد شجاعته التي ما وقف لصدمتها السواد الأعظم. ولله المنة على أن جعل ربع العدو بعزائم المجلس حصيدا "كأن لم تغن بالأمس"، وأقام فروض الجهاد بسيوفه المسنونة وأنامله الخمس، وقرن ثباته بتوصيل الطعن لنحور الأعداء ووقت النحر قيد رمح من طلوع الشمس، ونرجو من كرم الله إدراك داود المطلوب، ورده على السيف بعيب هربه، والعبد السوء إذا هرب يرد بعيب الهروب. والله يشكر تفصيل مكاتبة المجلس وجملها، وآخر غزواته وأولها ونزال مرهفاته ونزلها، ويجعله إذا انسلخ نهار سيفه من ليل هذا العدو يعود سالما لمستقره {والشمس تجري لمستقر لها}. قلت: وفي هذه الغزاة قال ناصر الدين حسن ابن النقيب:

وكتب في محضر قيم في حمام الصوفية جوراه خانقاه سعيد السعداء اسمه يوسف: يقول الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن عبد الظهر، أن أبا الحجاج يوسف ما برح الصلاح متمما وله جودة صناعة استحق بها أن يدعى قيما. كم له عند جسم من من جسيم، وكم أقبل مستعملوه "تعرف في وجوههم نضرة النعيم"، وكم تجرد مع شيخ صالح في خلوة، وكم قال ولي الله يا بشراي لأنه يوسف حين أدلى في حوض دلوه. كم خدم من العلماء والصلحاء إنسانا، وكم ادخر بركتهم لدنيا وأخرى فحصل من كل منهم شفيعين مؤتزرا وعريانا. كم حرمة خدمة له عند أكابر الناس، وكم له يد عند جسد ومنه على راس، كم شكرته أبشار البشر. وكم حك رجل رجل صالح فتحقق هناك أن السعادة لتلحظ الحجر. قد ميز بخدمة الفضلاء والزهاد أهله وقبيله، شكر على ما يعاب به غيره من طول الفتيلة. كم ختم تغسيل رجل بإعطائه براءته يستعملها ويخرج من حمام حار فاستعملها وخرج فكانت به براءة وعتقا من النار. كم أوضح فرقا، وغسل درنا مع مشيب فكان الذي أنقى فما أبقى. تتمتع الأجساد بتطييبه لحمامه "بظل ممدود وماء مسكوب"، وتكاد كثرة ما يخرجه من المياه أن تكون كالرمح على أنبوبا على أنبوب. كم له بينة حر على تكثير ماء يزول به الاشتباه، وكم تجعدت فباتت كالسطور في حوض فقل: كتاب الطهارة، باب المياه. كم رأس أنشدت موساه حين أخرجت من تلاحق الأنبات خضرا:
ومن إنشائه إيضا صورة مقامة، وهو مما كتب به إلى محيي الدين ابن القرناص الحموي: حكى مسافر بن سيار قال، لما ألفت النوى عن الإخوان، وتساوت عندي الرحلة إلى البين تساوي الرحلة إلى الاوطان، وتمادت الغربة تحبوني أهوالها فتزلزل بي الأرض زلزالها وتخرج مني وسن أمثالي أثقالها ولا إنسان يرى أراجي نفسي وآمالها فيقول ما لها ولا يشاهد ما هو أوحى لها فتغدو وقد أوحي لها حتى تقاذفت بي الأمصار ومللت الأسفار مواصلا فيها الدلجة بالغدوة والإعتمام بالإسفار وغرني مع إيماني تقلبي في البلاد وتطلبي لتقويم عيشي المنآد وتحنني إلى الحصول بإرم ذات العماد {التي لم يخلق مثلها في البلاد} فلبثت فيها أياما وشهورا ووددت لو كانت سنين ودهورا، وما بلد الإنسان إلا الموافق. فبينا أنا منها في ثلة من الأولين ومن الوافدين عليها في قليل من الآخرين وبين سادات من كتابها {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين} ونحن في نعمة بالإيواء من ظلها {إلى ربوة ذات قرار ومعين} وإذا بداعي النفير قد أعلن مناديه وارتجل ما ارتجز حاديه، فقلت: المسير إلى أين؟ قالوا: إلى الأين! والسفر متى؟ فقيل: أتى!
فعقدنا الحبا وجنبنا الجنايب، وركبنا الصبا وتسلمتنا من يد الربوة يد الوهاد والربا، وكان توجهنا حين أكثرت الجبال من الثلوج الاكتساء والاكتساب وبفضل فتحت فيه السماء أبوابها بما ليس لفصوله عن تلك المواطن من فصول ولا لأكوابه المترعة دائما بجميع الفصول من بواب فعدنا إلى جهة حمص وإن لم يعجبنا العام وقلنا كل ذلك مغتفر في جنب ما أشارته مصلحة الإسلام المختصة بالخاص منهم والعام، واستقبلنا تلك النواحي المتناوحة والمنازل المنتائية على المنازل المتنازحة برقة جلود تتجالد على الجليد وأواجه تواجه من تلك الجهات ما ورود حياض المنون به أقرب من حبل الوريد. كم التقت الشمس بقارة من قرها بفروة سنجاب من الغمام وكم غمضت عينها عمن لم يغمض جفونه بمناخ ولا مقام، وكم سبكت الرياح الزمهريرية فضة ثلوجها فصحت عند السبك، وكم خبر من امرئ القيس أنشد عند النبك قفا نبك هذا والزميتا قد ادهنت بها رؤوس الأكمام وقال الفراشون: ما الديار ديار - لما لاقوه - ولا الخيام خيام. كأنه نصول المشيب في المفارق أو رمل أبيض قد أتربت به سطور تلك المهارق إلى غير ذلك من نوك كأنه من السماء والأرض بحر فاض، وغاض الشمس وما غاض. قد أصبح عجاج خيول الجنائب ودخان ما خيلته من صفاء الماء مجامر الكواكب وثلوج بقواصم الظهور تظهر ولأعين تلك المحاجر من العواصم تبهر، فدافعت الهضبات ملاءتها البيضاء وأتت من الإيلام ببردها بأضعاف ما يحصل من حر رمضاء حر رمضاء. فكم أنامل يد هنالك قعدت القرفصاء على الطروس واشتلمت الصماء اشتمال اليمين والشمال على النفيس من النفوس. وعجزت عن أن تطيق للأقلام إمساكا، وكم من مرملة اشتبكت دموعها بخدودها فما تبين من بكى ممن تباكى. فلم نصل إلى حمص إلا والجليد قد أعدم الجليد صبره وعبر تلك الأمكنة فجرت له على أخدود تلك الخدود عبرة وأي عبرة. واعتقدت الآمال أنها قد قربت من منازه تلك المنازل وأنها من حماه تغامز عيون الدعة وتغازل، وأن نار القرى تزيل برد القر وتستجيب دعاء من نادى هناك رب {أني مسني الضر}. وقالت عسى ثم أن تستقر النفس وتؤدي الأقلام بذلك ما وجب عليها من سورتي الحمد والإخلاص عند ملازمتها الخمس، فاتفق ما اتفق من نصرة حققت الكرة وأعادت الرجعة كما بدأتها أول مرة، وسقيت بكأس التعب التي كانت بها سقت وبكت السماء بالدموع التي كانت قد رقت لنا ورقت، وعاد الحبل على الجرارة والكيل إلى حبل الكارة، فدخلنا إلى دمشق وإذا أغصانها قد ألقت عصاها وما استقر بها من الثمر والنوى وأوراقها قد اصفرت وجوهها من الهواء والهوى، وحمائهما لم تحمل منه الليالي فخلعت ما لها بالأعناق من الأطواق، والنهر قد توقف عن زيادة الغصون فراسلته بالأوراق، فقالت العين ما الديار الديار ولا الرياض الرياض ولا المشارع المشارع ولا الحياض الحياض. فشمرنا عنها ذيل الإقامة وقلنا للعزم شأنك ومصر فإنها دار المقامة، فقطعنا بيدا وأي بيد ومنازل تستعبد السيد وتستعبر السيد، ورمالا هي الأفاعي خدور وللنسور وكور ولم يصدق فيها تشبيه يقال بالأهلة ولا آثار أخفاف المطي بالبدور، تستوقف الساري ويسعى الساعي منها على شفا جرف هار، يسقى من المياه ماء يغلي في البطون كغلي الحميم ويكفر شربه شرب الماء البارد الذي قال بعض المفسرين إنه الذي عنى الله تعالى بقوله {لتسألن يومئذ عن النعيم} وما زال الشوق بنا والسوق حتى قربا البعيد حتى فلينا بهما الفلاة وأبدنا البيد، ودخلنا مصر فتلقانا نيلها مصعرا خده للناس وقلنا هذا الذي خرج إلينا عن المقياس، وشاهدنا ربوعها وقد فرشت من الربيع بأحسن بسطها وبدت كل مقطعة من النيل قد زينت بما أبدته من قرطها، وتنشقنا رياحها الهابة بما ترتاح إليه الأرواح وشمنا بروق غمائمها التي لم تغادر في القلوب من القر قروحا لا تتعقبه لما تلقيه من الماء القراح، لا يكلح الجليد أوجه بكرها ولا يهتم المدر ثنايا نهرها ولا يوقظ البرق راقد سمرها، ولا تغير على أهلها القوانين ولا يحتاج إلى التدفي في الكوانين بنيران الكوانين. كل أوقاتها سحر وآصالها بكر، وطول زمانها ربيع لا يشان من اللواقح الكوالح ببرد ولا يشان من النوافح اللوافح بحر. غنيت بنيلها الخصم عن كل دان مسف فويق الأرض هيدبه وعن كل نادي ارتداد نحيف العزالة قطربه. فلما حصلنا هناك قالت النفس المطمئنة هذه أول أرض مس جلدي ترابها وهذه الجنة وهذا شرابها وإذا بشمس الأمل وقد حلت شرفها بغير الحمل شرفا كريما فاق أحسن الأوفاق وملأ آفاق الأوراق بما رق من الألفاظ الفاضلة وراق، فأقبلت العين إلى مرآه لترى وجه البلاغة وجنحت الجوانح الجوارح للتحلي بجواهر تلك الصناعة البديعة الصياغة، ومالت الأسماع إلى التشنف بتلك الأسجاع وما تضمنت من إبداع إيداع وترصيع تصريع يعيد سابق هذه الحلبة سكيتا وثنى حبها من حيائه وخجله ميتا. فكم رأى المملوك بها منه كوكبا ما عثر جواده بجواده ولا كبا. وقال هذا رب الفضل الذي نزع، وهذا النابغة الذي شكر الله زمانا فيه نبغ. وهذا النبل الذي على الأكوار واقتعدنا سنامه وغاربه ورأينا مشارقه ومغاربه. نظرنا إلى السوارق من فوقه كالأهاضب ومن الجبال جدد بيض وحمر وغرابيب وقد حط رجلا في الأرض ورأسا في السما، وأخذ لسانا إلى البحر وما به من ظما، وكأنما قام إلى الأفق مزاحما بمناكبه أبراجه أو مال على البحر ملاطما بأهاضبه أمواجه. تزول جبال رضوى وهو لا يزول وتحول صبغة الأيام وصبغ شعرته لا يحول. قد رفع البروج عليه قبابا وأعارته الشمس من شعاعها أطنابا:
قد ركعت عليه الكواكب والنجم والشجر يسجدان ورفعت سماءه حتى وضع عليها الميزان. ولما علاه المملوك تشوق إلى بلدته وتشوق وتعلل بقربها منه حين عاينها من بعد وتسوف، فإنها بلدته التي نشأ من مائها وتربها ولذلك جبلت طينته على حبها. ولم يزل يتلدد طرفه من بعد إليها ويتلذذ قلبه عليها حتى عطف إلى ظلها عائدا ورجع بعد صدوده عنها واردا فوجد بها أطيب بقعة وأحسن مدينة وكان موعد دخوله يوم الزينة، وقد دارت للسرور أعظم رحى وحشر الناس لقراءة كتاب البشارة ضحى وإذا به قد تضمن خبر الفتح المبين والنصر العزيز بعد أن مس المسلمين الضر بالشام ونادوا من بمصر يا أيها العزيز، وقد فرش الربيع ربوعها وقررها بالزهر ونشر عليها ملاءة النسيم وطرزها بالنهر. وكانت يومئذ بلدة لا يهجر قطرها القطار ولا يحجب أفقها الغبار ولا يعثر العقبان بعجاجها حتى كان جوها وعث أوضار، ولا يخترق عين شمسها كبد السماء ولا يضرم حرها لهوات بزفرات القضاء. قد اكتفت بسح سحبها وغنيت بسقيا ربها مع أن لها نهرا يتعطف تعطف الحباب ويتشنف بدر الحباب ويترشف ماؤه كالظلم من الأحباب والرضاب، وعليه نواعير تشابه الأفلاك في مدارها واستدارها والفلك في بحارهاوبخارها إذ في هذه أضلع كثيرة كما في جنبات تلك من الضلوع ولهذه صواري عديدة كذلك إلا أنها بغير قلوع. ومن عجائبها أنها تحن حنين العشاق وتئن للوعة الفراق وتبكي على بعد من الحدائق بعدة من الأحداق:
فلله بلدة هذه بعض محاسنها وقد أوجزت في أوصافها وأضربت عن ذكر مساكنها إذ عجزت عن إنصافها. وحين أعياني الكلام المنثور عدلت إلى المنظوم ووصفتها ثانيا بما استطردت فيها بمدح مولانا المخدوم. ولو لم يرد علي من المقام الفلاني مقامة وكان خاطري مشتتا فحل منها بدار إقامة لما فتحت في وصفها دواة ولا فما ولا أجريت لسانا ولا قلما، لكن تعلمت منها علم البيان وسحبت أذيال التيه على سحبان. ولقد قلبت منها بردا محررا ووشيا مرقوما وعاينت الدر من لفظها منثورا ومن حظها منظوما. وكان لفظها أعذب القلوب من الغمام وسجعها أطيب في الأسماع من سجع الحمام. وكنت عزمت حالة وصولها على الاستمداد منها والاستعداد للإجابة عنها فرجعت أدراجي القهقري وقلت حبس البضاعة أولى من تخيير المشتري. فلما قرب أمد المزار وبرح الشوق حين دنت الديار من الديار رأيت ذلك تقصيرا في الخدمة وإخلالا وإن كان ذلك في الحقيقة تعظيما وإجلالا. فأجلت في ذلك خاطرا وجلا وصرفت إلى هذا الوجه وجها خجلا. وعلى أن المملوك لو رزق التوفيق لما جرى مع مولانا في هذه الطريق، ولم يزل المملوك ينشد قبل ورود ركابه الشريف: عسى وطن يدنو بهم ولعلما. فلما دنا الوطن جعلت أهم بشيء والليالي كأنما. والمملوك قد أصبح من جملة عبيد مولانا وخدمه ويرجو من صدقاته الشريفة أن لا يقطع عنه ما عوده من بره المشفوع بصلته العائدة. والمملوك يواصل خدمته مع أن سيدنا أدام الله تعالى له السعد قد علم ندب الشارع إلى مكاتبة العبد. وقد قصد أولا أن يرتفع بابتداء مكاتبته وثانيا بخبر مجاوبته. والله تعالى يحرس محاسنه التي هي في فم الدهر ابتسام ويديم مننه التي هي الأطواق والناس الحمام. تمت.
وكتب رسالة مع مداد وأهداها إلى جماعة من الكتاب في الأيام المعزية الأقدار: أطال الله بقاء الموالي السادة ولا زالت سماء الدولة محروسة بشهب أقلامهم، ومواسم السعادة مختالة بشريف أيامهم ونحور العلياء متزينة بتنضيد نظامهم ورياض البلاغة معلمة الأطراف والبرود بما تحوكه غمائمهم، إذا غدت رفيعة الهضاب وأضحت في أعلى سمك السماك مضروبة القباب، وأحنى منال الشمس دون منالها وعظم توهم إدراكها حتى أمست ولا الحلم يجود بها ولا بمثالها. استحقر في جانب شرفها كل جليل واستدر بجودها كل شيء جزيل واستقلت الرياض أن تهدي إلى جنابها زهرا، والسحائب أن ترسل إلى بحرها قطرا، والفلك الدائر أن يخدمها بنجومه والشذا العاطرأن يكاثر عرف أوصافها بنسيمه، والنهارأن يمنح أيامها رقة أصائله وبكره، والليل أن يقدم بين يدي مساعيها حمد مسراه ونسمة سحره، والبدر أن يلبس حلة السرار ويكسوها حلل تمامه والجفن الساهر أن يصبر على مفارقة الطيف ويحبوها لذيذ منامه، واستحى كل فوقف موقف الإجلال وانتهى من التبجيل إلى حد كاد يبلغ به الإخلال، إلى أن تعارضت أدلة الرسائل وتزاحمت الغربان على ورود تلك المناهل، فقلب المملوك وجهه في سماء سماتها وأسام فكره في أريض روضاتها قائلا للجوهر الفاخر أنت قريب العهد من تلك البحار وللنضار أنت بعض هاتيك النسمات، وللعبير لا تقل أنا ضائع نعم عند شذا تلك النفحات، وللنظم والنثر أنتما جنى غصون تلك الأقلام وللحمد والشكر أنتما كمام ذلك الفضل والإنعام، فحار كل جوابا وغدا لا يملك خطابا، وأبى مشاكلة تلك الفضائل واستسقى سحائب تلك البلاغة التي إذا قالت لم تترك مقالا لقائل، والإصغاء إلى أوصافها والتسليف على سلافها فشغف بها حبا وصار بمحاسنها صبا ودعاه إليها جمالها البديع وأغراه بحسنها الذي لها منه أكرم شفيع:
فسام وصالها فأعرض ونأى بجانبه ورام قربها فسد عليه الإجلال أبواب مطالعه ومطالبه قائلا لست يا ابن السبيل من هذا القبيل:
فتعلل بأحاديث المنى وقال: زور الزيادة وبالرغم مني! فقالت: القناعة غنى! ومن لم يجد ماء طهورا تيمما. ثم ثبت إلى عطف أوصافها الجميلة وقالت قد رأيت لك مزيد قصدك وإلا أنا بالطيف على غيرك بخيلة، فشكرت لها ذلك الإنعام وقلت أيكون ذلك نهارا أو ليلا هذا على تقدير وجود المنام! فقالت: أوليس الليل هو حلة البدر الأكلف أم النهار ولا يأنف على شمسه أن ما بناه ضربه بمرماه الصائب بل نبغ. وهذا نسيم الروضة التي أطاعها عاصيها وثمر الجنة التي كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فيها، وهذه البلاغة التي كنت بالإتحاف بها موعودا وهذه الفواضل والفضائل التي حققت أن في الناس مجدودا ومحدودا ومسعودا ومبعودا. ولمحه المملوك فقال: هذا نور أم نور وهذا ما ينسب إلى ما يستخرج من أصداف البحور ويجعل في أطواق أعناق النحور من الحور. ولم ير أحلى من تشبيهه وإن جل عن التشبيه ولا أحلى من بلاغته البالغة بما فيه من فيه، ولما شاهد من معجزها ما بهر حمد وشكر ورام مجادلتها فعجز عنها جواد القلم فقصر وعثر وسولت له نفسه الإضراب عن الإحالة في الإجابة ولو وفق لرأيه لأصابه، وإنما حداه إلى التعرض لنداه يحققه بأنه لم يكن في بيته الكريم إلا من هو بهذه المثابة في الإثابة ومن يتلقى راية رأيه الصائب بيمن يمينه خيرا من عرابة. قال مسافر بن سيار: ولما سللت عضب هذا المقال من غمده وتمتعت من شميم عرار نجده وأتم لي عشرا وعشرا من عنده، قلت: بماذا أجازي هذه المحنة وأكافي هذه المنة التي تشح بمثلها القرائح السمحة؟ فقيل لي: بشكر من هو قادح زناد هذه القريحة وفاتح جواد هذه الطرق المفضية الفسيحة:
ثم خفت أن أقصر وإن اجتهدت وأن أحل الحبا وإن شددت وربحت في يومي من الخجل ما لعله يكون لغدي. ثم خطر أن أقول معميا ولا أصرح مسميا لأكون من سهام التأويلات الراشقة متوقيا، فأخفيت من معرفتي ما ظهر وقلت إذا كان المبتدا معرفة فلا يضر تنكير الخير. وسألت ولدي المساعدة والمساعفة فقال: لا يضر اشتراكي أنا وأنت في هذا القصر وقد تسميت بمسافر فاجمع إلى جوابك الجواب مقتصرا على ذلك فالمسافر جائز له الجمع والقصر. فأجابه عنها بقوله: لما ظعن والدي وقطنت وتحرك للرحلة وسكنت قلقت لبعده وأرقت من بعده ووجدت غاية الألم عند فقده فبقيت لا ألتذ بطعام ولا شراب ولا آوي إلى أهل ولا أصحاب ولا أتخذ مكانا في الأرض إلا ظهر سابح ولا جليسا إلا كتاب. أعالج لواعج الأشواق وأبوح لما أجد من الفراق وأنوح للورقاء حتى تغدو مشقوقة الأطواق. وحين طالت شقة البين ولم تتفصل وتهلهلت خيوط الدموع تتقطع تارة وتتوصل:
عقرت سوائم الآمال بعقر داري ولزمت كسر بيتي بانكساري، يتزايد شوقي ويتناقص صبري وتتسع همومي فيضيق لها صدري، فبقيت على ذلك من الزمن برهة لا أدخل في لذة ولا أخرج في نزهة إلى أن شامت بوارق البيارق الشريفة عيون الشام فتوجه لخدمتها المخدوم واثقا بأن قد هزمت الأحزاب وغلبت الروم، لكن الجزم يوجب للقلوب أن تكون هذه الدنيا خائفة والعزم يقتضي أن توجد راجية وأن يتحقق أن فرقه لم يفارق الإسلام والركاب الشريف هي الناجية. وكنت بتلك المدة أستريح من الغموم إلى النبت العميم وأسائل من ألقاه من الوفود حتى وفد النسيم. فخطر لي في بعض الأيام أن أكر بطرف طرفي في ميادين الفضا وأن أجرد سيف عزمي لقطع مواصلة الهموم فإنه معروف بالمضا. فخرجت أجيله في مساري الغمام وهو يتمطر وأميله عن محال الوعول ومجاري السيول وهو لطول الجمام يتقطر. وكان فيما يجاور المدينة من الحيط والغيط جبل يسمى بالخيط يشاكل خيط الصبح في امتداده ويماثل جناح الجنح بكثرة ظلال نجمه وشجره وسواده، قد شمخ بأنفه على وجه الأرض ورفع رأسه فشق السماء بالطول وشق الأرض بالعرض. قام الدوح على رأسه وهو جالس وتبسم البلج في وجهه وهو عابس:
يمسح بكلف الثريا عن أعطافه ويدير منطقة الجوزاء على أرادفه. فعزمت على أن أستظل بذروته وأستظل من ذروته، فدعوت جماعة من أصحابي كنت في السفر أرافقهم وفي الحضر ألازمهم فقلما أفارقهم، وقد انتظموا في المودة انتظام الدر في الأسلاك واتسقوا في الصحبة اتساق الدراري في الأفلاك:
 يتجارون إلى الفضائل كتباري الجياد ويهتزون إلى الفضائل اهتزاز الصعاد، قد تجنبوا المشاققة والمحاققة والتزموا بشروط الموافقة في المرافقة، فذكرت لهم ما خطر لي من العزم فكلهم أشار بأن الحزم في الجزم، فسرنا والشمس قد رفع حجاب الظلام عنها وقد تراءت لنا تحت غمامة بدا جانب منها. وكنا في فصل الربيع الذي قد رق حسنا وراق شبابا وشاب عارضه بالزهر على صبى فجعل له الظل خضابا، قد اكتست أرضه وأشجاره، واستوت في الطيب هواجره وأسحاره:
فلم نزل نمر مر السحاب ونقف للتنزه وقوف السراب حتى أشرفنا على واد لا يعرف قعره ولا يسلك وعره، قد نزل عن سمت الأودية والبقاع وأخذ في الانحطاط نظير ما أخذ جبله في الارتفاع وقد استدار بالجبل وأحدق وأضحى لعالي سوره كالخندق، لا يسلكه إلا ملك أو شيطان ولا يصل إلى قرارته ولا منها إلا بأمراس ومراس أشطان:
وعندما أشرفنا عليه حمدنا التأويب لا السرى ورأينا ما لم ير بشعب بوان ولا وادي القرى، فأجمعنا على النزول إلى قراره والمبيت بمخيم أشجاره، فتحدرنا إلي تحدر السيل ونزلنا إلى بطون شعابه على ظهور الخيل، ولم نزل تارة نهوي هوي القشاعم وننساب آونة انسياب الأراقم إلى أن انقطعت أنفاسنا وأنفاس الهوا واحتجب عنا عين الشمس وكاد يحتجب وجه السما. ولما بلغنا منتهاه بطريق غير مسلوك ونزلنا كما يقول العامة إلى السيدوك إذا هو واد يذهل لحسنه الجنان وكأنما هو في الدنيا أنموذج الجنان، وقد امتدت سماؤه غصونا عندما هب الهواء وفجرت أرضه عيونا فالتقى الماء:
ولما طلع الصباح علينا طلعنا ودعا داعي السرور فسمعنا وأطعنا، وتعلقنا بذيل الجبل وشققنا فروج المساهب وعلونا عاتقه حتى كدنا نلمس عليه عقود الكواكب، ولما طرنا إليه طيران البزاة إلى الأوكار وصعدنا عليه صعود السراة على الأكوار تكشف للعين وتكسف، فقلت لها مجاوبا ومنصف:
فقالت: إذا جنحت شمسي للمغيب فإياك، يرى طيفي من النجوم رقيب أو يشوب شباب ذلك الليل من أضوائها مشيب، وعليك بسواد الجفون فكون منه ليلا وسويداء القلوب فأسدل منه ذيلا، وانتظار زيارة الطيف ولا تجعل غير روحك قرى ذلك الضيف، فأبت إلى فهمي وراجعني حلمي، وأهديت إليها ليلا من المداد أستزير في جنحه طيف خبالها وأستطلع في غسقه بدر كمالها، وجعلته كخافيه الغراب وكشعار الشعر أيام الشباب:
تعذو جفون الأقلام كحلية بإثمده ووجوه السؤدد مبيضة بأسوده:
وقد خدم به آملا أن يستنشق لعبيره نشراعطرا ويرى لليله من الفضائل صبحا مسفرا، ويشاهد بدر الفضائل كيف يرق في حلله والبلاغة كيف تغدو من تخييله وخوله فحينئذ ينشد:
والرأي أعلى في إجابه ما التمسه.
كتاب البشرى بالنيل لنائب السلطنة بحلب المحروسة. وسره بكل مبهجة وهنأه بكل مقدمة سرور تغدو للخصب والبركة منتجة وبكل نعمى لا تصبح لمنة السحائب محوجة وبكل رحمى لا تستبعد لأيامها الباردة ولا للياليها المثلجة. هذه المكاتبة تفهمه أن نعم الله وإن كانت متعددة ومنحه وإن غدت بالبركات متوددة، ومننه وإن أصبحت إلى القلوب متوددة، فإن أشملها وأكملها وأجملها وأفضلها وأجزلها وأنهلها وأتمها وأعمها وأضمها وألمها نعمة أجزلت المن والمنح وأنزلت في أبرك سفح المقطم أغزر سفح، وأتت بما أعجب الزراع ويعجل الهراع ويعجز البرق اللماع ويغل القطاع ويغل الإقطاع، وتنبعث أمواهه وأفواجه وتمد خطاها أمواهه وأمواجه، ويسبق وفد الريح من حيث ينبري ويغبط مريخه الأحمر القمر لأنه بيته السرطان، كما يغبط الحوت لأنه بين المشتري، ويأتي عجبه في الغد بأكثر من اليوم وفي اليوم بأكثر من الأمس. وتركت الطريق مجدا كان ظهر بوجهه حمرة فهي ما يعرض للمسافر من حر الشمس، ولو لم تكن شقته طويلة لما قيست بالذراع ولو لا أن مقياسه أشرف البقاع لما اعتبر ما تأخر ممل ما حوله الماضي بقاع، بينا يكون في الباب إذ هو في الطاق وبينا يكون في الاحتراق إذا هو في الاختراق للإغراق، وبينا يكون في المجاري إذا هو في السواري، وبينا يكون في الحباب إذ هو في الجبال، وبينا يقال لزيادته هذه الأمواه إذا يقال لغلاتها هذه الأموال، وبينا يكون ماء إذ أصبح خيرا، وبينا يكسب تجارة قد أكسب تجربة، وبينا يفيد غزاة قد أفاد عزاء. جسور على الجسور جيشه الكرار ولو أمست التراع منه تراع والبحار منه تحار. كم حسنت مقطعاته على مر الجديدين، وكم أعانت ميزاب مقياسه على الغزو من بلاد سيس على العمودين، أتم الله لطفه في الإتيان به على التدرج، وإجرائه بالرحمة التي تقضي للعيون بالتفرج وللقلوب بالتفريج فأقبل جيشه بمواكبه وجاء يطاعن الجدب بالصواري من مراكبه، وتصافف لحاجة الجسور في بيد الحجة ويثاقف القحط بالتراس من بركه والسيوف من خلجه. ولما تكامل إيابه وضح في ديوان الفلاح والفلاحة حسابه، وأظهر ما عنده من خسائر التيسير وودائعه، ولقط عموده جمل ذلك على أصابعه. وكانت الستة عشر ذراعا تسمى ماء السلطان. نزلنا وحصرنا مجلس الوفاء المعقود واستوفينا شكر الله تعالى بفيض ماهو من زيادته محسوب ومن صدقاتنا مخرج ومن القحط مردود، ووقع تياره بين أيدينا سطورا تفوق وعلمت يدنا الشريفة بالخلوق، وحمدنا السير كما حمدنا السرى وصرفناه في القرى للقرى، ولم نحضره في العام الماضي فعلمنا له من الشكر شكرانا، وعمل هو ما جرى وحضرنا الخليج إذا به أمم قد تلقونا بالدعاء المجاب وقرظونا، فأمرنا ماءه أن يحثو من سده - كما ورد - في وجوه المادحين التراب، ومر يبدي المسار ويعيدها ويزور منازل القاهرة ويعودها، وإذا سئل عن أرض الطبالة قال: جننا بليلى، وعن خلجها: " وهي جنت بغيرنا " وعن بركة الفيل قال: "وأخرى بنا مجنونة لا نريدها "! وما برح حتى تعوض عن القيعان البقيعة من المراكب بالسرر المرفوعة ومن الأراضي المحروثة من جوانب الأدؤر بالزرابي المبثوثة، وانقضى هذا اليوم عن سرور لمثله فليحمد الحامدون، وأصبحت مصر جنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وأهلها في ظل الأمن خالدون، فيأخذ حظه من هذه البشرى التي ما كتبنا بها حتى كتبت بها الرياح إلى نهر المجرة إلى البحر المحيط، ونطقت بها رحمة الله تعالى إلى مجاوري بيت الله تعالى من لابسي التقوى ونازعي المخيط، وبشرت بها مطايا المسير الذي يسير من قوص غير منقوص، ويتشارك في الابتهاج بها العالم فلا مصر دون مصر بها مخصوص. والله تعالى يجعل الأولياء في دولتنا يبتهجون لكل أمر جليل وجيران الفرات يفرحون بجيران النيل.
وكتب القاضي محيي الدين يستدعي بعض أصحابه إلى الحمام: هل لك أطال الله بقاك إطالة تكرع في منهل النعيم، وتتملى بالسعادة تملي الزهر بالوسمي والنظر بالحسن والوسيم في المشاركة في جمع بين جنة ونار وأنواء وأنوار، وزهر وأزهار، قد زال فيه الاحتشام فكل عار ولا عار. نجوم سمائه لا يعتريها أفول، وناجم رخامه لا يعتريه ذبول، تنافست العناصر على خدمة الحال به تنافسا أحسن كل فيه التوسل إلى بلوغ أربه، فأرسل البحر ما جسده جسده من زبده لتقبيل أخمصه إذ قصرت همته عن تقبيل يده. ولم ير التراب له في هذه الخدمة مدخلا، فتطفل وجاء وما علم أن التسريح لمن جاء متطفلا، والنار رأت أنه عين مباشرتها وأنها بفرض خدمته لا تخل ولأن لها حرمة هداية الضيف في السرى، وبها دفع القر ونفع القرى، فأعملت ضدها الماء فدخل وهو حر الأنفاس، وغلت مراجله فلأجل ذلك داخله من صوت تسكابه الوسواس، ورأى الهواء أنه قصر عن مطاولة هذه المبار، فأمسك متهيبا ينظر ولكن من خلف زجاجة إلى تلك الدار. ثم إن الأشجار رأت أنها لا شائبة لها في هذه الخطوة، ولا مساهمة في تلك الخلوة، فأرسلت من الأمشاط أكفا أحسنت بما تدعو إليه الفرق، ومرت على سواد العذار الفاحم كما يمر البرق، وذلك بيد قيم قيم بحقوق الخدمة، عارف بما يعامل به أهل النعيم أهل النعمة، خفيف اليد مع الأمانة، موصوف بالمهارة عند أهل تلك المهانة، لطف أخلاقا حتى كأنها عتاب بين جحظة والزمان، وحسن صنعه فلا يمسك يدا إلا بمعروف ولا يسرح تسريحا إلا بإحسان. أبدا يرى من طهارته وهو ذو صلف، ويشاهد مزيلا لكل أذى حتى لو خدم البدر لأزال من وجهه الكلف، بيده موسى كأنها صباح ينسخ ظلاما، أو نسيم ينفض عن الزهر كماما، إذا أخذ صابونه أوهم من يخدمه بما يمره على جسده أنه بحر عجاج، وأنه يبدو منها زبد الأعكان التي هي أحسن من الأمواج، فلهم إلى هذه اللذة، ولا تعد الحمام أنها دعوة أهل الحراف فربما كانت هذه من بين تلك الدعوات فذة. ولعل سيدنا يشاهد ما لا يحسن وصفه قلمي، وأستحسن وصفه ليدي وفمي وإذ جمح عناني فأقول، وإذا ترامت بي الخلاعة أخلع ما يتستر به ذوو العقول. لدي - أبهجك الله - غصون قد هزها الحسن طربا، ورماح لغير كفاح قد نشرت الشعور عذبا، وبدور أسدلت من الذوائب غيهبا. قد جعلت بين الخصور والروادف من المآزر برزخا لا يبغيان، وعلمنا بهم أننا في جنة "تجري من تحتها الأنهار" وتطوف علينا بها الولدان. يكاد الماء إذا مر على أجسادهم يجرحها بمره، والقلب يخرج إلى مباشرتها من الصدر وعجيب من مباشر لأمر لا يلتقيه بصدره، إذا أسدل ذوائبه ترى ماء عليه ظل يرف، وجوهرا من تحت عنبر يشف، يطلب كل منهم السلام وكان الواجب طلب السلامة. وكيف لا وقد غدا كل منهم أمير حسن وشعره المنثور وخاله العلامة، إذا قلب بأصفر الصفر ماء على الحضار، قلت هذا بدر بيده نجم تقسم منه أشعة الأنوار، وإن أخذ غسولا وأمره على جسمه مفركا، لم يبق عضو إلا واكتسب منه لطافة وراح مدلكا، فما عذرك في انتهار الفرص، واقتناص هذه الشوارد التي يجب على مثلك أن يغدو لها وقد اقتنص. والله تعالى يوالي إليك المسار ويجعلها لديك دائمة الاستقرار بمنه وكرمه.
وأما شعره فأحسنه المقاطيع وأما القصائد فربما قصر فيها. ومن ذلك ما نقلته من خطه من كتاب فلتة اليراعة ولفتة البراعة، قال في دواة منزلة:
وقال:
وقال:
وقال في مليح مشطوب:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال من أبيات:
وقال:
وقال:
وقال:
وكتب إلى ولده بحماه:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال: يذم قريته القطيفة:
وقال:
وقال:
وقال من أبيات:
منها:

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 17- ص: 0